کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3447
قباء فإذا الأنصار جلوس، فقال صلى اللّه عليه و سلم: «أمؤمنون أنتم» فسكت القوم ثم أعادها، فقال عمر: يا رسول اللّه إنهم لمؤمنون و أنا معهم، فقال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه و سلم: «أترضون بالقضاء» قالوا: نعم، قال صلى اللّه عليه و سلم: «أتصبرون على البلاء» قالوا: نعم قال صلى اللّه عليه و سلم: «أتشكرون فى الرخاء» قالوا: نعم، قال صلى اللّه تعالى عليه و سلم: «مؤمنون و رب الكعبة» فجلس، ثم قال: «يا معشر الأنصار فما الذى تصنعونه عند الوضوء و عند الغائط»، فقالوا: يا رسول اللّه نتبع الغائط بالأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار بالماء، فتلا قوله تعالى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ .
و يفهم من هذا أن الطهارة فسرت بالطهارة الحسية، و أرى أن الطهارة الحسية مفهومة بالبداهة، و هى تجىء اقتضاء للطهارة المعنوية و كلتاهما مقصودة، و تمم اللّه تعالى الموازنة بين مسجد الهدى و مسجد الضرار، بقوله:
(الفاء) فى قوله تعالى: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ ... هى لترتيب ما بعدها على ما قبلها أى أنه يترتب على ذكر الحقيقة المقررة الثابتة، و هى أن المسجد الذى أسس على التقوى أحق أن يقوم فيه مصليا اتّقى، و أن فيه رجالا يحبون أن يتطهروا، و قد رتب على هذا إنكار أن يكون فى مسجد الضرار خير أى خير، و قدمت (الهمزة) على (الفاء)؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما.
و الاستفهام للإنكار و التعجب من المقابلة بين مسجد التقوى و مسجد الضرار، و أسس: وضع أساسه، و التقوى أساس مجاز، و تأسيسه على التقوى مجاز، و المعنى أفمن أقيم بنيانه على باعث من التقوى و خوف اللّه تعالى و رجاء رضوانه، ففيه تشبيه التقوى فى نياتها، و طلب الرضا بالأساس المتين من البناء لقوة
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3448
التماسك، إن التقوى و طلب الرضوان أقوى و أثبت، و أبقى، إذ الحجر يتفتت، و تقوى اللّه و طلب رضوانه باقية بقاء اللّه العزيز الحكيم.
و قوله تعالى: أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ، فيه مجازان يثيران فى العقل أروع الفكر، لمن يتدبر قول اللّه تعالى، و يحاول أن يتعرف بعض أسرار الذكر الحكيم.
المجاز الأول شبه النيات الفاسدة لأهل النفاق، و البواعث التى بعثت إلى إنشاء مسجد الضراء بالجرف الهائر أى القائم على جرف من الرمل منهار لا يثبت أمام الزوابع فضلا عن معاول الإنسان من حيث إن سرائر المنافقين سرعان ما تنكشف أمام أقل صدمة يصدمون بها.
المجاز الثانى هو تشبيه الانهيار الذى ينته إليه المنافق و بنيانه بأنه ينهار فى نار جهنم، فلا ينهار فى ماء، و لا ينهار فى أرض لينة، إنما ينهار فى نار جهنم، و ذلك لأن الانهيار النفسى و الفكرى الذى ينهار فيه المنافق هو السبب فى استحقاقه نار جهنم، فهو مجاز علاقته السببية.
و قال تعالى فى عاقبة المنافقين الذين فسقوا عن أمر ربهم: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ صدر الجملة بلفظ الجلالة ترهيبا للفاسقين، و نفى أن يهديهم سبحانه؛ لأنهم سلكوا طريق الضلال و أوغلوا فيه، حتى إنهم لا يردون، و لا يهتدون سواء السبيل، و سماهم سبحانه و تعالى قوما؛ لأنهم تضافروا على النفاق، و وصفهم سبحانه و تعالى بالظلم، لأنهم ظلموا الحقائق، و ظلموا معاشريهم، و حقدوا عليهم لإيمانهم، ثم ظلموا أنفسهم أشد الظلم، لأنهم بنفاقهم ماتت نفوسهم، و ذهبت إرادتهم، و أصبحوا لا يؤمنون فى وجودهم بشىء من الأشياء و أشركوا، و إن الشرك لظلم عظيم.
و بين سبحانه من بعد ذلك أنهم فى ريب من أمر بنائهم، و أشد ما يصاب به المنافق أنه فى ريب مستمر.
