کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4588
لقد عرض أولئك القوم الذين كانوا بين السدين على ذى القرنين أو طلبوا منه أن يبنى لهم سدّا بعد أن شكوا له أن يأجوج و مأجوج مفسدون فى الأرض، و عرضوا عليه أن يجعلوا له خرجا على أن يبنى لهم سدا قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94)، الخرج قالوا إنه ضرائب يفرضونها على أنفسهم، و عبروا عن الضرائب بالخرج لأنها تخرج من أيديهم إليه، و لأنه يكون كخراج الأرض أو الأنفس على حسب ما يراه هو، إما أن يأخذ الضرائب على النفوس أو المال أو العقار، و قد عرضوا ذلك فى عبارات مقربة مدنية، فجعلوها على صورة استفهام، فقالوا كما حكى القرآن: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ، أى هل يسوغ أن تجعل لك خرجا، و الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، أى إذا كانوا مفسدين فاجعل لك خرجا على أن تبنى لنا سدا.
و لكن ذا القرنين العادل وجد أن من قوانين الحكم العادل أن يقوم بالإصلاح و دفع الفساد من غير أجر يدفع، بل إن عمل الخير ضريبة الحكم الصالح؛ و لذا قال:
الردم أقوى من السد، و قد قال فى ذلك الزمخشرى: رَدْماً ، أى حاجزا حصينا موثقا، و الردم أكبر من السد من قولهم ثوب مردم، أى رقاع فوق رقاع، أى أنى أبنى لكم سدا وثيقا قوى.
و المعنى ما مكنّى فيه ربى و وسع علىّ فيه و بسط لى خير من خرجكم، فلست مستعينا بخرج، و لكنى مستعين بقوة منكم، فأعينونى بقوة تحتمل العمل من رجالكم، أى فلست أحتاج إلى المال، و لكن أحتاج إلى أيد عاملة تعمل، و لقد قال القرطبى فى معنى هذه الآية الكريمة: «ما بسطه اللّه لى من القدرة و الملك خير من خرجكم و أموالكم، و لكن أعينونى بقوة الأبدان، أى برجال و عمل منكم بالأبدان و الآلة التى أبنى بها الردم و هو السد».
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4589
و لقد استنبط من هذا القصص عن ذى القرنين أنه لا يجوز للملك ما دام فى قدرة وسعة أن يفرض ضرائب ترهق، و يقول فى ذلك: «إن الملك فرض عليه يقوم بحماية الخلق فى حفظ بيضتهم، و سد فرجتهم، و إصلاح ثغورهم من أموالهم التى تفىء عليهم، و حقوقهم التى يجمعها فى خزائنهم حتى لو أكلتها و أنفذتها المؤن فكان عليهم جبر ذلك من أموالهم و عليه حسن النظر و ذلك بشروط ثلاثة:
الشرط الأول- ألا يستأثر عليهم بشىء.
و الشرط الثانى- أن يبدأ بأهل الحاجة.
و الشرط الثالث- أن يسوى فى العطاء «1» .
أخذ بعد ذلك ذو القرنين يبنى السد محكما لا يتفلت منه أحد إليهم.
زُبَرَ الْحَدِيدِ قطع الحديد الكبيرة، حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ الصدفان: جبلان جعل السد بينهما، و بعد أن وضع الحديد من قطع كبير علا بها حتى تساوى مع أعلى الجبلين و تنضد الحديد بينهما تنضيدا، جمع الأحطاب، و أشعل فيها النار ليصهر الحديد، قالَ انْفُخُوا ، أى فى الحديد الذى ساوى فيه بين الصدفين، و ساماهما، أى انفخوا فى مشعل الأحطاب، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً صهره و احمر انصهر، و صار نارا باحمراره بارتفاع درجة حرارته ارتفاعا شديدا، و صار لونه أحمر شديدا يتلظى بعد هذا العمل، قالَ آتُونِي النداء للعمال الذين قاموا بزبر الحديد و صهروها، أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ، و هو النحاس المصهور المذاب.
و لعله جعل النحاس طبقة فوق الحديد تربط أجزاءه و تسوى جدار سطحه.
