کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3744
بعد هذه العبارات القوية فى معناها و مرماها، الرقيقة فى مبناها قالوا متحدين شعيبا
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ أى ما ندرك كثيرا من قولك إدراك فهم، و ما ذكروا ذلك ليزدادوا فهما، بل ذكروه مستنكرين لما يريد مستهينين به، و هو يتضمن رفضا لقوله، و إنكارا لدعوته إلى التوحيد، و حسن المعاملة، و القيام بالعدل فيها و إعطاء كل ذى حق حقه، و كأن المعاملة بالبخس حق لهم، و لذا قالوا متحدين أيضا مهددين: وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ أكدوا أنهم يرونه ضعيفا لا يمتنع عليهم إذا أرادوه بسوء، و لو لا جماعتك، أو عصبتك الذين يوالوننا، و لا نريد أن نغاضبهم لرجمناك، أى لقتلناك شر قتلة، و هى القتل رميا بالحجارة حتى تموت: وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أى بممتنع علينا، إن أردناك بسوء، أو أردنا رجمك، و نفوا أنه عزيز عليهم أشد النفى، فأكدوه، بالخطاب و تكراره، و بالباء، و بتقديم عَلَيْنا ، و ذلك اغترار بقوتهم، و سطوتهم، و تأكيد بأنه فى قبضة أيديهم.
و يرد الحليم الرشيد شعيب غير عابئ بتهديدهم معتمدا على ربه، معتزا بعزته:
أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ الاستفهام إنكارى لإنكار الواقع، و فيه تهكم بهم و بغرورهم، و المعنى ليس رهطى أعز عليكم من اللّه، و إن زعمتم ذلك فأنتم فى غرور، و انخداع بأنفسكم، و قوله تعالى: وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أى نسيتم اللّه ذا العزة و الجلال، و حسبتم أن رهطى أعز عليكم من اللّه، و جعلتم رب العزة و الجلالة وراءكم ظهريا و هذا تعبير لمن يطرح الأمر الجدير بالاعتبار وراء تفكيره، فشبه فعله بفعل من يرمى الأمر وراء ظهره، بحيث لا يراه، و قد هددهم بأن اللّه مانعه بقوله: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أى عالم علم إحاطة و شمول لا يخفى عليه شىء من أفعالكم، و ما تريدون برسوله إليكم، و إنه لمحيط بكم، و عبر بربى للإشارة بأنه حاميه منهم، لأنه هو الذى أنشأه و ربّه و يحميه و يحرسه.
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3745
و يسترسل النبى الهادى فى إرشادهم، فيقول:
وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على ما تتمكنون من عمله، لتكون نتيجته لكم أو عليكم و إنى عامل ما يمكننى اللّه تعالى منه، و ما أرسلنى به، سَوْفَ تَعْلَمُونَ (سوف) لتأكيد الوقوع مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ فى الدنيا يُخْزِيهِ ينزل به، فيجعله فى أسفل السافلين، وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ فى قوله، و فى دعوته، فتبين حينذاك خزيكم و كذبكم، كما يتبين صدق قولى فيما دعوتكم إليه، و فى إنذاركم.
وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ارتقبوا ما يستقبلكم، و إنى معكم رقيب متتبع متوقع صدق ما أنذر اللّه ربى و ربكم نزل العذاب بهم بأمر اللّه تعالى فى ميقاته، و لذا قال تعالى:
وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا أى ما قدرناه لهم عقابا فى الدنيا، و كانوا يستعجلون به ثم ذكر سبحانه و تعالى أمره بعد أن نجى شعيبا و الذين آمنوا برحمة من اللّه، و كانت رحمته فى أن هداهم إلى الإيمان و أن أبعدهم عن العذاب، و فى أنه يستقبلهم النعيم المقيم يوم القيامة.
وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ و أظهر فى موضع الإضمار لبيان أن ما أنزل بهم من العذاب سببه الظلم بالشرك و الظلم بنقص المكيال و الميزان، و الظلم بمنع الناس حقوقهم، و بخسهم حظوظهم.
و الصيحة تبعتها رجفة فى الأرض ماتوا بها، و لذا قال فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ، أى ميتين. و جاثمون ملازمون أماكنهم لا يستطيعون حراكا؛ لأن الموت الداهم أفقدهم الحركة.