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3449
فقال تعالى:
البنيان هو الذى بنوه و الذى بعث من الكفر، و مضارة أهل الإيمان، و تفريق بينهم، و إرصاد لمن حارب اللّه و رسوله، هذا البنيان من ريبهم الذى كانوا يترددون فيه دائما و يتنقلون فى أجوائه المختلفة بعث عليه ريبهم فى دينهم، و زادهم البناء ببواعثه ريبا، و لما هدمه النبى صلى اللّه تعالى عليه و سلم، و أحرقه و حقر مكانه، حتى جعله كناسة تلقى فيه الجيف و القمائم، زادهم ذلك حقدا و حسدا، و ريبا و نفاقا؛ لأن هذا النفاق يولد من الحسد و الحقد، فلما ازدادت أسبابه ازدادوا ريبة، و لذا قال تعالى: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ لا تزول إلا أن تقطع قلوبهم، أى لا يزول إلا إذا زالت قلوبهم، و تقطعت أجزاء، فما دامت قلوبهم المركسة فى النفاق الغائر فيها، و التى أربدت به، و لازمتها ملازمة الحسك للصوف، و هذا النص الكريم تصوير لاستقرار النفاق فى القلب، و تزايده بتزايد المغريات له، و الأعمال المنافقة تقوّى النفاق و تدعمه، آنا بعد آن، و الريبة هى الريب فى كل شىء يفكرون فيه، و قد يقال: كيف توصف عقيدتهم و حالهم بالريب، و هم يعتقدون الكفر، و يظهرون غيره، و نقول: إن المنافق لا يؤمن بشىء و لا يعتقد شيئا، و هو غير مؤمن باللّه و الرسول و يظهر الإيمان بهما، و لذا كان منافقا، و لكنه ليست له عقيدة تحل محل الإيمان باللّه و رسوله، و لذا هو فى حال ريبة مستمرة تمكث فى قلبه و تستقر به، و لا تزول إلا أن تقطع قلوبهم إربا إربا.
و قرأ الحسن (إلى) بدل (إلا) «1» أى أن الريبة تستمر حتى يقبروا و تقطع قلوبهم، و إن هذا البناء الذى بنوه كان يحرك ضغنهم طول حياة الرسول، و من بعده فى عهد أبى بكر و عمر، و كان الناس يتذاكرونه، فيصخون أسماعهم صخا
(1) (إلى أن تقطع قلوبهم) هكذا بحرف الجر: قراءة يعقوب، و قرأ الباقون (إلا) على الاستثناء. غاية الاختصار (974).
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3450
شديدا بذكره، جاء فى الكشاف: روى أن مجمع بن حارثة كان إمامهم فى مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب فى خلافته أن يأذن لمجمع أن يأتيهم فى مسجدهم فقال: لا و لا نعمة عين؛ أليس إمام مسجد الضرار، فقال (أى مجمع): يا أمير المؤمنين لا تعجل علىّ، و اللّه لقد صليت بهم و اللّه يعلم أنى لا أعلم ما اختمروا فيه، و لو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن، و كانوا شيوخا لا يقرأون من القرآن شيئا، فعذره و صدقه و أمره بالصلاة.
لعن اللّه النفاق و أهله و أعمالهم، و لقد كثر المنافقون فى عصرنا حتى نالتنا لعنة اللّه بهم، اللهم ارحمنا، و لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنك غفور رحيم.
و ختم اللّه تعالى الآية بقوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، أى يعلم كل شىء ما خفى و ما ظهر، ما أسرته القلوب، و ما جهرت به الألسنة، و حكيم يضع الأمور فى مواضعها، و يقدر فيكمل تقديره، و قد أتى بالجملة السامية مؤكدة بالتصدير بلفظ الجلالة، و كونها جملة اسمية، و بالصيغ الدالة على كمال الوصف بالعلم و الحكمة.
بعد أن بين أوصاف المنافقين، و أحوالهم و أعمالهم و أقوالهم ابتدأ بذكر المؤمنين.
المؤمن هو و ماله ملك لله
قال تعالى:
[سورة التوبة (9): الآيات 111 الى 114]
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3451
الشراء جالب للمبيع، و مقدم للثمن، فالمؤمنون و أموالهم هم المبيع، و الجنة، و ما فيها هى الثمن، و إن هذه الآية تصور المؤمنين يقدمون أنفسهم يبيعونها للّه تعالى بيع السماح راضين، فهم أنفسهم و أموالهم يملكونها للّه تعالى و الثمن أنه يعدهم بالجنة يدخلونها، و ما هو أعظم من الجنة، و هو رضوان اللّه تعالى، و لم يذكر هنا لأن الآية تتضمنه؛ لأنه سبحانه و تعالى قد رضى بالصفقة، و هى تقديم النفس و المال، و لا يمكن أن يكون إلا و معه الرضا عن البيع، و هو أعلى ما يملكه الإنسان، فهو النفس و النفيس.
