کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3371
أفئدتهم له سبحانه، فهم مرتبطون برباط معنوى لا ينفصم، و ما تربطه المادة يقبل التحطيم أو القطع، و ما يربطه الولاء و المودة لا تنفصم عراه؛ لأنه مربوط بالعروة الوثقى لا انفصام لها، فهى رباط المؤمنين الذين يستمسكون به.
و قد وصف اللّه تعالى المؤمنين بصفات توثق الإيمان و تقويه.
و أول وصف هو الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر.
و ثانى وصف هو ما ذكره اللّه سبحانه و تعالى بقوله: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أى يؤدونها مقومة مستقيمة بخشوع و خضوع، و حضور لجلال اللّه تعالى فى أداء أركانها من قيام و ركوع و سجود، لا أن ينقروا نقرا، و هى الصلاة التى تنهى عن الفحشاء و المنكر، و يتحقق فيها قوله تعالى: ... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) [العنكبوت].
و ثالث الأوصاف هو فى قوله تعالى: وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ و الزكاة هى المعاونة الاجتماعية التى يتعاون فيها الناس، فالغنى يعين الفقير، كما يعين القوى الضعيف، و هى الماعون الذى ذكره سبحانه و تعالى فى قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) [الماعون]، فالزكاة هى المعاونة التى فرضها اللّه على الأغنياء للفقراء، يعتقدها المؤمن مغنما و لا يحسبها مغرما.
و الوصف الرابع ذكره سبحانه بقوله تعالت كلماته: وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أى طاعة غير متململين فيها بتكليف، و لا مظهرين الطاعة و مضمرين العصيان، يطيعون بقلوبهم و جوارحهم، و ينفذون أوامر اللّه تعالى فى كل شئونهم، و شئون الجماعة المؤمنة، و على رأسها الجهاد.
إذا كان المؤمنون يقومون بهذه الواجبات، و يتصفون بهذه الصفات فقد حكم اللّه تعالى لهم بقوله تعالت كلماته:
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3372
أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ الإشارة إلى الصفات التى اتصفوا بها من أنهم أولياء يناصرون بعضهم بعضا، و أنهم يطهرون نفوسهم بالصلاة، و جماعتهم بالزكاة، و يتواصلون بالمودة، و يحمون أنفسهم بالجهاد فى سبيل اللّه تعالى، و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، و بسبب هذه الأوصاف يرحمهم اللّه تعالى، فيتآزرون و يجتمعون و يتحابون، و أى رحمة أعلى من ذلك، و السين- هنا و فى كل مكان تذكر فيه فى القرآن- للدلالة على تأكيد الوقوع.
و قد قال فى ذلك الزمخشرى: السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهى تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد، كما فى قولك: سأنتقم منك يوما- تعنى أنك لا تفوتنى، و إن تباطأ ذلك، و نحوه ... سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) [مريم]، وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) [الضحى]، ... سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ... (152) [النساء].
فالسين و سوف، يدلان على وقوع الفعل فى المستقبل القريب و البعيد، و يؤكدان وقوعه، كما أشرنا إلى ذلك فى مقام ذكرهما فيما مضى من كلامنا فى معانى القرآن العظيم.
و قد بين سبحانه و تعالى قدرته على تنفيذ وعده و وعيده فقال: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ العزيز هو القادر الغالب، مربى العزة فى النفوس و الجماعة، و الحكيم هو الذى يضع كل أمر فى موضعه.
و قد قدر اللّه أن عزة الجماعة تكون بترابطها و توادها، و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، و الجهاد، و الاستعداد له، و الإقبال عليه بنفوس راضية، و قلوب مؤمنة، و من تخلف عنه، فقد ذل بعد عزة، و تفرق بعد اجتماع، و اللّه ولى المؤمنين.
و إذا كان سبحانه قد ذكر وعيد المنافقين فإنه سبحانه يذكر وعد المؤمنين فيقول سبحانه:
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3373
وعد اللّه تعالى أن يعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، و كان الوعد هو ذات الجنات، لا إعدادها، و فى ذلك إشعار بأنها موجودة مهيأة قائمة ثابتة، ليس أمامهم إلا أن يدخلوها، و لذا لم يذكر دخولها، بل ذكر وجودها، و ذكر سبحانه أن الأنهار تجرى من تحتها، فقال سبحانه و تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ و جريان الأنهار يفيد ثلاثة أمور:
أولها: أن ساكنها يتمتع بمنظر بهيج، و ثانيها: أنها تجعل جوها لطيفا، لا قرّ و لا حرور، و ثالثها: أنها تمد جذور أشجارها بالماء الطيب الذى يجعلها وارفة الظلال لا يبس فيها، بل لها غصون خضراء تجعل المتعة كاملة.