(1) من الجامع لأحكام القرآن للقرطبى: 11/ 55.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4590
و نراه صار مكونا من حديد ممسوكا بالنحاس، فصار قويا سادّا كل الثغرات، و بذلك صار مرتفعا عاليا فوق طاقتهم أن يرتفعوا إلى أعلاه، و ينزلوا إلى أسفله عند الذين استغاثوا منهم؛ و لذا قال تعالى:
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97).
إذا كان قد بنى ذلك البناء المحكم، و بأدوات قوية لا تنقض، و بهندسة نضدت زبر الحديد، و أسكب ذوب النحاس، فإن يأجوج و مأجوج لا قبل لهم بالوصول إلى أرضهم يبيدون فيها الحرث و النسل.
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ، أى أن يعلو إلى ظهره، لأنه بنى مرتفعا ارتفاعا فوق طاقتهم أن يصعدوا إليه، وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً و ما استطاعوا أن ينقبوه فى جانب من جوانبه؛ لأنه حديد مصهر ثم تجمد مستقا.
و بعد أن وفق ذو القرنين ذلك التوفيق.
بعد أن عمل ذلك العمل- الذى لا مثيل له فى تاريخ البشر إلى عصر من عمله- لم ينسبه إلى نفسه، بل جعله من ربه، و الإشارة فى هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي إلى أن البناء و تدبيره، و مادته، ليس من قدرة الإنسان إنما هو من توفيق الديان و قال: إنه من رحمة اللّه بعباده؛ لأن من رحمته تعالت قدرته أن الفساد و أهله يدفع بأهل الخير و الصلاح ... وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) [البقرة].
و لم ينس اليوم الآخر، و البعث فجعل الحد لزمانه هو يوم البعث، فقال:
فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ، أى يتدكد و يجعله أرضا مستوية، لا علو فيها، و لو كان من حديد و نحاس.
ثم أكد البعث فقال: وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا لا يرتاب فيه عاقل، و اللّه أعلم.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4591
ترك المفسدين إلى يوم الحشر
قال اللّه تعالى:
[سورة الكهف (18): الآيات 99 الى 106]
انتهت الآيات السابقة ببناء إسكندر ذى القرنين للسد، و كان ذو القرنين صورة للحاكم المجاهد الذى يعمل لمصلحة من يحكمهم يجلب الخير لهم، و يعمل ما يصلحهم، و يدفع الفساد و المفسدين، و قد دفعه و ترك يأجوج و مأجوج يفسدون فيما بينهم.
و لقد قال تعالى بعد أن ذكر بناء الحاكم الصالح للسد، و إحكام بنيانه:
وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99).
الضمير فى بَعْضَهُمْ يعود إلى يأجوج و مأجوج، فانحصر شرهم، و لم يتعد فسادهم إلى غيرهم، فالجماعة الشريرة إذا لم يمكن إصلاحها يكون علاج الناس بالوقاية منها و إبعادهم عنها.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4592
و يصح أن يكون الضمير فى بعضهم يعود إلى الخلق على أساس أنه حاضر فى العقل معنى المخلوقات، و قد ساق ذلك الرأى الزمخشرى على أنه هو الظاهر المتبادر، و غيره هو غير الظاهر و غير المتبادر.
و يكون المعنى على أن الضمير يعود إلى الخلق أن اللّه تعالى خلق الناس بغرائز قد تتعارض رغباتها، فيكون منهم المسىء و يكون المحسن و يتنازعون أو يتخالفون، أو يعتدى بعضهم على بعض حتى يكون يوم الفصل، و دعوة الجميع إلى الحشر.
و قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ ، أى فى الدنيا، حيث الاختبار، و التدافع بين الحق و الباطل و الخيز و الشر، و الصلاح و الفساد، و قوله: يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ، أى أن بعضهم يتدافع مع البعض تدافع الأمواج و هى مصطحبة فيتدافع الأخيار مع الأشرار تدافع الأمواج يدفع بعضها بعضا، و هى تعلو و تنخفض.