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ : كأن لم يقيموا فيها إقامة مستمتعين بمغانيها، و هذا يشير إلى أن متعة الدنيا إلى وقتنا هذا لا بقاء منها لشىء، و يقول سبحانه: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ أى ألا بعدا و طردا من رحمة اللّه تعالى، و هلاكا لمدين، كما بعدت ثمود و هلكت.
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3746
موجز قصة موسى و فرعون
قال تعالى:
[سورة هود (11): الآيات 96 الى 99]
قلنا إن قصص القرآن لا مكرر فيه، و إن كان يبدو ظاهر الأمر أن فيه تكرار؛ لأن الذكر يكون على قدر العبرة.
و هنا فى هذا الموضع يذكر أحوال الأمم الذين يبعث النبيون إليهم، و لذا ذكر قوم فرعون، و ما حل بهم من اتباعهم فرعون، و لم يفصل الآيات المتوالية التى كانت تجرى على يدى موسى آية بعد آية، و هم لم يرتدعوا حتى أهلكهم اللّه تعالى بالغرق كما ذكر سبحانه ذلك فى سورة الأعراف، و كما ذكر حال فرعون و قد أصابه الغرق، و آمن فى آخر رمق فى حياته إيمانا لا يقبله اللّه تعالى.
قال تعالى:
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (96) أكد اللّه تعالى إرسال موسى و أكد إرساله بالآيات البينات بحجة ظاهرة قاهرة، و سماها سلطانا مبينا، أى بينا، و تسمية الحجة سلطانا؛ لأنها تجعل لصاحبها سلطانا غالبا من الاحتجاج
إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أى من يحيطون به، و يشاركونه فيما يفعل، ثم وصف سبحانه حال ملأ فرعون، و هو وصف عميق لآل فرعون، و لأهل مصر،
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3747
فقال: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أى اتبعوه مطلقا، و كذلك حال مصر تتبع من يحكمها دائما سواء أكان عدلا أم كان ظلما، و سواء أكان رشدا أم ضلالا، فهم أتباع لا استقلال لهم، و لذا وصفهم العربى عمرو بن العاص: «هم لمن غلب» و لأنهم له تبع يكونون يوم القيامة وراءه، فكما اتبعوه فى الدنيا عن غير إدراك، بل لأنه فرعون- قال فيهم يوم القيامة
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) و الورد هو الذى يرده الناس لتبريد أجسامهم، و نقع غلتهم و ترطيب أكبادهم، و سميت النار به تهكما بحالهم، إذ يردونها، فيجدون النار المتأججة بدل الماء الفرات.
و أنهم بهذه التبعية للطاغوت:
وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) و ألحقوا فى هذه الدنيا لعنة طردوا فيها من العزة و الكرامة و نزل بهم الهوان و الذل و المقت، وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ أى العون الذى يعين به الرافد من يعينه، الْمَرْفُودُ أى المعان، أى أن فرعون و من اتبعه، و كل المصريين الذين اتبعوه، يتعاونون فى تبادل إرفاد النار، يعين كل منهم الآخر، فهو يعينهم، و هم يعينونه، و هذا تصوير لحالهم، إذ تعاونوا على الظلم و الذل و الإذلال فى الحياة، فتعاونوا على المقت و إرفاد النار بعد الوفاة.
العبرة فيما قص الله تعالى هنا
قال تعالى:
[سورة هود (11): الآيات 100 الى 109]
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3748
بعد أن ساق القرآن الكريم ذلك القصص الصادق الواعظ أو ذكر بعض ما فيه من عبر، فقال تعالى:
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ (100) الإشارة إلى السابق من قصة نوح و قومه، و عاد و هود و ثمود، و صالح، و مدين و شعيب، و طغيان فرعون، أى هذا القصص الحكيم مِنْ أَنْباءِ أخبار القرى، أى المدن التى يتحرك إليها الناس، و يجتمعون فيها، كقريتك التى تدعو إلى التوحيد فى وسط الشرك فيها، و إن هذه القرى عرفناك أنباءها، كيف أشركت و عاندت و كابرت، ثم أخذها اللّه أخذ عزيز مقتدر يجدون آثار ما أنزل اللّه بها، و رسوم بعضها تنادى ببيان ما حل بها. مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ قائم مثله كمثل العود من الزرع إذا صار حطاما، و جف ماء الحياة فيه، و منها ما هو محصود كالزرع المحصود الذى قطع قائمه، و بقى بعض جذوره، و هذا يدل على ما نزل بهؤلاء.
