کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4585
وصف لهؤلاء القوم، و هم كما يبدو أعلى درجة فى الإنسانية من الذين وجدهم فى مطلع الشمس الذين لم يجعل بينهم و بينها ستر، و معنى مِنْ دُونِهِما ، أى من وراء الجبلين، فهم لم يكونوا بينهم، بل كانوا وراء هذين الجبلين، أو وراء هذه البلاد التى فيها هذان الجبلان، فهم فى مقام أوغر منهما، و هم إلى الشمال أبعد و أعلى.
و قد وصفهم كما أشرنا إلى أنهم لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ، أى يقاربون ألا يفقهوا قولا، و هذا يدل على أنهم يفقهون بعض القول و لا يفقهونه كله.
و قال بعض المفسرين: إن ذلك سببه أنهم لا يعرفون لغة ذى القرنين و من معه، و لا يعرف لغتهم، و لكن ذلك لا يعبر عنه بنفى فقه القول؛ لأن فقه القول معرفة أسراره و مراميه، فلا ينفى بجهل معرفة اللغة، على أن المترجمين يغنون فى ذلك غناء كبيرا، و ذلك إن صح يكون عيبا فيهم، و عيبا فى الذين يخاطبونهم، فلا يختصون بالوصف، و الظاهر عندى أن المراد أنهم لا يدركون مرامى الأقوال و أسرارها و الأحكام التى تنظم العلاقات بينهم، و هذا الذى يتفق مع لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ ؛ لأن الفقه ليس مجرد المعرفة، إنما المعرفة التى يشق فيها غلاف الأمور لإدراك الحقائق، و ما وراء الألفاظ، و ذلك إلى العلم بالواجبات، و فقه الأقوال أقرب، و يكون المراد ليس عندهم علم بالعدل و نظام الحكم، و ما يجب لجلب المنافع و دفع المضار.
و لكنهم مع أنهم لا يعرفون الشرائع، و لا نظم الأحكام يرون المضار تتوالى عليهم من جيران أشد جهالة، و لا يخضعون لنظام، و لا يقرون حقوقا، و لا يخضعون لواجب، و هم يأجوج و مأجوج، و هم يسكنون فى مناطق منغوليا و منشوريا، أو هم منهم؛ و لذا لما وجدوا ذا القرنين و ما يحمل معه من نظم إصلاحية مانعة من الظلم دافعة للفساد.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4586
نادوا ذا القرنين بهذا اللقب مما يدل على أنه كان مشهورا بينهم، و على أنه كان متطامنا قريبا، و ذلك أول أمارات الحاكم الصالح بأن يكون قريبا منهم يألفهم، و يألفونه لا يكون متحجبا دونهم، حتى لا يصعب على صاحب الحق الوصول إليه
و يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ قبائل ما وراء جبال أرمينية، و هما اسمان ليسا عربيان، و قد كانوا يندفعون من وقت لآخر يفسدون الحرث، و يعبثون بكل قائم و لا يضبطهم أحد و لا قبل لأحد بدفعهم، و قد ذكر مولانا أبو الكلام زاده فى رسالته عن ذى القرنين أن لهم غارات متتالية عبر التاريخ فقال بعنوان: الأدوار السبعة لخروج يأجوج و مأجوج.
سهل علينا خروج هذه القبائل إلى سبعة أدوار:
الدور الأول منها كان قبل العصر التاريخى عندما بدأت هذه القبائل تهاجر من الشمال الشرقى و تنتشر فى آسيا الوسطى.
و كان الدور الثانى فى فجر التاريخ فترى فى ضوئه معالم عبارتين مختلفتين: حياة البداوة، و حياة الاستقرار، فتخلد القبائل المهاجرة إلى السكينة، و مباشرة الحياة الزراعية، إلا أن سيولا جديدة لا تزال تتدفق من الشرق، و مدى هذا الدور من 1500 إلى 1000 قبل الميلاد.
و يبتدئ الدور الثالث، من سنة ألف قبل الميلاد، فتجد قوما همجا من البدو فى بلاد بحر الخزر و البحر الأسود، ثم لا تلبث أن تظهر بأسماء مختلفة من جهات مختلفة، و أخذ بعضها يظهر على مسرح التاريخ من سنة 700 قبل الميلاد ...