حتى يدعوا جميعا إلى اللّه تعالى، و عبر عن ذلك بقوله: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ، أى ناديناهم كما ينادى القائد الجند فينفخ فى الصور فيجمعهم جمعا، لا يتخلف منهم أحد، و قد شبه فى هذا إعادة الناس و البعث و النشور و خروجهم من فورهم من كل حدب ينسلون بالقائد، عندما ينفخ فى البوق للجند، و فى هذا إشعار بأن البعث لا يكون بأكثر من قول اللّه تعالى: ... كُنْ فَيَكُونُ (68) [غافر] و قوله تعالى: فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً فيه أمران بيانيان:
الأمر الأول- أنه عبر بالماضى و هو للمستقبل، لتأكيد الوقوع.
الأمر الثانى- أنه ذكر المصدر لتأكيد أن البعث يعم الجميع، و لا يتخلف عنه أحد.
و إنه عقب البعث تكون القيامة و تكون الحقائق مرئية لهم بالعيان؛ و لذا قال تعالى:
وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100).
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4593
و يَوْمَئِذٍ هو يوم القيامة، أى عرضنا جهنم للكافرين بسبب كفرهم عرضا، أى يرونها رأى العين من غير غشاوة تحول بينهم و بين رؤيتها، و الإتيان بالمصدر لتأكيد أنهم يرون ذلك رأى العين، و لا يخفى عليهم من نتائج أعمالهم شىء من الخفاء.
و خص الكافرين بذكر العرض مع أنها تكون معلومة للجميع لأنهم أهلها، و لأنهم الذين كانوا يتغافلون، و هم الذين كانوا ينكرون البعث و ما وراءه.
و لقد قال تعالى كيف كانت حالهم بالنسبة لذكر اللّه للعذاب و الثواب و البعث، فقال عز من قائل:
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101).
الموصول بدل أو عطف بيان، و هو يشير إلى سبب اختصاصهم بالعرض؛ إذ إنهم كانوا لا يرونها بعين الاعتقاد، و لا يستمعون إلى ذكرها بأذن الحق و الإنصات إليه.
كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ، الذكر مضاف إلى اللّه تعالى، أى الأمور التى تذكر باللّه تعالى و قدرته الباهرة القاهرة على كل شىء و إلى آياته فى الكون و دلائل قدرته على إعادتهم كما بدأهم، و شبه حالهم فى عدم إدراكهم للحق من آيات اللّه تعالى بحال من يكون أمام المبصرات، و لكنه وضع على عينيه غطاء يجعله لا يرى و لا يبصر، و يكون قوله تعالى: عَنْ ذِكْرِي مقويا لمعنى التشبيه و مع أنهم كانوا لا يرون الآيات للغطاء الذى وضعوه على أعينهم كانوا لا يستمعون إلى الداعى إلى الحق إذا دعاهم فهم قد سدت أمانيهم كل وسائل الإدراك.
فهم لا يرون الآيات بأنفسهم فهم على أعينهم غطاء، أو كمن يكونون على أعينهم، و لا يستطيعون سماع الحق؛ لأن أهواءهم و شهواتهم و غرورهم بهذه الدنيا التى أغرتهم بغرورها و زخرفها و زينتها قد حالت بينهم و بينه، و شبه إعراضهم عنه
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4594
و عدم قبول قول رسلهم بمن أصيب بصمم، و لم يستطع سماع القول الهادى المرشد.
و قد بين اللّه سبحانه و تعالى أنه لن يتركهم فى ضلالهم من غير مرشد، و ألا يتخذ لهم عقابا، فقال تعالى:
(الفاء) فى أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا مؤخرة عن تقديم، و هى فى معنى السببية لعرض جهنم على الكافرين عرضا، و الهمزة قدمت؛ لأن الاستفهام له الصدارة معناه ظنوا، أو بعبارة أدق معناها توهموا؛ لأن الظن يكون له وجه من الصدق، و الاستفهام للتوبيخ؛ لأن الكافرين فعلا توهموا ذلك، و قالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نلهو و نلعب، و ما كنا مبعوثين.
و قد أشار سبحانه و تعالى إلى سبب توبيخهم، أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ، أى أنصارا يوالونهم أو آلهة يعبدونها و مِنْ دُونِي ، أى من غيرى، و هنا كلام محذوف دل عليه قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا ، أى يحسبون مع اتخاذهم أندادا يعبدونها أو أنصارا يقاومون بهم حكم اللّه فيهم، و نتركهم من غير مؤاخذة أو لا نحاسبهم على ما يفعلون، و هذا كقوله تعالى: