کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج8، ص: 3973
الأمر الأول: أن مكرهم لا اعتداد به، و لا ثمرة له فى تحقيق الغاية التى أرادوها، و هو تحويل الناس عن عقائدهم إذا آمنوا بها.
الأمر الثانى: أن القلوب بيد الله، و هو الذى يهديها، و هو الذى يتركها تسير فى مهواة الضلالة، حتى تنهوى فيها.
الأمر الثالث: أن الله مذهب كيدهم، و جعلها فى هباء، و ناصر أهله.
و إن الله تعالى تدبيره منتج مثمر لا محالة؛ لأنه يعلم ما تكسب كل نفس من خير أو شر، و تتحدث به النفوس، و ما تكسبه الجوارح، و هو وحده مقلب القلوب.
قلنا: إن ذكر مكر السابقين لبيان العبرة للمشركين الذين عاندوا النبى صلى اللّه عليه و سلم، و محاولتهم فتنة المؤمنين لتحويلهم عن دينهم الذين ارتضوه، و فيه إشارة إلى بطلان مكرهم، و إلى أن مكر الله فوقهم، و أنهم إذ يمكرون بالنبى صلى اللّه عليه و سلم، إنما يقاومون بمكرهم مكر الله و تدبيره للمؤمنين أوليائه؛ و لذا قال تعالى مهددا لهم: وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ الكفار (ال) فيها للعهد، أى كفار العرب من مشركين و يهود، و من لفّ لفهم، و السين لتأكيد وقوع الخبر فى المستقبل، و العلم الذى سيعلمونه علم معاينة، لا علم خبر و إخبار، إن تتوالى عليهم الهزائم هزيمة بعد هزيمة حتى تصير الأرض العربية كلها تحت ظل الإسلام الظليل، و يخرج المشركون من رجس الوثنية، و الفساد اليهودى المنحرف، و تكون الكلمة العليا لله و لرسوله، و للمؤمنين، و من بقى على كفره يعلم علما آخر بعقبى الدار فى جهنم للكافرين، و الجنة للمؤمنين.
و قوله: لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ لمن جار و مجرور، و المعنى لمن تكون عقبى الدار، أى عاقبة هذه الحياة الدنيا التى تكون فيها هذه المغالبة بين الحق و الباطل، و الكفر و الإيمان، و إن العقبى هى غلب الإيمان فى الدنيا، و الجنة لمن آمن فى الآخرة، و النار لمن عصى، و الله سبحانه و تعالى أعلم.
زهرة التفاسير، ج8، ص: 3974
و لقد اشتد المشركون فى الإنكار، و مالأهم على ذلك اليهود.
ذكر سبحانه بعض مكر المشركين و غيرهم التى يقصدون بها تحويل المؤمنين و فتنتهم عن دينهم، فذكروا أنهم يقولون للنبى صلى اللّه عليه و سلم: لَسْتَ مُرْسَلًا ، فهم يسلمون بأن لله رسالة، و لكن لست من أصحابها، فالله لم يرسلك، و هم بهذا ينكرون رسالة محمد صلى اللّه عليه و سلم، و ينكرون أن يكون له معجزة دالة على هذه الرسالة، و يريدون آيات أخرى غير القرآن، إذ لا يعدون القرآن آية، و ما كان للنبى أن يأخذ كلامهم أخذ من يعتبره، و قد قام الدليل عليه بالتحدى، و إدراك أهل الذكر منهم ما فيه من نسق، و وثيق نظم؛ و لذا أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ، أى كفا الله شهيدا بينى و بينكم، فهو الحق و شهادته الحق، و ليست شهادته كلاما يردد، و لكن شهادته معجزة تفحم، و قد جاءت الخوارق تترى بشهادة الحق فى كل ما ترون من حياته، و ما أحاط بها، و ما دبرتم و قد رد تدبيركم فى نحوركم، و قوله تعالى: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فيه تهديد لهم بما يكون لإنكارهم من عواقب وخيمة عليهم تنصر أهل الحق.
و يصح أن تقول: شَهِيداً معناه حاكم؛ لأن الشهادة تجىء بمعنى الحكم، كما فى قوله تعالى: ... وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ... (26) [يوسف]، و المعنى و كفى بالله حاكما بينى و بينكم، و يرشح لهذا المعنى عبارة بينى و بينكم، فالحكم هو الذى يكون بين اثنين، و أما الشهادة فتكون لأحد الفريقين على الآخر.
و قوله تعالى: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ الكتاب إما أن يراد جنس الكتاب، و من عنده علم الكتاب هو العالم بالكتب السماوية قبل تحريفها، فإنها تشهد بنبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم، و تحكم بأنه رسول، هذا التبشير بالنبى صلى اللّه عليه و سلم فى التوراة و الإنجيل،
زهرة التفاسير، ج8، ص: 3975
و لا يزال آثاره معها باقية إلى اليوم تعرف برموزها لمن عنده علم بالكتاب، هذا إذا كان المراد جنس الكتاب، و من عنده علم بكتاب أهل الفقه المخلصين من الكتابيين.