أما الدور الرابع فينبغى أن نجعله فى سنة 500 قبل الميلاد الزمن الذى ظهر فيه عوزوش.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4587
و كان الدور الخامس فى القرن الثالث قبل الميلاد، و قد تدفق فيه سيل من القبائل المنغولية، و انصب على الصين، و فى هذا العصر بنى الجدار العظيم الذى اشتهر بجدار الصين، و قد بدأوا بنائه فى سنة 294 ق م و أتموه فى مدة عشر سنين .. و عاصر هذا الجدار حملات المغول فى الشمال و الغرب توجهوا إلى آسيا الوسطى من جديد.
ثم ذكر الدور السادس و السابع و كان ذلك بعد الميلاد، و لا يهمنا ذكرهما فى مقامنا و إن كان ذلك يهم المؤرخ المتقصى للحقائق المتعرف للأدوار الإنسانية فى عصورها المختلفة.
و إنه باستعراض هذه الأدوار نرى وجها تاريخيا، لمن قال إنه الإسكندر المقدونى:
أولا- لأنه بنى جدار الصين فى القرن الثالث قبل الميلاد و هو العصر الذى ظهر فيه الإسكندر؛ إذ كانت حياته فى القرن الثالث قبل الميلاد، و كون البناء منسوبا إلى ملك من ملوك الصين لا يمنع الاستعانة بالإسكندر.
و ثانيا- ما تضافر عليه المؤرخون العرب من أن بانى السد اسمه إسكندر ذو القرنين، و ليس ذا القرنين فقط.
و ثالثا- ما جاء من آثار من أن منشئ السد هو منشئ الإسكندرية.
و رابعا- أن وصفه بذى القرنين سائغ لأنه جمع بين تاج الجنوب و تاج الشمال لما جاء إلى مصر.
ننتهى من هذا إلى أن يأجوج و مأجوج قبائل من المغول، و أنه اشتد سيل فسادهم فى القرن الثالث قبل الميلاد عصر ظهور الإسكندر المقدونى، و اللّه أعلم.
و نعود فنكرر أن معرفة شخص الإسكندر لا يقدمنا فى ذكر معانى و لا يؤخرنا، ما دامت ألفاظه واضحة فى معانيها بينة فى أسلوبها و بيانها.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4588
لقد عرض أولئك القوم الذين كانوا بين السدين على ذى القرنين أو طلبوا منه أن يبنى لهم سدّا بعد أن شكوا له أن يأجوج و مأجوج مفسدون فى الأرض، و عرضوا عليه أن يجعلوا له خرجا على أن يبنى لهم سدا قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94)، الخرج قالوا إنه ضرائب يفرضونها على أنفسهم، و عبروا عن الضرائب بالخرج لأنها تخرج من أيديهم إليه، و لأنه يكون كخراج الأرض أو الأنفس على حسب ما يراه هو، إما أن يأخذ الضرائب على النفوس أو المال أو العقار، و قد عرضوا ذلك فى عبارات مقربة مدنية، فجعلوها على صورة استفهام، فقالوا كما حكى القرآن: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ، أى هل يسوغ أن تجعل لك خرجا، و الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، أى إذا كانوا مفسدين فاجعل لك خرجا على أن تبنى لنا سدا.
و لكن ذا القرنين العادل وجد أن من قوانين الحكم العادل أن يقوم بالإصلاح و دفع الفساد من غير أجر يدفع، بل إن عمل الخير ضريبة الحكم الصالح؛ و لذا قال:
الردم أقوى من السد، و قد قال فى ذلك الزمخشرى: رَدْماً ، أى حاجزا حصينا موثقا، و الردم أكبر من السد من قولهم ثوب مردم، أى رقاع فوق رقاع، أى أنى أبنى لكم سدا وثيقا قوى.
و المعنى ما مكنّى فيه ربى و وسع علىّ فيه و بسط لى خير من خرجكم، فلست مستعينا بخرج، و لكنى مستعين بقوة منكم، فأعينونى بقوة تحتمل العمل من رجالكم، أى فلست أحتاج إلى المال، و لكن أحتاج إلى أيد عاملة تعمل، و لقد قال القرطبى فى معنى هذه الآية الكريمة: «ما بسطه اللّه لى من القدرة و الملك خير من خرجكم و أموالكم، و لكن أعينونى بقوة الأبدان، أى برجال و عمل منكم بالأبدان و الآلة التى أبنى بها الردم و هو السد».