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3749
و فى ذلك عبرة للذين يطغون، و يعاندون، و يؤذونك و صحبك و يستهزئون بكم و يسخرون من آيات اللّه فيهم، و معجزته التى تتلى عليهم.
إن ما نزل بهم هو بسبب ظلمهم، و لذا قال تعالى:
وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ .
أى أن ما نزل بهم لم يكن ظلما، بل كان عدلا؛ لأنه لا يستوى المحسن و المسىء، و الأعمى و البصير، و لا الظلمات و النور، و لا الظل و الحرور، فهو جزاء عمل، و جزاء العمل من جنسه، و لكن ظلموا أنفسهم بإضلالهم بالشرك، و انسياقهم فى طريق الفساد، و معاندتها للحق و اضطهادها لأهلهم، و إشاعتها للضلال، و خضوعها للأوهام بدل العقل المدرك المستقيم.
و إنهم إذا تردوا فى هذا الهلاك الذى نزل بهم منعا لاستمرار فسادهم، و طغيانهم، و محاربتهم- بدا لهم عيانا بيانا أن الآلهة التى اتخذوها من الحجارة أو غيرها، لا تدفع عنهم ضرا، و لا تجلب لهم نفعا، و لا تحميهم مما نزل بهم، و لذا قال تعالت حكمته: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ، مِنْ هنا لاستغراق النفى، أى ما أغنت عنهم الآلهة التى زعموها مضادة للّه تعالى أى شىء من الغناء.
و أضاف كلمة آلهة إليهم، لبيان أنها ليست آلهة فى ذاتها، و هى عاجزة كل العجز، إنما هى آلهة فى زعمهم، و أوهامهم التى أضلتهم، و سارت فى ضلال بعيد.
إن هذه الآلهة أخزتهم، و لم تفدهم؛ لأنهم ساروا فى الضلال إلى أقصى الغاية بل إنهم لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بالإهلاك، و هو خالقكم و القائم على وجودكم لم يستطيعوا دفعا للضرر، و لا جلبا لنفع وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ التباب الهلاك و التتبيب الإهلاك الشديد الذى يتضاعف فى ذاته، أى ما زادوكم إلا هلاكا متضاعفا، و الهلاك ليس زيادة فى ذاته و إنما الزيادة هى زيادة الضرر.
زهرة التفاسير، ج7، ص: 3750
و التعبير بضمير جمع العقلاء، و ليست الحجارة عاقلة إنما هو تهكم بهم، و بنظرهم الذى يعبد حجارة، و يرجو نفعها، و قوله تعالى: غَيْرَ تَتْبِيبٍ أى هلاك متضاعف متكرر.
و إن اللّه تعالى قدر العذاب و أنزله فكيف تزيد الحجارة فيما قدر اللّه و هى لا تملك من الأمر شيئا؟ و الجواب عن ذلك أنه تصوير لحالهم مع هذه الحجارة، إذ إنهم استمروا فى عبادتها لا ينون بل يجادلون، و يعاندون حتى جاءهم العذاب الأليم، و كلما زادوا عنادا كان العذاب على قدره، و عنادهم المتزايد، و عقابهم عليه المتضاعف، كله فى تقدير اللّه العزيز الحكيم، و اللّه حكيم عليم.
و إن هذا سنة اللّه تعالى فى خلقه العصاة، و لذا قال تعالت كلماته:
وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102).
التشبيه فى قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ هو تشبيه حال القرى القائمة الظالمة فى توقع عذاب اللّه لها بحال الذين أخذوا من قبل كغرق قوم نوح، و كالرجفة التى أخذت ثمود و مدين، و كالريح الصرصر الذى أخذ من قبل عاد كهذا الأخذ الذى أخذ به السابقون، يؤخذ القائمون فى عصر النبى صلى اللّه عليه و سلم، و إن ذلك الماضى إنذار للحاضرين من القرى الظالمين كالمشركين فى مكة الذى يتحدّون اللّه و رسوله، و يحسبون أنهم الغالبون، و اللّه تعالى غالب على أمره، و قد قرر بعد ذلك شدة عذابه فى أخذه لهم من حيث لا يحتسبون، فقال عز من قائل: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ أى إن أخذه المفاجئ الذى لا يرتقبونه فوق ما فيه من ألم المفاجأة، و هم يرتعون و يلعبون هو فى ذاته مؤلم موجع، و شديد فى إيلامه و فى حاله، و حالهم معه، كانوا ينتظرون مطرا يمطرهم، فإذا هو ريح فيها عذاب أليم.