کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4177
و جواب الشرط فى إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ هو قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ و يضل هنا معناها من كتب عليه الضلالة، و قدرها له فى قدره المحتوم، و لوحه المحفوظ، و ذلك لأنه سلك سبيل الغواية و لم يتفكر و يتدبر، و سيطرت عليهم أوهام المادة، و الجاه و السلطان و حب السيطرة فإنه تكتب عليه الضلالة، و لترك اللّه تعالى له سادرا فى غلوائه يكون كمن يضله.
وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ، أى لا أحد ينصرهم، و هذا يومىء إلى أنهم يعتريهم عذاب أليم، لا ينقذهم منه ولى و لا ناصر لهم، و فيه دلالة على أنهم ما داموا قد رتعوا فى الغى، فلا يمكن أن يكون لهم هاد مرشد، و هذا كقوله تعالى:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ... (56) [القصص].
و إن هذا الجحود سببه أمران:
الأمر الأول- الاستكبار، و قد تكلمت الآيات القرآنية فى آثاره.
و الأمر الثانى- جحود اليوم الآخر، و قولهم: إن هى إلا حياتنا الدنيا نلهو و نلعب، و قد بين اللّه تعالى حالهم فى جحودهم اليوم الآخر فقال تعالى:
وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38)، جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ، الجهد مصدر بمعنى الطاعة و القوة، و معنى أقسموا باللّه جهد أيمانهم أى جاهدين بأقصى قوتهم فى تأكيد يمينهم، و المقسم عليه لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ مأسورين فى ذلك بالحال التى وقعت، و هى الوقت و يحسبونه فناء لا حياة بعده، و يحسبون أنه لا شىء غير المادة، و لا يؤمنون بالمنشئ الموجد، و إن كانوا يقولون: اللّه خالق كل شئ، ولكنه قول لا يتغلغل فى قلوبهم، و يستمكن فى نفوسهم، روى البخارى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال فى حديث قدسى: «كذبنى ابن آدم و لم يكن له ذلك، و شتمنى و لم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياى فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى، و أما شتمه إياى فقوله اتخذ الله ولدا، و أنا الأحد الصمد لم ألد و لم أولد و لم يكن لى كفوا أحد» «1» .
(1) رواه البخارى: تفسير القرآن (4592). كما أخرجه النسائى: الجنائز (2051)، و أحمد: باقى مسند المكثرين (7873).
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4178
رد اللّه تعالى قسمهم الباطل بقوله تعالى- بلى- و هى تدل على الإجابة بالنفى و هو ما أكدوه، ثم أكد سبحانه و تعالى الجواب بالنفى بقوله تعالى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا و وعدا مصدر، و وصفه بأنه حق ثابت مستقر لا مجال لإخلافه، و قال تعالى: عَلَيْهِ ، أى أنه سبحانه التزمه، و كيف يترك ما التزمه و لا ملزم له، إنما هو الملتزم.
و بين سبحانه أن أكثر الناس غلبتهم المادة، و سيطرت عليهم الأحوال التى يرونها، و تركوا المغيب عنهم فلم يدركوه، و لم يؤمنوا بالغيب؛ و لذا قال تعالى:
وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ الاستدراك هنا من الوعد المؤكد الثابت الذى ألزم اللّه تعالى به نفسه، إذ كان الواجب عليهم أن يعلموا من قياس القابل على الحاضر و لكن أكثرهم لا يعلمون، أى ليس من شأنهم أن يدركوا، و أن يعلموا لأنهم لم يؤمنوا بالغيب، و لم يعرفوا قدرة ربهم، و ما المراد (بالناس)؟ إن أريد المشركون فكلهم لا يعلمون ذلك، و قيل المؤمنون، و إن أريد الناس جميعا، فإن أكثرهم لا يؤمنون بالعودة، و من اعتقد منهم لا يذعن، و إلا ما كانت المعاصى التى ترتكب جهارا، فهى لا ترتكب إلا من غفلة فى الإيمان باليوم الآخر، و قد بين اللّه تعالى الغاية من البعث، فقال تعالى:
(اللام) متعلقة بما قبلها، أى أنها فى مقام التعليل لوعد اللّه الحق الثابت المؤكد الذى ألزم اللّه تعالى به ذاته العلية، و المعنى أن اللّه تعالى ما خلق الناس عبثا كما فى قوله تعالى: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) [المؤمنون]، فاللّه تعالى لم يخلق الإنسان، و لم يجعله كالبهائم، بل خلقه و معه عقل يتفكر و يتدبر، و حيث كان التفكير، كان الحساب على الأفعال، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر، و الدنيا لا تتسع لكل حساب الأعمال، فلا بد من أخرى يحاسب فيها على جميع الأفعال، و الأناسى منهم المظلوم المحروم، و منهم الظالم
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4179
المجدود «1» ، فلا بد من يوم يستوفى فيه كل ذى حق حقه، ينال كل ثمرة ما كسب، و من نوع ما كسب.
و ذلك هو ما يكون بعد البعث، و هذا معنى ليبين لهم الذى يختلفون فيه من حق و باطل و عدل و ظلم، و يكون كل ذلك أمام الحكم الذى يفتح بين الناس، و يفصل بينهم بالحق و هو خير الفاصلين، وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ .
(اللام) هنا للعاقبة، بينما اللام الأولى للتعليل؛ و لذا كررت اللام لتغاير معناها، و معنى العاقبة أنهم كانوا يكفرون بالبعث، و يكذبون الرسل فى الدعوة إلى الإيمان، و يشركون و يكذبون الرسل فى الدعوة إلى التوحيد، فإذا كان البعث و الحساب و العقاب لمن أنكر و كابر و أشرك، و الثواب لمن آمن و أطاع و صبر و جاهد فإن عاقبة ذلك الذى يرونه حسيا أن يعلموا أنهم كانوا كاذبين فى كل ما ادعوا و أنكروا، و باهتوا الرسل و المؤمنين، و عبر بالموصول الَّذِينَ كَفَرُوا لبيان أن كفرهم هو السبب فى تكذيبهم، و أكد سبحانه و تعالى علمهم بكذبهم، أولا:
ب «أنّ» المؤكدة، و ثانيا: ب «كان» الدالة على دوامهم على الكذب بدوام كفرهم، و ثالثا: بالجملة الاسمية، و اللّه سبحانه يعلم الغيب فى السموات و الأرض و إليه ترجعون.
و إن السبب فى إنكارهم البعث هو أنهم مأسورون بالمادة و الحاضر الذى بين أيديهم و أنهم لا يقدرون قدرة اللّه تعالى حق قدرها؛ و لذا أشار سبحانه و تعالى إلى كمال قدرته على الخلق و التكوين، و أنه ليس إلا أن يريد الشىء فيكون، فقال اللّه تعالى:
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40).
إِنَّما «أداة قصر» أى أن خلق اللّه للأشياء محصور فى هذه الطريق السهلة التى لا تمتنع عليه بشىء، و لسنا نبحث فى سر الخلق و التكوين، فنسأل
(1) المجدود: اسم مفعول بمعنى المحفوظ. الصحاح/ جدد.
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4180
كيف خلق اللّه الناس، إنما نتعرف ذلك من قوله سبحانه، و هو يدل على أن اللّه تعالى يخلق الأشياء بإرادته المختارة، فلم تنشأ عنه الأشياء نشوء المعلول عن علته، فذلك و هم تعالى اللّه عنه سبحانه؛ و لذا قال سبحانه: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ ، أى حاله و شأنه فى قدرته و تكوينه للأشياء إِذا أَرَدْناهُ ، أى أراده بإرادة حرة مختارة، و أنه فعال لما يريد أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، أى احدث و كن شيئا مذكورا، فيكون، و معنى هذا أنه سبحانه و تعالى لا يصعب عليه شىء فى الوجود، فلا يتكلف كائن فى الوجود أكثر من قوله كن فيكون، و هذا تصوير لسهولة الخلق عليه تعالت قدرته، و ذلك كقوله تعالى: ... وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ... (77).
و هذا كله للعاقل المستبصر المدرك، و لقد كانوا يعجبون كيف يعودون. و لقد فنيت أجسام الأموات فقال تعالى مبينا أن شيئا لا يصعب على إرادته، فقال: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) [الإسراء].
المؤمنون
قال اللّه تعالى:
[سورة النحل (16): الآيات 41 الى 44]
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4181
الهجرة ترك الدار لغاية سامية أو لطلب الرزق، و قد حبب اللّه تعالى فى هاتين الحالتين، فقال تعالى: وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً ... (100) [النساء].
و قد كانت هجرتان: هجرة إلى الحبشة فرارا بالدين من الذين ظلموا، و من هؤلاء عثمان بن عفان و جعفر بن أبى طالب و عدد من الصديقين و الصديقات بلغت عدتهم ثمانين أو يزيد، و الهجرة الكبرى إلى المدينة و فيها هجرة النبى صلى اللّه عليه و سلم، و إن هذه ال سورة مكية، أى أنها كانت قبل الهجرة الكبرى فالذين هاجروا فى الآية هم المهاجرون إلى الحبشة.
و قوله تعالى: وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ الفاء هنا للسببية، أى لأجل اللّه تعالى، و ذكر الفاء يومىء إلى أنهم فنوا فى اللّه فصاروا لا يفكرون فى غيره، و صار هو ملء قلوبهم و نفوسهم و عقولهم، و أحاسيسهم فكلهم له سبحانه و تعالى لا يفكرون إلا فيه، و يهون كل عذاب فى سبيله.
