کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4895
وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أى و جعلنا إبراهيم و ذريته أئمة أى رؤساء يوجهون و يرشدون، و يقتدى بهم، و يكونون قوة للخير و الهداية يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ، أى يدعون بدعاية الله، و إضافة الهداية إلى أمر الله للإشارة إلى طاعتهم أولا، و لبيان صواب ما يدعون إليه و أنه الحق لا ريب فيه وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أى ألهمنا نفوسهم و قلوبهم فعل الخيرات و هديناهم إليها، بما أوحينا به لرسلهم الذين جاءوا رسولا بعد رسول، كما قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ... (44) [المؤمنون] أى رسولا بعد رسول، و كل أولئك فى ذرية إبراهيم عليه السلام و الخيرات جمع خير، و هو كل ما فيه نفع للناس، و يقصد به فعله لنفعه للناس، و لإرضاء الله تعالى ثم قال سبحانه: وَ إِقامَ الصَّلاةِ أى أداءها على وجه أكمل من خضوع و خشوع، و استحضار لذات الله كأنهم يرونه، و إذا لم يروه يحسون بأنهم فى حضرته يرجون رحمته و يخافون عذابه و يطلبون محبته و رضوانه، وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ ليكون المجتمع كله متعاونا بارا يبر بعضه بعضا وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ أى كانوا فى كل أحوالهم و أعمالهم عابدين لله تعالى، و كل عمل فيه عبادة إذا قصد بإتقانه إرضاء الله وحده و محبته سبحانه، كما قال النبى صلى اللّه عليه و سلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشىء لا يحبه إلا لله» «1» .
و فى قوله تعالى: وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ تقديم الجار و المجرور، و هذا يفيد الاختصاص أى لنا وحدنا لا يشركون بى شيئا، و الجملة تدل على استمرار العبادة أولا؛ لوجود «كان» الدالة على الاستمرار، و ثانيا الوصف عابِدِينَ أى مستمرين حتى تصير العبادة وصفا لهم فهم فى عبادة مستمرة آناء الليل و أطراف النهار.
بعد أن ذكر الله سبحانه و تعالى إشارات بينة إلى إبراهيم و بنيه، و يعقوب و ذريته عاد إلى لوط بعد نجاته فقال:
(1) سبق تخريج ما في معناه من أحاديث.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4896
وَ لُوطاً منصوب بفعل محذوف تقديره: و اذكر لوطا، و خص لوطا بالذكر، و لم يذكر قوم لوط لحقارتهم و مهانتهم و سوء أفعالهم، و خبيثة نفوسهم حتى انحطوا عن مرتبة الحيوانية فى شذوذ الفطرة، و فى ذكر لوط منفردا عن قومه تنويه بشأنه، و رفعة لذكره، و بيان أنه لا يضر النبى صلى اللّه عليه و سلم أن يكون قومه مفسدين غير مهديين، فإنه جاء لهداية الضال و إصلاح الفاسد، فإن لم يصلحوا دمر الله عليهم و أنشأ قوما آخرين.
آتَيْناهُ حُكْماً الحكم هنا الحكمة و الحلم و الصبر على معاشرة المفسدين، و إلا فأى حكمة أوتيها ذلك النبى الكريم الذى استطاع بها أن يعاشر أولئك الشواذ من الإنسانية يدعوهم و يأخذهم بالهداية و الإرشاد و الرفق فى القول و يستمر فى رعايتهم هاديا مرشدا من غير سأم و لا ملال، حتى إذا جاءه ملائكة الله يبدو سوء نفوسهم و يظهر حتى يداريهم ليسكتوا فلا يسكتون. وَ عِلْماً و هو علم النبوة و بعثه، و ما أجدت دعوته فحقت عليهم كلمة العقاب و حقت للوط النجاة، كما تنجو الفضيلة من ردغة «1» الرذيلة على أقبح صورها، و لذا قال تعالى: وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ أى نجيناه سالما طاهرا مطهرا مِنَ الْقَرْيَةِ أى المدينة العظيمة، أو المدائن العظيمة، و ذكرت بالمفرد لإرادة جنس هذه القرية الموصوفة بذلك الوصف المشئوم البغيض، الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ ، و هى جمع خبيثة، و لا يمكن أن توصف إلا بهذا الوصف أو ما يشبهه، و لقد قال تعالى فيها ... أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) [الأعراف] و وصفت القرية بأنها كانت تأتى الخبائث مع أن الذى يفعلها آحادها، و لكن لأنها عمت و طمت كأنما صارت الأرض ذاتها تفعلها، و لقد قال تعالى بعد ذلك: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ أعيد الضمير على أهل القرية لأنهم الذين فعلوا ما فعلوا حتى صاروا عار هذه القرى الظالمة، و هذه الجملة السامية: إِنَّهُمْ كانُوا فى مقام سبب ما فعلوا و يفعلون من خبائث.