و قال تعالى: وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ و المساكن الطيبة هى المساكن التى يستطيب نازلها الإقامة فيها، و هى ممهدة تمهيدا طيبا للإقامة، و قد روى أنها قصور من اللؤلؤ و الياقوت الأحمر، و الزبرجد، و روى أنها تكون لبنات من فضة و ذهب، و لا تعارض فى أن تكون كذلك، و لكن نقول إنها مساكن طيبة تطيب الإقامة فيها، و تستريح النفس و القلب بالإقامة، و عَدْنٍ قال الزمخشرى فيها:
إن جنات عدن التى وعد بها الرحمن، و يدل عليه ما رواه أبو الدرداء رضى اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «و عدن دار اللّه تعالى التى لم ترها عين، و لم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون و الصديقون و الشهداء، يقول اللّه تعالى:
طوبى لمن دخلك» «1» .
و إن هذه الآية، و هذه الآثار تدل على أن جنات عدن جزء من الجنة يكون فيها الأبرار، و الأطهار، هذا كله جزاء مادى، و هنا جزاء معنوى و هو رضوان اللّه تعالى، فقد قال عز من قائل: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ الرضوان هو الرضا
(1) جزء من حديث جاء فى كنز العمال: تفسير سورة الإسراء- ج 1، ص 324، برقم (4485).
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3374
العظيم، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، و إن الإحساس بالرضا من اللّه رب الخلق، و خالق الخلق سعادة لا تعدلها سعادة، و لقد قال فى ذلك الزمخشرى كلمة قيمة ننقلها. «و شىء من رضوان اللّه تعالى أكبر من ذلك كله؛ لأن رضاه تعالى هو سبب كل فوز و سعادة، و لأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه و كرامته، و الكرامة أكبر أصناف الثواب، و لأن العبد إذا علم أن مولاه راض كان ذلك أكبر فى نفسه مما وراءه من النعيم، و إنما تتهيأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته، تنغصت عليه، و لم يجد لها لذة، و إن عظمت، و سمعت بعض أولى الهمة البعيدة و النفس الحرة من مشايخنا يقول: لا تطمع عينى، و لا تنازع نفسى إلى شىء مما وعد اللّه فى دار الكرامة كما تطمع و تنازع إلى رضاه عنى، و أن أحشر فى زمرة المهديين» اه.
و نرى أنه يفهم من قول الزمخشرى أن قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أن معناه شىء من رضوان اللّه أكبر، أى أن أول شىء من رضوان اللّه تعالى أعظم من كل هذا النعيم.
و يقول سبحانه: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و الإشارة هنا إلى نعيم أهل الجنة، و تاجه رضوان اللّه تعالى، هو الفوز و الفلاح، و الحصول على أعظم جزاء، و يصح أن تكون الإشارة إلى رضوان أكبر؛ فإن ذلك الرضا العظيم جزاء لا يناهد، و العبارة تدل على القصر بتعريف الطرفين و ضمير الفصل هُوَ ، أى لا فوز غير هذا، و اللّه أعلم.
الجهاد ماض إلى يوم القيامة
قال تعالى:
[سورة التوبة (9): الآيات 73 الى 74]
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3375
بين اللّه تعالى حال المشركين، و ما هم عليه، و ذكر العذاب الذى يستقبلهم فى الدنيا و الآخرة، ثم بين حال المؤمنين، ثم يدعو سبحانه إلى استمرار المؤمنين فى الجهاد، غير وانين و لا مقصرين.
و الخطاب فى الآية للنبى صلى اللّه عليه و سلم، و للمؤمنين معه، و كان الخطاب للنبى ابتداء، لأنه القائد الأعلى، و لأنه الهادى و المرشد، و الموجه، جاهِدِ معناها ابذل الجهد فى دفع الكفار و المنافقين الذين يبطنون الكفر و يظهرون الإسلام بألسنتهم، و يقولون آمنا بأفواههم، و ما هم بمؤمنين، و لا شك أن بذل الجهد فى دفع الكفار و المنافقين يختلف، فالكفار الذين أعلنوا الكفر و فتنوا المسلمين يكون جهادهم دفعا بالسيف و القتال، و الكفار الذين لم يعلنوا الكفر و أبطنوه، و لم يفتنوا المسلمين بالإيذاء و التعذيب .. كان يفعل ذلك المشركون فى مكة و لكنهم يثيرون الفساد، و الدس و الفت فى عضد المؤمنين فدفعهم يكون بدفع أذاهم و شرهم، و مقاومة ما يبثونه فى المؤمنين من تضليل، و أن يبعدهم عنهم، و بطلان ما يدعون إليه، و إقامة الأدلة عليهم و منع تأثيرهم، و النبى صلى اللّه عليه و سلم يقول: «جاهدوا المشركين بأنفسكم و أموالكم و ألسنتكم»، و لا شك أن الجهاد باللسان له مقامه فى جهاد المشركين، و أشد ما يكون تأثيرا فى جهاد المنافقين.