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4589
و لقد استنبط من هذا القصص عن ذى القرنين أنه لا يجوز للملك ما دام فى قدرة وسعة أن يفرض ضرائب ترهق، و يقول فى ذلك: «إن الملك فرض عليه يقوم بحماية الخلق فى حفظ بيضتهم، و سد فرجتهم، و إصلاح ثغورهم من أموالهم التى تفىء عليهم، و حقوقهم التى يجمعها فى خزائنهم حتى لو أكلتها و أنفذتها المؤن فكان عليهم جبر ذلك من أموالهم و عليه حسن النظر و ذلك بشروط ثلاثة:
الشرط الأول- ألا يستأثر عليهم بشىء.
و الشرط الثانى- أن يبدأ بأهل الحاجة.
و الشرط الثالث- أن يسوى فى العطاء «1» .
أخذ بعد ذلك ذو القرنين يبنى السد محكما لا يتفلت منه أحد إليهم.
زُبَرَ الْحَدِيدِ قطع الحديد الكبيرة، حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ الصدفان: جبلان جعل السد بينهما، و بعد أن وضع الحديد من قطع كبير علا بها حتى تساوى مع أعلى الجبلين و تنضد الحديد بينهما تنضيدا، جمع الأحطاب، و أشعل فيها النار ليصهر الحديد، قالَ انْفُخُوا ، أى فى الحديد الذى ساوى فيه بين الصدفين، و ساماهما، أى انفخوا فى مشعل الأحطاب، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً صهره و احمر انصهر، و صار نارا باحمراره بارتفاع درجة حرارته ارتفاعا شديدا، و صار لونه أحمر شديدا يتلظى بعد هذا العمل، قالَ آتُونِي النداء للعمال الذين قاموا بزبر الحديد و صهروها، أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ، و هو النحاس المصهور المذاب.
و لعله جعل النحاس طبقة فوق الحديد تربط أجزاءه و تسوى جدار سطحه.
(1) من الجامع لأحكام القرآن للقرطبى: 11/ 55.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4590
و نراه صار مكونا من حديد ممسوكا بالنحاس، فصار قويا سادّا كل الثغرات، و بذلك صار مرتفعا عاليا فوق طاقتهم أن يرتفعوا إلى أعلاه، و ينزلوا إلى أسفله عند الذين استغاثوا منهم؛ و لذا قال تعالى:
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97).
إذا كان قد بنى ذلك البناء المحكم، و بأدوات قوية لا تنقض، و بهندسة نضدت زبر الحديد، و أسكب ذوب النحاس، فإن يأجوج و مأجوج لا قبل لهم بالوصول إلى أرضهم يبيدون فيها الحرث و النسل.
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ، أى أن يعلو إلى ظهره، لأنه بنى مرتفعا ارتفاعا فوق طاقتهم أن يصعدوا إليه، وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً و ما استطاعوا أن ينقبوه فى جانب من جوانبه؛ لأنه حديد مصهر ثم تجمد مستقا.
و بعد أن وفق ذو القرنين ذلك التوفيق.
بعد أن عمل ذلك العمل- الذى لا مثيل له فى تاريخ البشر إلى عصر من عمله- لم ينسبه إلى نفسه، بل جعله من ربه، و الإشارة فى هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي إلى أن البناء و تدبيره، و مادته، ليس من قدرة الإنسان إنما هو من توفيق الديان و قال: إنه من رحمة اللّه بعباده؛ لأن من رحمته تعالت قدرته أن الفساد و أهله يدفع بأهل الخير و الصلاح ... وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) [البقرة].
و لم ينس اليوم الآخر، و البعث فجعل الحد لزمانه هو يوم البعث، فقال:
فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ، أى يتدكد و يجعله أرضا مستوية، لا علو فيها، و لو كان من حديد و نحاس.
ثم أكد البعث فقال: وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا لا يرتاب فيه عاقل، و اللّه أعلم.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4591
ترك المفسدين إلى يوم الحشر
قال اللّه تعالى:
[سورة الكهف (18): الآيات 99 الى 106]
انتهت الآيات السابقة ببناء إسكندر ذى القرنين للسد، و كان ذو القرنين صورة للحاكم المجاهد الذى يعمل لمصلحة من يحكمهم يجلب الخير لهم، و يعمل ما يصلحهم، و يدفع الفساد و المفسدين، و قد دفعه و ترك يأجوج و مأجوج يفسدون فيما بينهم.
و لقد قال تعالى بعد أن ذكر بناء الحاكم الصالح للسد، و إحكام بنيانه:
وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99).