و إذا أردنا الكتاب و كانت (ال) للعهد، يكون المراد هو القرآن الكريم، و من عنده علم القرآن هو العليم بأساليب الكلام العربى يعرف شعره و رجزه، و إرساله و نثره، و يعرف ما فى الكلام، كما روى عن فصحاء العرب، فإن هؤلاء يشهدون بإعجازه كما يقول قائلهم: إن له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إن أسفله لمغدق، ما يقول هذا بشرا، و إنه ليعلو، و لا يعلى عليه.
هذا و إنى أرى الوجه الثانى، و كلاهما عميق فى معناه.
***
زهرة التفاسير، ج8، ص: 3976
سورة إبراهيم
تمهيد:
سورة إبراهيم مكية إلا الآيتين 28، 29، و عدد آياتها اثنتان و خمسون آية، و سميت سورة إبراهيم لما فيها من قصص إبراهيم و ولديه إسماعيل و إسحاق، و سكن إسماعيل و ذريته بجوار بيت اللّه المحرم، و لكن لم يتخذ شخص إبراهيم عليه السّلام محور ال سورة، كما كان الشأن فى سورة يوسف عليه السّلام.
ابتدئت ال سورة الكريمة بالحروف المجردة و هى الر ثم ذكر الكتاب الكريم و أن اللّه أنزله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، و يهديهم إلى صراط العزيز الحميد، و ذكرت ال سورة ملك اللّه للسموات و الأرض و ما فيهما، و أن الويل للكافرين بآياته الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، و يصدون عن سبيل اللّه تعالى و يبغونها معوجة، و أولئك فى ضلال مبين.
و يذكر اللّه سبحانه أنه ما أرسل من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، فيضل اللّه من يشاء و يهدى من يشاء، و هو العزيز الحكيم.
و بعد ذلك يشير اللّه سبحانه إلى طرف من قصة موسى و قومه، فيذكّر سبحانه على لسان موسى بنعمته عليهم إذ أخرجهم من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب، و يبين سبحانه و تعالى أنهم إن شكروا زادهم نعما على نعم، و يقول موسى لقومه ... إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8).
و يشير سبحانه من بعد ذلك إلى أبناء قوم نوح و عاد و الذين من قبلهم لا يعلمهم إلا اللّه، جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم فى أفواههم، و عضوها غيظا، و قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون، و إنا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب.
زهرة التفاسير، ج8، ص: 3977
و يحكى سبحانه و تعالى دعوة الرسل عامة، و مجاوبة المشركين المتشابهين عامة، قالت لهم رسلهم: ... أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ... (10) فيرد عليهم الكافرون و هو رد متحد عند الكافرين جميعا، قد انبعث عن جحود واحد فاتحد .. قالوا: ... إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10).
و كان رد الرسل واحدا ... إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)، و لكن اللّه يمن على من يشاء من عباده، و ما كان لنا أن نأتيكم إلا بإذن اللّه، و على اللّه فليتوكل المؤمنون، و قد قرروا أنهم لا يتوكلون إلا على اللّه، و ليصبرن على أذى أقوامهم.
و لقد كان الإيذاء متحدا من الكافرين، إذ اتحد السبب المنبعث منه و هو الجحود، وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ (14).
و إنه من بعد ذلك الخزى فى الحياة الدنيا يكون العذاب الشديد، ... وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ ... (17).
و قد مثل اللّه تعالى أعمال الذين كفروا فى الكفر بأن ... أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18).
ثم بين بعد ذلك خلق السموات و الأرض ... إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)، و قد صور اللّه سبحانه و تعالى حالهم يوم القيامة، إذ تجادل الضعفاء و الذين استكبروا وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ... (21)، قال
زهرة التفاسير، ج8، ص: 3978
الذين استكبروا ... لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21).
و يدخل الشيطان فى المجادلة فيقول: ... إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22).
و قد ذكر سبحانه بعد ما كان بين المشركين ضعفاء و مستكبرين و الشيطان، ذكر سبحانه و تعالى إدخال المؤمنين الجنة.
و قد ضرب سبحانه مثلا يفرق بين الإيمان و الكفر بالفرق بين الكلمة الطيبة و الكلمة الخبيثة، فالكلمة الطيبة ... كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (24)، و الكلمة الخبيثة ... كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27).
و ذكر سبحانه أن حال الكافرين حال عجيبة تثير الاستفهام، فقد ... بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (29)؛ و ذلك لأنهم جعلوا للّه أندادا من الحجارة، و قد صاروا بذلك غير مدركين حقائق أمورهم، و جديرون بأن يقال لهم ... تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)، و ذكر فى مقابل ذلك المؤمنين الذين لم يبدوا نعمة اللّه كفرا، و يقيمون الصلاة، و ينفقون مما رزقناهم سرا و علانية من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه و لا خلال.
زهرة التفاسير، ج8، ص: 3979
و لقد ذكر اللّه تعالى بعد ذلك خبرا صادقا عن إبراهيم أبى العرب، و كيف كان يدعو اللّه و لا يعبد الأصنام، وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36). و أخذ يدعو لذريته فى البلاد العربية بسعة الرزق فقال:
ذكر اللّه سبحانه و تعالى أدعية إبراهيم ليكون ذلك تذكيرا لذريته من العرب، ليتركوا الأوثان و يتجهوا إلى الضراعة إلى اللّه تعالى كضراعة جدهم أبى الأنبياء إبراهيم.