و إن تلك العبارة مصورة، و لكنها وقعت قبيل الهجرة، ففى العقبة الثانية كانت المبايعة على هذا الأساس فى البيع و الثمن بين الرسول، و الأوس و الخزرج، و قد قال عبد اللّه بن رواحة للنبى صلى اللّه تعالى عليه و سلم: اشترط لربك و لنفسك ما شئت، فقال النبى صلى اللّه تعالى عليه و سلم: أشترط لربى أن تعبدوا
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3452
اللّه و لا تشركوا به شيئا، و أشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم و أموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال صلى اللّه عليه و سلم الجنة، فقالوا نربح البيع لا نقيل، و لا نستقيل.
و هذه بلا ريب صور حسية للعقد، و إن كانت الآية مصورة، لتسليم المؤمنين أنفسهم للّه تعالى، العلى الحكيم، الغنى الحميد، و يروى أن أعرابيا سمع هذه الآية، فقال: من يقول هذا؟ قالوا: اللّه. قال: بيع مربح.
و قد بين اللّه تعالى ثمرة البيع أو آثاره التى يتحقق فيها ما يجب على البائع، فإن عليه أن يقدم المبيع، فقال سبحانه و تعالى: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فالزمخشرى و من تبعه، على أن الفعل هنا بمعنى الأمر، أى عليكم أن تقاتلوا فى سبيل اللّه، و قال إن ذلك كقوله تعالى: ... وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ ... (11) [الصف].
و نقول إن الإتيان بالصيغة الخبرية بمعنى الطلب كثير فى القرآن، و هو من بلاغة القرآن؛ لأن المؤدى أنه كان الطلب فاستجاب بقوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... (228) [البقرة]، و قوله تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ... (233) [البقرة].
و الوجوب هنا له قرائن شاهدة؛ لأن المقاتلة فى سبيل اللّه تعالى من آثار العقد المبرم بين اللّه تعالى و المؤمنين إذا باعوا أنفسهم و أموالهم إليه، فهو المالك، و ما يجىء بعد ذلك من تصرف المالك فيما يملك، و المقاتلة لا تكون فى سبيل اللّه تعالى إلا بشرطين- أولهما- إخلاص النية، فلا يقاتل لذات الغلب أو الفروسية، إنما يقاتل لتكون كلمة اللّه تعالى هى العليا، فمن قاتل لغير ذلك لا يكون قتالا فى سبيل اللّه تعالى.
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3453
و الشرط الثانى- أن يدخل غير مستبق لنفسه، كما كان يفعل المجاهدون الأولون أمثال حمزة و علىّ و الزبير الذين يدخلون المعركة، فلا يدرون أيقعون على الموت، أم يقع الموت عليهم، و لذا قال تعالى:
فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ أى فإذا دخلوا فى القتال رضوا بمرارته، و إرادة النصر، و أن تكون كلمة اللّه تعالى هى العليا، فيقتلون الكفار فى سبيل اللّه، و يقتلون هم فى هذا، و لا يحسبون أنهم يخسرون فى الحالين، فإن قتلوهم فذلك سبيل النصر، و إن قتلوا سارعوا إلى قبض الثمن فى الصفقة التى عقدوها مع ربهم.
و فى هذا النص الذى ذكره القرآن الكريم أمران نتكلم فيهما:
أولهما- أن هذا النص يشير إلى أن الفرار لا يجوز، لأنه ضنّ بتسليم المبيع و هو النفس، و لا يضن مؤمن بتقديم ما عاهد اللّه تعالى عليه، و قد قال تعالى فى آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) [الأنفال].
الثانى أن هنا قراءتين- أولاهما- فيقتلون بالبناء للفاعل، و الثانية بالبناء للمفعول، و القراءة الثانية العكس «1» ، و كل قراءة قرآن، و بمجموع القراءتين تكون الآية داعية إلى ألا يفرقوا بين أن يقتلوا أو يقتلوا، فإن الملكية التى أثبتوها للّه تعالى تسوغ ذلك، و توحيه كما نوهنا.
و قد قدموا أنفسهم للّه تعالى، و أكد اللّه تعالى أن الثمن الذى قدره، و هو مربح، و يزيد أضعافا مضاعفة على ما أعطوا- آت لا محالة؛ لأنه وعده الذى وعده، و لذا قال تعالى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أى وعد اللّه وعدا حقا لا يتخلف؛ لأن اللّه تعالى لا يخلف الميعاد، و إذا كنتم قد قدمتم ما عندكم، فإن اللّه تعالى