کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4125
مُسْتَقِيمٍ (76)، و هكذا الأمثال تحوى فى ذاتها حكما و أخلاقا و توجيها للأنظار مع دلالتها على معنى التوحيد و الموازنة الحكيمة بين الخالق و المخلوق.
و قد وجه سبحانه الأنظار إلى خلق الإنسان لا يعلم شيئا ثم جعل له السمع و الأبصار و الأفئدة رجاء أن يشكروا فكفروا، ثم وجه سبحانه الأنظار إلى خلق الطير صافات، كما وجه إلى خلق السموات و الأرض و الأنعام و الخيل و البغال و قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
و وجه الأنظار إلى البيوت التى يسكن إليها، وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ و جعل لكم سرابيل تقيكم الحر و سرابيل تقيكم بأسكم و كل هذه نعم ليشكروها فكفروها، و ينبه النبى صلى اللّه عليه و سلم أن عليه البلاغ فقط، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)، و قد أنذرهم سبحانه و تعالى: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) و ذكر سبحانه بعد ذلك حال المشركين مع الأوثان يوم القيامة ثم أسلموا أنفسهم للّه وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)، و بين سبحانه و تعالى مقام النبوة المحمدية يوم القيامة، فيقول: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89).
و يبين اللّه تعالى لب الإسلام و غايته، فيقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90).
و يدعو اللّه إلى الوفاء بالعهد، و ينهى عن نكث العهد، و يبين أن العهد قوة، و نكث العهد نكث للقوة، و جعلها أنكاثا، و أنه لا يصح أن يكون الرغبة فى الكثرة فى الأرض، و القوة سببا للنقص، و لا تتخذوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4126
هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، و يبين أن اللّه تعالى قدر اختلاف الأمم وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً .
و نهى عن نقض العهد نهيا قاطعا، فقال: وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96).
و قد بين سبحانه آداب المؤمن عند قراءة القرآن، فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100).
و قد بين سبحانه أن القرآن معجزة النبى صلى اللّه عليه و سلم، و أنه آيته الكبرى، و اللّه أعلم بأى الآيات أجدى و أنسب و أحكم، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103).
و بين أن الكذب شأن الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ، و بين سبحانه و تعالى حكم من ينطق بكلمة الكفر مكرها مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) و قد بين سبحانه أنه طبع على قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109).
و بين بعد ذلك جزاء المؤمنين المهاجرين، فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110).
و ذكر سبحانه أنه فى ذلك اليوم توفّى كل نفس ما كسبت بعد أن جاءت تجادل عن نفسها، و هم لا يظلمون، و قد ضرب اللّه مثلا للقرية الظالمة بعد أن أنعم اللّه تعالى عليها وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِ
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4127
و لقد أشار إلى ما أباحه سبحانه و تعالى فقال: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114).
و بين من بعد ذلك المحرمات، و هى خبائث تفسد الأجسام، و إن التحليل و التحريم من اللّه وحده؛ و لذا قال سبحانه: وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117).
ثم بين أن هذه المحرمات كانت على الذين هادوا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون، و أشار سبحانه إلى أن باب التوبة مفتوح لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .
ذكر اللّه سبحانه و تعالى العرب بما كان يتحلى به إبراهيم، و هو جدهم الذى يتشرفون بالنسب إليه فقال: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)، ثم خاطب النبى صلى اللّه عليه و سلم بأن دينه هو ملة إبراهيم ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123).
و أشار سبحانه إلى أن تحريم السبت كان على اليهود الذين اختلفوا فيه و لم يكن على غيرهم.
و بين سبحانه طرائق الدعوة إلى الحق، و أشار إلى العقاب دفاعا عن الخير فقال: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128).
و هذه الآيات أشبه بأن تكون مدنية، و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4128
معانى ال سورة الكريمة
قال تعالى:
[سورة النحل (16): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كان المشركون يتلقون وعد النبى صلى اللّه عليه و سلم لهم بالغلب فى الدنيا أو العذاب الأليم فى الآخرة بالاستهزاء، و السخرية مبالغة فى الإنكار، و يتحدون النبى صلى اللّه عليه و سلم أن ينزل بهم ما ينذرهم به، و لقد قال تعالى فى ذلك: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) [العنكبوت] و قال تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) [العنكبوت]، أى أن أسبابها محيطة بهم، و هى قريبة منهم، و قد نزل قوله تعالى:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ... (1) [الأنبياء]، و قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4129
وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) [القمر] فاستعجلوه، و قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، قال فيه النحويون: إنه ماض بمعنى المضارع، و عبر بالماضى لتأكد وقوعه.
و فى الحق: إن الأزمان بالنسبة للّه تعالى لا تختلف بين ماض و مستقبل بل إن ذلك بالنسبة لنا؛ إذ يختلف الماضى الذى نعلمه واقعا عن المستقبل الذى لا نعلمه بل فى الغيب المكنون المستور عنا.
