کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4128
معانى ال سورة الكريمة
قال تعالى:
[سورة النحل (16): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كان المشركون يتلقون وعد النبى صلى اللّه عليه و سلم لهم بالغلب فى الدنيا أو العذاب الأليم فى الآخرة بالاستهزاء، و السخرية مبالغة فى الإنكار، و يتحدون النبى صلى اللّه عليه و سلم أن ينزل بهم ما ينذرهم به، و لقد قال تعالى فى ذلك: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) [العنكبوت] و قال تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) [العنكبوت]، أى أن أسبابها محيطة بهم، و هى قريبة منهم، و قد نزل قوله تعالى:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ... (1) [الأنبياء]، و قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4129
وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) [القمر] فاستعجلوه، و قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، قال فيه النحويون: إنه ماض بمعنى المضارع، و عبر بالماضى لتأكد وقوعه.
و فى الحق: إن الأزمان بالنسبة للّه تعالى لا تختلف بين ماض و مستقبل بل إن ذلك بالنسبة لنا؛ إذ يختلف الماضى الذى نعلمه واقعا عن المستقبل الذى لا نعلمه بل فى الغيب المكنون المستور عنا.
على أن قوله تعالى:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ ، أى تقرر أمر اللّه تعالى و ما يقرر اللّه تعالى قد أتى فيه قراره، و تعلقت به إرادته، و إذا كان قد أتى فلا تستعجلوه؛ لأنه قد قرر فهو واقع لا محالة، و استعجالكم لا يعجله، و سكوتكم لا يؤجله، و (الفاء) فى قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، تدل على أن ما قبلها سبب لما بعدها، فسبب النهى عن الاستعجال أنه تقرر بالفعل، و قوله تعالى: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، أى تنزه و تقدس و تبرأ، و تعالى أى تسامى عما يشركون، و (ما) مصدر حرفى أو اسمى، و فى الجملة معنى النص السامى: تقدس سبحانه و تسامى فى علوه عن أن يكون له شريك فى السموات و الأرض.
و هذه العبارة السامية فيها تقرير أن اللّه واحد لا شريك له، و لا يمكن أن يكون له شريك فى قدسيته، و كبريائه، و قد بين اللّه سبحانه و تعالى بعد ذلك أنه أرسل الرسل بهذه الحقيقة لينذر المشركين بإرسالهم، فقال تعالى:
(الروح) فسره ابن كثير بأنه الوحى، كما قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى].
و تسمية الوحى روحا؛ لأنه يجىء بما فيه حياة الناس، فهو كالحياة لهم، أو يقوم مقام الروح فى الأجساد. و قوله تعالى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، أى من
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4130
اختارهم لرسالته و يصطفيهم، اللّه يختبر من يشاء من عباده و هو أعلم حيث يجعل رسالته.
و قوله تعالى: مِنْ أَمْرِهِ ، أى أنها مقبلة بأمره سبحانه، أو من أجل أمره، و تنفيذ ما قدر و قرر، و أمره بينه سبحانه بقوله تعالى: أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ .
فهو تقرير للوحدانية جاء على لسان الحق جل جلاله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا داخل عليها حرف جر، و هو الباء و (أن) هى المخففة من الثقيلة، و اسمها ضمير الشأن، أى أنه الحال و الشأن لا إِلهَ إِلَّا أَنَا و قد ذكر ضمير المتكلم لتربية المهابة، و لفيض جلاله سبحانه و تعالى، و الجملة دالة على القصر، فالألوهية مقصورة على الذات العلية، و ما ينحلونها بالألوهية من أوثان باطل فى أصله، و إنما هى أوهامهم التى أعطتها صبغة الألوهية، و إذا كان اللّه تعالى جل جلاله هو وحده الإله فإن الوقاية من عذابه، و خوف عقابه أمران لازمان؛ و لذا رتب سبحانه على وصفه وحده بالألوهية قوله: فَاتَّقُونِ فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه إذا كان هو الإله وحده لا شريك له، فلا يتقى غيره، و جاء على لسان الأمر، لكى يجتنبوا ما يعرضهم للعذاب، و معنى (اتقوا) اجعلوا بينكم و بين غضبه وقاية، و املأوا قلوبكم بتقواه، كما قال تعالى: ... اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران].
و إن أسباب انحصار الألوهية فى ذاته العلية هو أنه وحده خالق السموات و الأرض و مانح النعم؛ و لذا قال تعالى:
خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3).