و من جهاد المنافقين ألا يبش لهم، حتى يطمعوا فى خداعه، بل يشعرهم بأنه فى حذر منهم، و يقول ابن مسعود: يستنكر أفعالهم بيده، فإن لم يستطع فباكفهرار وجهه. و فى الجملة يسد عليهم باب خديعتهم، و قال الحسن البصرى:
إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود، و ذلك على أساس مذهبه من أن مرتكب الكبيرة
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3376
منافق، و يرى ابن جرير أن يكون جهادهم بالسيف إذا كشف نفاقهم، و أظهروا كفرهم، و يقول فى ذلك إنهم فى هذه الحال يخرجون من إسرار النفاق إلى الجهر بالكفر، فيدخلون فى عموم الكفار المظهرين الكفر.
و لقد روى عن علي كرم اللّه وجهه أنه قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين بينه اللّه تعالى بقوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ... (5) و سيف لكفار أهل الكتاب، و بينه سبحانه و تعالى بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (29)، و سيف للمنافقين بينه اللّه سبحانه بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ ، و سيف للبغاة، كما قال تعالى: ... فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ ... (9) [الحجرات].
و إنه قد روى أن الذى تولى سيف المنافقين هو الصديق خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فقد تكشف نفاقهم فى الردة التى وقعت عقب وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، إذ ارتد الأعراب الذين قال اللّه تعالى عنهم: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ ... (97).
و إنه لهذا قال ابن جرير بقتل المنافق و قد لاحظ وصف الظهور، كالذين ارتدوا فى عهد الصديق و قاتلهم عند ما أرادوا أن يؤدوا الصلاة، و لا يؤتوا الزكاة، فقال لهم رضى اللّه عنه: «سلم مخزية، أو حرب مجلية».
و قوله تعالى: وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ أى عاملهم بخشونة، و لا ترفق بهم فإن الرفق يكون بحملهم على الإيمان بالشدة عليهم حتى لا يمعنوا فى الكفر، و عسى أن تكون الشدة دافعة غرورهم مانعة طغواءهم، و هذا عذابهم فى الدنيا، و يكون بالهزيمة، و الخزى و الخسران.
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3377
أما جزاؤهم فى الآخرة، فقد ذكره سبحانه و تعالى: وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ و المعنى يسيرون إلى الآخرة حتى يجدوا المأوى الذى يؤويهم، و هو جهنم و فى هذا نوع من التهكم؛ لأن المأوى يأوى إليه الإنسان ليجد فيه المستقر و الراحة و الاطمئنان، فذكر المأوى فى هذا المقام تهكم عليهم كقوله تعالى: ... فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) [آل عمران].
ثم ذم اللّه تعالى هذا المأوى فقال: وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ الذى آووا إليه. اللهم قنا عذاب النار.
لقد قال صلى اللّه عليه و سلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، و إذا وعد أخلف، و إذا أؤتمن خان» «1» فقول الذين عاصروا النبى صلى اللّه عليه و سلم، كان أوضح أوصافهم الكذب و الحلف، و لذا قال تعالى:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ .
كان المنافقون ينالون بألسنتهم من النبى كثيرا، و لا يكفون ألسنتهم، و يقولون إذا أظهروا الإيمان، إنما نحن نستهزئ بهم، و كان اللّه يعلم نبيه بأحوالهم و أقوالهم، و كان النبى صلى اللّه عليه و سلم يعرفهم فى لحن أقوالهم، كما قال تعالى:
... وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ... (30) [محمد].
و كانت كلماتهم الفاسقة، تتساقط على مسامع بعض المؤمنين من غير أن يتنبهوا، روى أن النبى صلى اللّه عليه و سلم كان يخطب فقال رجل من المنافقين، و زيد بن أرقم بجواره، قال ذلك المنافق: (لئن كان هذا الرجل «أى الرسول» صادقا فنحن شر من الحمير، فقال زيد رضى اللّه عنه: فهو و اللّه صادق و لأنت شر من الحمار).
كان هذا القول و أشباهه يصل إلى مسامع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و ربما يجابههم بهذا الذى ينقل، عندئذ يجدون المطية التى اختاروها، و هى مطية كل كذاب مهين، و هى الحلف باللّه تعالى من غير أى حريجة.