و قال سبحانه و تعالى: مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا و ما هنا مصدرية، أى من بعد ظلمهم، و قد كتب اللّه تعالى لهم الجزاء الحسن لصبرهم على الأذى، و نزول الظلم بهم، و هجرتهم ببعدهم عن الخلان و الأحباب، و الديار و الأموال، و بيع أنفسهم للّه تعالى حتى لا يطلبوا إلا مرضاته.
و قد قال تعالى فى جزائهم: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، (اللام) لام القسم و هى مؤكّدة، و القسم مؤكد، و نون التوكيد مؤكدة، و الحسنة الأمر الذى يكون حسنا لا إساءة فيه فى ذاته و لا فى مغبته، و (نبوئنهم) نمكنهم فى الحسنة كأنهم يفتقدونها و يستمكنون منها، و الحسنة فى الدنيا التى نالت المؤمنين و المهاجرين من بعد هى العيش الحسن، و قد نزلوا من بعد الحبشة المدينة هم و من كانوا فى مكة يلاقون الظلم و الإيذاء بكل أنواعه و الاستهزاء و السخرية، فالتقوا فى دار الهجرة.
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4182
و من حسنة الدنيا النصر على الشرك و أهله، و غنائم النصر، و التعاون و الإخاء، و إقامة حياة فاضلة فى المدينة.
هذه حسنة الدنيا وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، (اللام) لام الابتداء للتوكيد، و أجر الآخرة أكبر لأنه نعيم مقيم و جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، فأكل الجنة دائم لا ينتهى، و قال: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، و الضمير فى يعلمون يعود إلى المؤمنين، و لَوْ تكون للتمنى، أى ليتهم يعلمون ذلك علم العيان و الرؤية، لا علم الخبر و الذكر، و فى ذلك بيان لفضله، و عظم شأنه، كأنه فوق الخيال و التصور، و اختار الزمخشرى أن يكون للكفار و لكنه بعيد، و قد قال تعالى فى سبب استحقاقهم ذلك الجزاء العظيم.
الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42).
الَّذِينَ عطف بيان للمهاجرين، لقد صبر المهاجرون أبلغ الصبر، صبروا على الذى نزل بهم، و الظلم الذى وقع عليهم و الاستهزاء و السخرية بهم، و تصغير شأنهم، و تحقير أمرهم، و كأنهم الأرذلون، و هم الأكرمون، و صبروا على ترك الأحباب، و ترك الأموال و ترك الديار.
صبروا على كل ذلك، و على أن المشركين حاولوا أن يسدوا باب الأمل فى نفوسهم لو لا فضل من اللّه و رحمة، ولكنهم مع ذلك كان أمامهم ربهم فتح لهم السدود، بالتوكل عليه؛ و لذا قال تعالى: وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، أى على ربهم وحده، لا على أحد سواه يتوكلون، و عبر بالمضارع لدوام توكلهم، و قدم الجار و المجرور على الفعل للتخصيص، أى على اللّه وحده يتوكلون فهو الذى يفتح لهم الأبواب التى يسدها الشرك، و يكون من ورائها الانتصار.
و لقد كان المشركون يعترضون على الرسالة المحمدية بأنها لرجل، و يريدون ملائكة، فبين اللّه تعالى أن الرسل جميعا من الرجال، فقال عز من قائل:
زهرة التفاسير، ج8، ص: 4183
ليس عجبا أن يوحى اللّه تعالى إلى رجل منكم، و ما كان محمد صلى اللّه عليه و سلم بدعا فى الرسل، بل كان الرسل من أقوامهم يحسون بإحساسهم، و يتألفونهم و يعرفونهم فى ماضيهم الطاهر المنزه، و لم يرسل رسولا إلا إذا كان من قومه و كان رجلا منهم؛ و لذا قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا ، فما أرسلنا ملكا؛ لأن طبيعته ليست من طبيعة الإنسان، و هو روح غير جسد، وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) [الأنعام]، الأمر أهو ملك، أما إنسان، و إن امتياز هذا الرجل الرسول من بينهم أنه يوحى إليه، و ينزل عليه جبريل الأمين برسالته؛ و لذا قال: نُوحِي إِلَيْهِمْ ، هذه قراءة بالنون المعظم للمتكلم، و هو اللّه تعالى، و أى متكلم أكبر و أعظم من رب البرية، و هذا كقوله تعالى فى آية أخرى:
وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ... (109) [يوسف]، و لقد قال سبحانه و تعالى على لسان رسوله: ... قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) [الإسراء].
و لقد نبههم سبحانه إلى أن عليهم أن يتعرفوا الأمر من أهل المعرفة، فقد كانوا أميين منقطعين عن الرسالة فأراد سبحانه أن يوجههم إلى سؤال أهل المعرفة: