کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج6، ص: 3257
و قد بين جزاء الأعلياء المفضلين من بعد، و بين هنا ضلال المشركين، فقال تعالى: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و الظالمون هم المشركون، و قد سمى اللّه الشرك ظلم، لأن المشرك ظلم الحق فعبد أوثانا لا تضر، و ظلم العقل المدرك فطمسه، و ظلم نفسه فتردى بها فى مهاوى الضلال، و طمس الحق، و إن اللّه لا يهدى الذين أركسوا أنفسهم فى هذا، لأنهم لم يسلكوا نجد الحق و العقل و الإدراك السليم.
و هنا إشارة بيانية، و هى أن سياق الآية فى ظاهره من غير تقدير جعل المناظرة بين سقاية الحاج و عمارة البيت الحرام و من آمن ..... و المعنى إيمان من آمن، و لكنه ذكر من آمن ... و ذلك لبيان الإيمان قائما فى أصحابه محسوسا مرئيا، لأنه تزكية ظاهرة، و دعوة عملية إليه كقوله تعالى: ... وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ... (177) [البقرة] إلى أخر آية البر.
و بعد أن بين اللّه تعالى أن الظالمين بسبب ما سلكوا يستمرون فى غيهم يعمهون، بين جزاء الهداة الذين جاهدوا بعد أن آمنوا و هاجروا.
هذا النص الكريم، هو الحكم الذى أصدره اللّه تعالى فى قضية الموازنة بين الإيمان و الجهاد و بين سقاية الحاج، و عمارة البيت، فقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ .
ذكرهم سبحانه و تعالى بأنهم أعظم درجة، و أفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنه إذا كان على بابه يكون مؤداه أن الذين اكتفوا بالسقاية و العمارة لهم درجة عظيمة عند اللّه، و إن لم تكن الدرجة الأعظم، إذ الحقيقة أنهم ما داموا على الشرك ليست لهم عند اللّه أية درجة، بل إنهم فى الحضيض الأوهد، و لا درجة لهم عند اللّه قط، و إذا كان أفعل التفضيل ليس على بابه، فمعناه أنهم عند اللّه فى درجة عظيمة، لا تطاولها درجة، و عبر بأفعل التفضيل لما كان من مقابلة لفظية.
زهرة التفاسير، ج6، ص: 3258
و هذه الدرجة العظيمة التى لا تفضل عنها درجة قط؛ لأنهم كانوا فى أوصاف عالية تجعلهم رجال اللّه و رجال الحق- أولها- أنهم آمنوا، و الإيمان فى وسط الشرك الغامر و الوثنية الغالبة فيه جهاد النفس، و مغالبة الباطل، و نور العقل، و مقاومة الجاهلية و عصبيتها، و طغيانها، و شرورها و آثامها، و مع هذا كله تكون رفعة الدرجة، إذ بمقدار تلك المغالبة النفسية يكون علو الدرجة.
و الوصف الثانى- أنهم هاجروا، إذ إن ذلك الوصف يتضمن نداء الإيمان بالرضا بترك الأهل و صرم القرابة و الدعة و الراحة، و تحمل الأذى، و الخروج بالإيمان نقيا طاهرا من أرجاس الجاهلية و عصبيتها، و الخروج من جو الجاهلية المعتكر بالعصبية و الضلال إلى جو النور و الإيمان.
و الوصف الثالث- أنهم جاهدوا فى سبيل اللّه، أى طريق اللّه الحق بأموالهم و أنفسهم، فلم يكن إيمانهم سلبيا بل كان إيمانا إيجابيا، آمنوا بالحق، وضحوا فى سبيله بالأهل و الولد، ثم دعوا إليه محاربين الباطل، جاهدوا أنفسهم أولا بتخليصها من أدران الشرك و أوهامه، و صابروا على الأذى بعد أن صبروا عليه و قدموا أموالهم مجاهدين، و أنفسهم فى اشتجار السيوف و الرماح، و استجابوا لقول الرسول صلى اللّه تعالى عليه و سلم: «جاهدوا المشركين بأنفسكم و أموالكم و ألسنتكم» «1» .
و قد حكم اللّه تعالى لهم فقال: وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ الإشارة إلى أوصافهم، و فيه دلالة على أن هذه الأوصاف هى سبب ذلك الفوز، و قد بين سبحانه أنهم المختصون بالفوز دون غيرهم؛ لأن تعريف الطرفين و ضمير الفصل دلّا على أنهم المختصون بالفوز، و لا فائز إلا من عمل عملهم، و حمل أوصافهم، فهم رجال اللّه تعالى حقا، و قد بين اللّه تعالى جزاءهم فى الآخرة فقال تعالت كلماته:
(1) سبق تخريجه.
زهرة التفاسير، ج6، ص: 3259
البشرى: الخبر السار، و لا تطلق على غيره إلا تهكما، كقوله تعالى:
... وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3). و قوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ بيان للفوز الذى حكم به سبحانه و هو أعدل الحاكمين، و البشرى تتضمن الرحمة، و الرضوان من اللّه تعالى، و قد نكرا و هما مضافان إلى رب هذا الوجود للدلالة على الفخامة و العظمة، فهى لا يدرك كنهها و لا تحد حدودها، و هى من اللّه تعالى واسع الرحمة الذى وسعت رحمته كل شىء، و الرضوان من اللّه و هو أعظم من كل ثواب مادى، و لذلك قال سبحانه و تعالى: ... وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ... (72) أى أنه أكبر من كل نعيم؛ لأنه الرضا من اللّه تعالى، و هو نعمة لا يشعر بها إلا من يحس بعظمة اللّه و جلاله، و يفنى فى ذاته العلية، حتى إن الصوفية ليقسمون العبادة إلى ثلاث مراتب، المرتبة الدنيا: مرتبة من يعبد اللّه اتقاء عذابه، و الثانية: من يعبد اللّه رجاء ثوابه، و العليا: من يعبد اللّه رجاء رضاه.
وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ، و هى غير الرحمة؛ لأن الرحمة ضد الشقاء، و هى وحدها نعمة؛ لأن الخروج من الضلال إلى الهدى و الشعور بالحق و أنه اهتدى إليه و خرج من الضلال إلى نور الهداية هو وحده رحمة و نعمة، فأول جزاء للمؤمن من يأخذه من الإيمان نفسه، فيشعر باستقرار لا اضطراب فيه.
و بعد هذا الشعور و الإحساس برضا اللّه تعالى تكون الجنات التى تجرى من تحتها الأنهار، و يكون للذين يدخلونها من أهل الحق و الإيمان نعيم مقيم، أى ثابت دائم.
و قد أكد سبحانه ثوابه بقوله تعالى:
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) الخلود نعمة فوق نعمة الجنة ذاتها، فإن الإحساس بدوام النعمة نعمة، و ليس فى مقابل الدنيا الفانية، و أكد اللّه سبحانه و تعالى خلود الجنة و دوام نعيمها
زهرة التفاسير، ج6، ص: 3260
بقوله تعالى: أَبَداً فهى دائمة لا بقدر الدنيا، كما توهم بعض الذين لا يدركون حقائق نعم اللّه، إنما هى باقية أبدا ما شاء اللّه تعالى أن تبقى.
و قد بين اللّه تعالى بعد ذلك أن عند اللّه تعالى ما هو أكبر من ذلك، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ و العبادة تحتمل أن عند اللّه جزاء آخر غير ما ذكر و تحتمل أن اللّه تعالى يبين أن ذلك أجر عظيم، و قد نكر أجر للدلالة على أنه أجر لا يحيط به عقل أهل الدنيا، و لذلك نرجح الاحتمال الأول و هو أن وراء الجنة و خلودها، و نعيمها أجرا أعظم من ذلك، مثل هذا تجليات اللّه على عباده يوم القيامة. إنه هو العزيز الرحيم.
اللّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم و آبائهم و أبنائهم
قال تعالى:
[سورة التوبة (9): الآيات 23 الى 24]
زهرة التفاسير، ج6، ص: 3261
كان المؤمنون فى أول الإسلام قلة، و لا يكون للقلة قوة إلا إذا تضامت و توالت، و جعلت الولاية لأنفسهم دون غيرهم، و لذلك كانت الهجرة واجبة حتى تتجمع قوة الحق و تتآزر و تكون لها ولاية مستقلة عن ولاية أهل الشرك و مناصرتهم، و الولاية هى النصرة و السلطان و أن تكون الموالاة لدولة مسلمة.
روى الزمخشرى، عن ابن عباس أنه كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر، و يصارم أقاربه الكفرة، و يقطع موالاتهم، فقالوا: يا رسول اللّه، إن نحن اعتزلنا من خالفنا قطعنا آباءنا و أبناءنا و عشائرنا، و ذهبت تجارتنا، و هلكت أموالنا، و خربت ديارنا، و لقينا ضائقة. فنزلت الآية. و إن صحت هذه الرواية فإن الآية يكون المخاطب بها الذين آمنوا أولا ثم هاجروا، و لكن مع ذلك فحكم الآية عام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، و لقد قال اللّه تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) [آل عمران]، و لقد قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ... (51) [المائدة] اللهم إنا برآء ممن جعل نصرته عندهم، فإنه منهم.
و لقد روى أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب فى اللّه و يبغض فى اللّه، حتى يحب فى اللّه أبعد الناس، و يبغض فى اللّه أقرب الناس إليه» «1» .
(1) ذكره أبو السعود فى تفسيره: ج 4، ص 54، و الزمخشرى فى الكشاف: ج 2، ص 181، برقم (453).
زهرة التفاسير، ج6، ص: 3262
و فى الآية الكريمة إشارات بيانية بليغة:
الأولى: قد اقتصر اللّه تعالى فى الآية على الآباء و الإخوان، و لم يذكر الأبناء، لأن الآباء و الإخوة تكون منهم النصرة، و الاعتزاز، أما الأبناء فإنهم تبع لآبائهم؛ و لأنه لا تأثير للابناء على آبائهم، و لأنه يندر من كان يسلم، و أبناؤه مستمرون على الكفر؛ لأن تأثير الآباء على الأبناء يمنع من أن يتغذوا بلبان الشرك، و من النادر إيمان أبى بكر، و بعض ولده مشرك حتى اشترك فى غزوة بدر مع المشركين.
الثانية- فى قوله تعالى: إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ هذا شرط لمنع الولاية عنهم و الانتصار بهم، و نصرتهم و اسْتَحَبُّوا معناها أحبوا بشدة و تعصب؛ لأن السين و التاء للطلب، أى طلبوا محبة الكفر حتى أحبوه، فكانوا مبالغين فى الكفر متعنتين فى عداوة المؤمنين، فمن والاهم فقد والى أعداءه الكافرين.
الثالثة- أن اللّه تعالى حكم بالظلم على من يتولاهم فى قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (من) شرطية، و هى اسم، و التولى جعلهم أولياء له و نصراء، و قال تعالى: مِنْكُمْ للإشارة إلى أنه ترك ولاية الحق إلى الباطل، لأن منكم تدل على أن الأصل هو ولايتهم لكم، و قوله تعالى:
فَأُولئِكَ ، الإشارة إلى انفصالهم عنكم، و حكم عليهم سبحانه بالظلم و قصره عليهم؛ و ذلك لأنهم ظلموا أنفسهم بترك أوليائهم الحقيقيين كما قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ... (55) [المائدة] فتركوا ولاية اللّه و إخوانهم المؤمنين، فكانوا ظالمين إذ استنصروا بمن لا ينصرونهم، و ليس فى قدرتهم أن ينصروهم من دون اللّه، و لأن موالاة الشرك شرك ... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) [لقمان].
إن الجهاد تجرد للّه تعالى، و صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذ جعل المجاهد كالراهب متجردا من أهله و ماله، و سكنه و تجارته، فقال عليه الصلاة و السلام: «لكل أمة
زهرة التفاسير، ج6، ص: 3263
رهبانية، و رهبانية أمتى فى الجهاد» «1» و إنه، كقوله تعالى:
الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم آمرا أمته بالجهاد محرضا على التجرد له، و الانقطاع له، لا يشغله قلبه إلا أن ينتصر للّه و رسوله و يعتز بأهل الإيمان إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ و العشيرة هى الجماعة المتناصرة المتوالية، و هم الأقربون، و من يدانونهم، وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أى اكتسبتموها مقتطعين لها؛ لأن الاقتراف معناه الاقتطاع وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ، أى ثمينة لها أوقات تخشون ألا تروج فى وقتها، وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها ، أى ترضون مناخها، و حدائق ترعونها، أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ، أى تؤثرون المعيشة الرافهة الفاكهة عن طاعة اللّه و رسوله وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فى سبيل اللّه تنالون به العزة، و تبعدون به الذلة فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أى ترقبوا، حتى تنزل المذلة إن استرخيتم تحت ظل النعيم، و عند الاسترخاء و الاستنامة للراحة يكون القعود عن الجهاد، و لقد توقع خليفة رسول اللّه ذلك، إذ قال رضى اللّه عنه:
«لتألمن على الصوف الأزربى كما يتألم أحدكم من النوم على حسك السّعدان»، و لقد كان ذلك عند ما وجدوا الدمقس و الحرير، و جلسوا على عرش كسرى، و جاءتهم غنائم من الأندلس و الصين، عندئذ كان الترفه و التنعم، و الارتماء فى أحضان القيان، و كثرت الأغانى، ورق الذوق، و حين كان ذلك لا تكون عزيمة، و لقد قال الزمخشرى فى ذلك: هذه آية شديدة و هى قوله: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة لهذا الدين، و اضطراب حال اليقين، فلينصف أورع الناس و أتقاهم من نفسه هل يجد عنده من التصلب فى ذات اللّه و الثبات على دين اللّه ما يستحب له دينه على الآباء و الأبناء و الإخوان و العشائر و المال و المساكن و جميع حظوظ الدنيا، و يتجرد منها لأجله أم يزوى اللّه