أنشأ اللّه السموات و الأرض بالحق أى بالأمر الثابت، و النظام المحكم، ربط بين أجزاء السماء بسر الوجود فكل نجم فى مداره، و بروجها ثابتة لا تتغير و تسير إلى مستقرها و تتحرك فى مدارها و كل شىء يجرى بحسبان فى السماء و الأرض بطبقاتها، و ما أودع باطنها من فلزات و أحجار، و عروق المعادن، و الجبال
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4131
الراسيات، و البحار التى تجرى الفلك فيها ماخرات عبابها، و الأنهار و الأمطار تنبت الزرع، و تأتى بالثمار، هذا ما يشير إليه؛ لذا كان سبحانه و تعالى قد خلقها بذلك الإحكام و بذلك النظام الثابت الذى لا يتخلف، و أنه سبحانه و تعالى هو الذى يمسك السموات و الأرض، فهو سبحانه و تعالى الم تعالى عن الشركاء؛ و لذلك قال اللّه تعالى: عَمَّا يُشْرِكُونَ تسامى فى ذاته عن أن يكون له شريك؛ لأنه ليس كمثله شىء قط، فهو المنفرد بالخلق و التكوين و الإنشاء.
و قوله سبحانه: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ كانت هذه الجملة مفصولة عما قبلها، لتمام الاتصال فإن تمام الاتصال يوجب فصل الجملتين، كما يوجبه كمال الانفصال، إذ الجملة الأولى سببا للثانية، فإن الخلق للسموات و الأرض سبب لكمال العلو عن المثل و الشريك.
هذا هو الخلق العام، و الإنسان نفسه فيه إثبات قدرة اللّه بديع السموات و الأرض و مبدع الإنسان؛ و لذا قال تعالى:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4).
و هو الماء الذى يخرج من بين الصلب الذى قالت آية أخرى: ... مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) [السجدة]، و قوله تعالى: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يشير إلى الأدوار التى مر بها من طين فنطفة، فعلقة، فمضغة، كما قال تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) [المؤمنون] هذه أدوار الإنسان، و هو جنين لم يخرج إلى ظاهر الوجود، و إذا خرج إلى ظاهر الوجود كان معه السمع و الأبصار و الأفئدة، حتى تكون فيه كل قوى الإنسان من لسان و عينين و أذنين.
هذه الأدوار كلها يشير إليها قوله تعالى: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، الخصيم الناطق المجادل الذى يحسن إدارة القول و تحويره و تحويله كعمرو بن العاص الذى
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4132
كان معروفا بالحيلة فى القول، حتى إن عمر الفاروق رأى رجلا لا يكاد يبين، فقال سبحان اللّه خالق لسان هذا هو خالق لسان عمرو بن العاص.
و (الفاء) و (إذا) يدلان على المفاجأة، و المفاجأة مع هذه الأدوار المتدرجة بأمر اللّه و تقديره للدلالة على التفاوت البين بين ماء مهين، و خصيم مبين، سبحان من كون و أنشأ، و هدى و علّم.
بعد هذا أخذ سبحانه يبين النعم التى أنعمها على الإنسان فقال تعالى:
وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (5).
الأنعام جمع نعم، و هى الإبل و البقر و الغنم، و ما يشبهها من غزال أو نحوه، و قد ذكر سبحانه و تعالى فى هذه الآية نعما على الإنسان، فقال تعالى:
لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ .
النعمة الأولى منها الدفء، و هى دفع البرد، و ذلك بإلباس من وبرها و صوفها، و من النفع اتخاذها أثاثا و بيوتا من الخيام، كما قال تعالى: ... وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (80)، و المنافع كما قال ابن عباس:
النسل و الركوب و اتخاذها فى الحرب لحمل المجاهدين، و الثالث منها تأكلون أى من لحومها و ألبانها.
و ذكر سبحانه نعما للإنسان أخرى فيها، و هى قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6).
ترى الراعى للإبل أو القطيع ساقها إلى الرواح قد ذهب عنها الجوع و امتلأت شبعا من الكلأ و النبات، و يخرج بالنعم سارحا إلى حيث المرعى و المسقى، و حيث يرعاها و يشرف عليها فى حركاتها و ملاعبها ذلك هو معنى تُرِيحُونَ و تَسْرَحُونَ .