و «السوء» ما يسوء و يؤذى النفس و الطبائع السليمة، فاسِقِينَ شاذين خارجين على الفطرة الإنسانية إذ انهووا إلى ما دون الحيوان.
(1) الرّدغة، محرّكة، و تسكّن: الماء، و الطين، و الوحل الشّديد. القاموس المحيط- ردغ.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4897
و أكد سبحانه وصفهم بالسوء و الفسق أولا، ب كانُوا أى استمروا عليه، و إضافتهم إلى السّوء، كأنما هم أهله لا يخرجون عن حيّزه، و لا يخرج عنهم ثانيا، و التعبير باسم الفاعل فى قوله تعالى: فاسِقِينَ و بالجملة الاسمية و تصديرها ب «إنّ»، و الله عليم بخلقه و شئونه.
نجى الله تعالى لوطا من هذه الدولة الظالمة فقال سبحانه:
وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ .
رحمة الله التى شرفها بالنسبة إليه سبحانه، هى هجرته منهم، و نجاته من الهلاك الذى كتب لهم و إيتاؤه حظه فى الآخرين، و التجاؤه له سبحانه كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ... (26) [العنكبوت]، و قال تعالى: إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ و هذا بيان لاستحقاقه رحمته سبحانه، و قد شرفه سبحانه بأن وصفه من بأنه من الصالحين.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 76 الى 80]
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4898
[سورة الأنبياء (21): الآيات 81 الى 82]
هذا وصل للكلام السابق من أخبار إبراهيم و لوط و الأنبياء من ذرية إبراهيم عليهم السلام، و فى قصصهم عبرة لأولى الألباب، و تسرية عن النبى صلى اللّه عليه و سلم عن سوء ما يرتكبه معه المشركون من شطط فى القول، و إسراف فى استهزائهم، و الله مستهزئ بهم، قوله:
وَ نُوحاً منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر، أى اذكر نوحا و إيذاء قومه، و قد تشابهت أقوالهم مع أقوال المشركين للنبى صلى اللّه عليه و سلم، لتشابه القلوب و المقاومة و طرائقها، فالناس أولاد الناس، إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ نادى ربه مستغيثا بالله و ذلك فى قوله: ... رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27) [نوح] دعا نوح ربه ذلك الدعاء، أو ناداه ذلك النداء فأجابه سبحانه فقال: فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، «الفاء» للترتيب و التعقيب، و المراد بالتعقيب تأكيد الإجابة، و قد قال تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ الاستجابة شدة الإجابة؛ لأن السين و التاء للطلب، أى أن الطلب طلب الإجابة و أرادها له؛ و لذا كانت التعدية ب «اللام» مع أن «أجاب» تتعدى بنفسها، و لكن كانت «اللام» لشدة الإجابة؛ لأنها بطلب الله، مع أن «أجاب» تتعدى بنفسها، و لكن كانت «اللام» لشدة الإجابة؛ لأنها بطلب الله، و تشدده فى الطلب لأجل نوح عليه السلام، و أنه إذ استجاب له سبحانه و نجاه و أهله من الكرب العظيم، و قال سبحانه:
فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ حيث أرادوا إيذاءهم، و حيث كان كرب الطوفان؛ إذ أحاط بهم الماء من كل جانب، و ركب فى السفينة من أراد الله إنجاءه.
و (نصرنا) معناها انتصرنا له من القوم الذين كذبوا، ف «نصرناه» متضمنة انتصرنا؛ لأن «انتصر» تتعدى ب «من»، و كانت له محذوف دلت عليها لَهُ فى
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4899
قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ و المعنى انتصفنا له منهم إذ ظلموه بالعناد و السخرية و التحدى و الإنكار المستمر، و المجادلة بالباطل حتى يئس من إيمانهم، و قال الله تعالى له: ... لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) [هود] و قد بين سبحانه استحقاقهم لما نزل بهم، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ هذا بيان لاستحقاقهم ذلك الإغراق و إزالتهم من الوجود، و ألا يبقى من ذريتهم أحد إذ لا يلدون إلا فاجرا كفارا، و السّوء: هو ما يسوء الناس و يؤذيهم، و أضيف السوء إليهم؛ لأنهم لا يصدر عنهم إلا ما يسوء، و بسبب ذلك أغرقهم الله أجمعين، و لم يبق إلا من حملته السفينة المباركة.
قصص أنبياء من أولاد يعقوب كانوا بعد موسى
«الواو» وصلة الأخبار فى قصص النبيين، و (داود) منصوب بفعل محذوف تقديره «اذكر»، و المخاطب النبى صلى اللّه عليه و سلم تسرية له فى الشدائد و الكروب التى كان فيها و هى تسرية فيها أخبار جدية تبين أحكاما لنظام الحق و إدراكه، فهى ليست تسرية بلهو، بل هى أخبار فيها طرافة، و فيها تنبيه لتنظيم العدالة و التفكير.
إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ، إِذْ الأولى تتعلق بالفعل المحذوف «اذكر»، و إِذْ الثانية متعلقة ب يَحْكُمانِ ، الْحَرْثِ : الأرض المزروعة، سميت بمصدر حرث يحرث و هو قلب الأرض، و يطلق «الحرث» على الأرض المحروثة و على الزرع نفسه، و نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أى انتشرت فيه الغنم فأتلفته، و أصبح غير ذى قيمة، و قد تحاكم الخصمان صاحب الحرث و صاحب الغنم إلى داود عليه السلام.
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4900
و جاءت الروايات بأن داود عليه السلام حكم بأن يأخذ صاحب الحرث الغنم فى مقابل ما أتلفت الغنم من الحرث، و كانت القيمتان متقاربتين.
و لكن سليمان- عليه السلام- رأى أن خيرا من هذا أن يأخذ صاحب الحرث الغنم تدر عليه لبنها و يستولى على منافعها، و يأخذ الآخر الأرض يحرثها، و كأن أجرة الأرض تكون هى منافع الغنم وردها.
و قد ذكر الله سبحانه و تعالى أنه هو الذى أفهم سليمان هذا الحكم فقال عز من قائل:
دل هذا القول على أن حكم سليمان كان بإلهام من الله، و يومئ إلى أنه كان الحق، و إن لم يكن حكم داود كان باطلا، فقد بذل فيه سبيل الاجتهاد، و كان مقاربا، و لم يكن مناقضا للحق، و الأحكام تبنى فى الدنيا على المقاربة، و لو كان القاضى نبيا جعله الله تعالى خليفة فى الأرض ما دام الحكم لا شطط فيه؛ و لذا قال تعالى: وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً أما العلم فعلم النبوة، و أما الحكم فقالوا إن الحكمة و القدرة على فهم الأمور و دراستها من كل جوانبها، و يصح أن نقول: إن المراد بالحكم أهلية الفصل بين الخصوم، و قد ذكر سبحانه و تعالى أنه كان شاهدا مقرا لحكمهم.
و يلاحظ هنا أن الحكم الذى أقره الله تعالى أو كان عليه شاهدا، و هو حكم داود عليه السلام و حكم ابنه سليمان هو جزاء مشتق من ذات الاعتداء و لو بالتسبب، فإن صاحب الغنم تركها من غير أن يراقبها و يحفظها فنفشت فى الحرث، فكان الجزاء من ذات موضع الاعتداء، فقدره داود بأن تؤخذ الغنم فى نظير الزرع لأن قيمتها كانت تساوى الزرع، و بذلك كان الجزاء من جنس الاعتداء و هو مقارب، و أفهم الله تعالى سليمان أن يجعل الاعتداء جزاءه مماثلا و لو فى الظاهر لموضع الاعتداء فكان أن يترك صاحب الحرث لصاحب الغنم يحرثها و يزرعها، حتى إذا
زهرة التفاسير، ج9، ص: 4901
علا و استغلظ أو صار كالأول سلّمه ورد الغنم إلى صاحبها و كان صاحب الحرث قد أخذ عوض التأخير بدرّ الغنم و منافعها.
و فى هذا الجزاء مقاربة للعدالة و المساواة و فيه تعاون، و فيها فائدتان:
الأولى: أن يكون فضل تعاون، و الثانية: أنه مساواة أو مقاربة من المساواة.
و قد أثبت علماء البحث فى العصر الحاضر أن أقرب الجزاء إلى تهذيب النفوس أن يكون العقاب من جنس الاعتداء؛ لأنه يجعل الجانى أو المهمل يحس بالجزاء و هو يقع فى الجريمة أو الخطأ، فيكون ذلك أدعى إلى الامتناع أو التوقى.
و إن قصة هذا الحكم إرشاد للحكام إلى أقرب الطرق إلى تحقيق العدالة فى هذه الدنيا، و قال تعالى فيما مكن الله به لداود، فقال عز من قائل:
وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ كرم الله تعالى داود بأمرين: أولهما: أنه سخر له الجبال تتحرك بإرادته و تسكن، و تسبح بأمره عليه السلام، و لسنا نستغرب شيئا من ذلك لأننا نؤمن بالقوة الغيبية، يبثها الله، و لا يمارى فيها إلا الذين لا يؤمنون إلا بالمادة و ظواهرها، و كذلك سخر الله تعالى له الطير، و روى أن الجبال كانت تجاوبه فى تسبيحه، و كذلك الطير، و لا غرابة فقد قال الله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ... (1) [الجمعة] و قال تعالى:
وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ ... (13) [الرعد] و قال الله فى داود: ... يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) [سبأ]، أى أن هذه إرادة الله، و لا مشاحة «1» له فيما يريد، و قال تعالى:
وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ
عَلَّمْناهُ التعليم هنا الإلهام و التوفيق و المرانة على عمل ما، و هو بتوفيق الله تعالى، و ينسب إليه لأنه لا شىء إلا بإرادته و توفيقه، و «الصنعة» هى الصناعة