على أن قوله تعالى:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ ، أى تقرر أمر اللّه تعالى و ما يقرر اللّه تعالى قد أتى فيه قراره، و تعلقت به إرادته، و إذا كان قد أتى فلا تستعجلوه؛ لأنه قد قرر فهو واقع لا محالة، و استعجالكم لا يعجله، و سكوتكم لا يؤجله، و (الفاء) فى قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، تدل على أن ما قبلها سبب لما بعدها، فسبب النهى عن الاستعجال أنه تقرر بالفعل، و قوله تعالى: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، أى تنزه و تقدس و تبرأ، و تعالى أى تسامى عما يشركون، و (ما) مصدر حرفى أو اسمى، و فى الجملة معنى النص السامى: تقدس سبحانه و تسامى فى علوه عن أن يكون له شريك فى السموات و الأرض.
و هذه العبارة السامية فيها تقرير أن اللّه واحد لا شريك له، و لا يمكن أن يكون له شريك فى قدسيته، و كبريائه، و قد بين اللّه سبحانه و تعالى بعد ذلك أنه أرسل الرسل بهذه الحقيقة لينذر المشركين بإرسالهم، فقال تعالى:
(الروح) فسره ابن كثير بأنه الوحى، كما قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى].
و تسمية الوحى روحا؛ لأنه يجىء بما فيه حياة الناس، فهو كالحياة لهم، أو يقوم مقام الروح فى الأجساد. و قوله تعالى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، أى من
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4130
اختارهم لرسالته و يصطفيهم، اللّه يختبر من يشاء من عباده و هو أعلم حيث يجعل رسالته.
و قوله تعالى: مِنْ أَمْرِهِ ، أى أنها مقبلة بأمره سبحانه، أو من أجل أمره، و تنفيذ ما قدر و قرر، و أمره بينه سبحانه بقوله تعالى: أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ .
فهو تقرير للوحدانية جاء على لسان الحق جل جلاله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا داخل عليها حرف جر، و هو الباء و (أن) هى المخففة من الثقيلة، و اسمها ضمير الشأن، أى أنه الحال و الشأن لا إِلهَ إِلَّا أَنَا و قد ذكر ضمير المتكلم لتربية المهابة، و لفيض جلاله سبحانه و تعالى، و الجملة دالة على القصر، فالألوهية مقصورة على الذات العلية، و ما ينحلونها بالألوهية من أوثان باطل فى أصله، و إنما هى أوهامهم التى أعطتها صبغة الألوهية، و إذا كان اللّه تعالى جل جلاله هو وحده الإله فإن الوقاية من عذابه، و خوف عقابه أمران لازمان؛ و لذا رتب سبحانه على وصفه وحده بالألوهية قوله: فَاتَّقُونِ فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه إذا كان هو الإله وحده لا شريك له، فلا يتقى غيره، و جاء على لسان الأمر، لكى يجتنبوا ما يعرضهم للعذاب، و معنى (اتقوا) اجعلوا بينكم و بين غضبه وقاية، و املأوا قلوبكم بتقواه، كما قال تعالى: ... اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران].
و إن أسباب انحصار الألوهية فى ذاته العلية هو أنه وحده خالق السموات و الأرض و مانح النعم؛ و لذا قال تعالى:
خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3).
أنشأ اللّه السموات و الأرض بالحق أى بالأمر الثابت، و النظام المحكم، ربط بين أجزاء السماء بسر الوجود فكل نجم فى مداره، و بروجها ثابتة لا تتغير و تسير إلى مستقرها و تتحرك فى مدارها و كل شىء يجرى بحسبان فى السماء و الأرض بطبقاتها، و ما أودع باطنها من فلزات و أحجار، و عروق المعادن، و الجبال
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4131
الراسيات، و البحار التى تجرى الفلك فيها ماخرات عبابها، و الأنهار و الأمطار تنبت الزرع، و تأتى بالثمار، هذا ما يشير إليه؛ لذا كان سبحانه و تعالى قد خلقها بذلك الإحكام و بذلك النظام الثابت الذى لا يتخلف، و أنه سبحانه و تعالى هو الذى يمسك السموات و الأرض، فهو سبحانه و تعالى الم تعالى عن الشركاء؛ و لذلك قال اللّه تعالى: عَمَّا يُشْرِكُونَ تسامى فى ذاته عن أن يكون له شريك؛ لأنه ليس كمثله شىء قط، فهو المنفرد بالخلق و التكوين و الإنشاء.
و قوله سبحانه: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ كانت هذه الجملة مفصولة عما قبلها، لتمام الاتصال فإن تمام الاتصال يوجب فصل الجملتين، كما يوجبه كمال الانفصال، إذ الجملة الأولى سببا للثانية، فإن الخلق للسموات و الأرض سبب لكمال العلو عن المثل و الشريك.
هذا هو الخلق العام، و الإنسان نفسه فيه إثبات قدرة اللّه بديع السموات و الأرض و مبدع الإنسان؛ و لذا قال تعالى:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4).
و هو الماء الذى يخرج من بين الصلب الذى قالت آية أخرى: ... مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) [السجدة]، و قوله تعالى: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يشير إلى الأدوار التى مر بها من طين فنطفة، فعلقة، فمضغة، كما قال تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) [المؤمنون] هذه أدوار الإنسان، و هو جنين لم يخرج إلى ظاهر الوجود، و إذا خرج إلى ظاهر الوجود كان معه السمع و الأبصار و الأفئدة، حتى تكون فيه كل قوى الإنسان من لسان و عينين و أذنين.