و (الجمال) هو الصورة التى تكون متناسقة و تؤثر فى النفس، و هو يكون فى الخلق و التكوين، كما ترى فى جمال الأشخاص و الصور و المناظر و تنفعل به النفس
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4133
فى إحساس بالسرور و الارتياح، و يكون فى جمال الطبائع السليمة الطيبة، و يكون فى المعانى و الصور النفسية.
و إن فى منظر قطعان الإبل و الغنم و البقر و هى سارحة متجهة إلى مراعيها، ما يشرح النفس؛ لأن منظر الحياة فى الأحياء يفرح النفس، و يلقى فيها بهجة، و منظرها و هى عائدة ريانة بالشبع و السقى يعطى ارتياحا أشد.
و قد ذكر رواحها، قبل سراحها مع أن الرواح خاتمة اليوم و السراح ابتداؤه؛ لأن الإحساس بالجمال فى الرواح أشد؛ إذ تكون مزدهرة مملوءة بالشبع، و رواحها يكون أشد، و جمالها أوقع فى نفس صاحبها؛ لأنه يكون بعد تعب رعيها و الإشراف عليها، و لأنه يكون بعد انتصارها على مطامعها، و إشباع حاجتها.
و قد قال الزمخشرى: منّ اللّه بالتجمل بها، كما منّ بالانتفاع بها؛ لأن من أغراض أصحاب المواشى، بل هو من معاظمها؛ لأن الرعيان إذا روحوها بالعشى و سرحوها بالغداة، فزينت بتسريحها الأفنية، و تجاوب فيها الثغاء و الرغاء أنس أهلها و فرح أربابها و أجملها فى عيون الناظرين إليها و أكسبتهم الجاه و الحرمة و نحوه.
و قد يسأل سائل لماذا ذكر جمال النعم فى غدوها و رواحها و جمال الدنيا كثير؟ و الجواب عن ذلك أن اللّه تعالى ذكر زينة الأرض بنباتها، و زخرفها، و ذكر أنها زينت بذلك للناظرين، و إن ذكر جمال النعم فى تلك الأوقات ترغيبا فى تربيتها و العناية بها؛ لأن فيها نفعا و غذاء.
و ذكر اللّه تعالى مع ما ذكر من منافع للنعم حمل الأثقال فقال تعالت كلماته:
الأثقال: جمع ثقل، و هو ما يثقل حمله، و يشق بكسر الشين، و تفتح و هى قراءة بمعنى المشقة، و إن البلاد العربية كان الحمل فيها بالجمال حتى قيل: إن
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4134
الجمال هى سفن الصحراء، أى أنها تنقل الأمتعة و الأثقال فى الصحراء، كما تنقل السفينة الأثقال على سطح الماء.
فالضمير و إن كان يعود إلى الأنعام كلها، إلا أن حمل الأثقال عند العرب للجمال فقط، و فى الحق إن حمل الأثقال ظاهره حملها على الظهر، و لكنه يشمل بالتضمن جرها على العربات، و أن من البقر ما تجر العربات المحملة، كما يرى فى مصر، و كما يرى فى غيره من البلاد، و قد رأينا فى باكستان الإبل تجر العربات.
و جملة معنى النص، و تحمل أثقالكم أو تجر ما يحملها إلى بلد نائية عن مقركم لم تكونوا بالغى هذا البلد لنأيه و بعد المسافة إلا بمشقة شديدة.
و إن ذلك من رحمة اللّه تعالى بعباده و رأفته بهم؛ و لذلك قال تعالى فى ختام الآية الكريمة: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ، أى أنه سبحانه يرأف بكم فى خاصة أموركم و يرحمكم فى عامة أحوالكم، و فى وجودكم، و هنا بعض إشارات نذكرها:
أولها- أن اللّه تعالى عبر ب رَبَّكُمْ للإشارة إلى أن ذلك التمكين من مقتضيات الربوبية و القيام على شئونكم و هو سبحانه و تعالى: الحى القيوم الذى يحيط بكل شىء علما.
الثانية- أنه قال: لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ، و الفرق بين الرأفة و الرحمة فيما نحسب أن الرأفة فيما يكون فى الإنسان فى خاصة أمره من حيث الرفق و التسهيل و التيسير، و الرحمة ما يكون بالإنسانية فى عامة أمورها، و قد تكون الشدة فى بعض الأحوال من مقتضيات الرحمة؛ لأن رحمة الكافة قد تقتضى شدة على الظالمين.