کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5122
و أضاف سبحانه و تعالى الآيات إلى ذاته العلية؛ لأنها آياته إذ هو كلام اللّه تعالى، و هو تشريف لها، و بيان عظم جرمهم فى تكذيبهم، إذ يكذبون اللّه سبحانه و تعالى، و قوله تعالى: فَكُنْتُمْ و (الفاء) للترتيب و التعقيب، أى فكنتم فور تلاوتها تسارعون بالتكذيب من غير تأمل و تدبر، و إنهم يكذبونها و يكذبون النبى صلّى اللّه عليه و سلّم مع إقامته الحجة، و عجزهم عن أن يأتوا بمثله، و يكذبون اللّه تعالى منزل الخلق، و الذى خاطب خلقه، و عدّى التكذيب بالباء للإشارة إلى أن موضوع التكذيب آيات اللّه، أى أنهم كذبوا النبى، و كان موضوع تكذيبهم آيات اللّه تعالى خالق كل شىء.
و قد أجاب المشركون يوم القيامة:
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106).
قالوا يوم القيامة عارفين ربهم مخاطبين له بلفظة: رَبَّنا إذعانا لمعنى الربوبية الذى كانت أعمالهم منكرة له، و الشقوة بكسر الشين كردة، معناها الشقاوة و الشقاء و هو ضد السعادة، و لعل المراد بالملاذ و الأهواء و الشهوات الجامحة فهى التى غلبت عليهم و أنستهم أنفسهم و الحق، و يكونون قد عبروا عن المسبب و أرادوا السبب على سبيل المجاز المرسل، و كأن المعنى سيطرت علينا ملاذنا التى أدت بنا إلى هذا الشقاء، و قد صرحوا بذلك و بأنها أدت بهم الشهوات إلى الضلال فقالوا: وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ، أى استمررنا ضالين؛ لأن «كان» تدل على الاستمرار، أى عشنا حياتنا كلها ضالين الحق مجانبين الصواب، و ذكر (قوما) للدلالة على أنهم تعاونوا على الإثم و العدوان، و قاوموا الحق، و ضلوا مجتمعين.
أقروا بضلالهم، و لكنهم حسبوا أنهم إن عادوا أصلحوا من أمرهم، قالوا:
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107).
ابتدءوا متضرعين متقدمين فى ندائهم بالربوبية الكالئة معترفين أَخْرِجْنا مِنْها الضمير يعود إلى الجحيم، على ألا يعودوا إلى ما كانوا عليه من كفر و فساد فى الأرض، و خروج عن كل جادة مستقيمة فَإِنْ عُدْنا ، أى إلى ما كنا عليه من شرك
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5123
و عصيان، فَإِنَّا ظالِمُونَ الفاء واقعة فى جواب الشرط، حكموا على أنفسهم بأنهم يكونون ظالمين، أى يكون الظلم وصفا مستمرا لهم، و كأنهم يومئون إلى أنهم لم يكونوا ظالمين من قبل، أو كأنهم لم يعدوا الإعلام السابق عن طريق النبيين ليس معدودا فى الإعلام، و كأنه لا إعلام إلا بالعذاب، و قال تعالى: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ... (28) [الأنعام].
أجابهم اللّه فى ذلك بقوله: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (108).
القائل كما يظهر من ثنايا القول هو اللّه جل حلاله، اخْسَؤُا أى ابعدوا وَ لا تُكَلِّمُونِ ، ياء المتكلم محذوفة و المعنى «لا تكلمونى»؛ و ذلك لأن كلام اللّه تعالى منزلة من الرضا لا يصل إليها إلا الأبرار المتقون الذين يكلمهم اللّه و ينظر إليهم و يزكيهم، أما هؤلاء فهم مطرودون من رحمته محرومون من رضاه، و ذلك رد عنيف لطلبهم أن يخرجوا كأنهم يخدعون ربهم، و حالهم فى الدنيا كاشف، و قد كانوا يتضرعون فى الشديدة فإذا عادوا كأن لم يتضرعوا من قبل.
و قد ذكر سبحانه أسوأ أحوالهم، و هى السخرية ممن يتضرعون إلى اللّه تعالى، فقال:
و إن اللّه تعالى ليذكرهم بأعمالهم مع المؤمنين الذين كانوا يضرعون إلى اللّه تعالى، و يرجون رحمته، و يخافون عذابه، فيقول: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي هذه الجملة فى مقام التعليل لإبعاد المشركين و طردهم، و منعهم من الكلام معه، أى أنه سبحانه و تعالى يعاملهم يوم القيامة بهذه المعاملة المبعدة الطاردة جزاء وفاقا لما كانوا يعملونه مع المؤمنين، و الفريق من عباده هم فريق المؤمنين الذين كانوا يؤمنون به و برسله و يضرعون إليه، يقولون: رَبَّنا آمَنَّا ، أى صدقنا و أذعنّا، و صرنا ممن اتبعوا رسولك، فَاغْفِرْ لَنا .
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5124
و شأن المؤمن الضارع أن يحسب أن ذنوبه قبل حسناته، فيطلب الغفران قبل طلب الجزاء على الطاعة؛ لأنه يحس أنه لم يقم بحق اللّه تعالى عليه، حتى يطالب بحق له، ارْحَمْنا ، أى امنن علينا بدوام الهداية، و أدخلنا فى رحمتك، دعوا اللّه تعالى أن يرحمهم و لم يدعوه بأن يكافئهم، بل يحسبون كشأن الأبرار أن ما كان يجزيهم به من خير فهو فضل رحمته و رضوانه، و لا يحسبون أنهم عملوا ما يستحقون عليه جزاء، وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، أى و أنت الذى ترحم رحمة ليس فوقها رحمة يا رب العالمين.
ماذا كان لقاء المشركين لهؤلاء المؤمنين؟
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110).
الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، أى إذا كانوا على هذه الضراعة، فلم يقتدوا بهم و يأتسوا، بل اتخذوهم سخريا .. قرئ بضم السين، و قرئ بكسرها «1» ، و فرق بعض اللغويين بأن القراءة بالضم معناها التسخير، و بالكسر معناها الاستهزاء، و لا يعرف هذه التفرقة الخليل بن أحمد و لا سيبويه و لا الكسائى و لا الفراء بل هما لغتان بمعنى واحد، و لقد كان المشركون يسخرون من الذين آمنوا، و قوله تعالى: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ، أى أن هذه السخرية جعلتهم لا يلتفتون إلى معانى الذكر الحكيم، و لا يتدبرون آياته، و لا يعتبرون بعبره، و إنه بسبب هذا كله ينسون ذكر اللّه تعالى فلا تمتلئ قلوبهم به، و لا يخشونه، وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ، أى كنتم أيها المشركون الساكنون فى جهنم تضحكون منهم، و الضحك يميت القلب، و لا تكون معه عبرة و لا استبصار.
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111).
قرئ بفتح همزة «أن» «1» و تكون مجرورة بلام محذوقة، و المعنى إنى جزيتهم
(1) قرأها بضم السين: نافع و أبو جعفر، و حمزة و الكسائى و خلف، و وافق أبو يزيد (عن المفضل عن عاصم)- جبلة، و قرأ الباقون بكسر السين. غاية الاختصار: 2/ 485.
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5125
اليوم الذى تعذبون فيه هذا العذاب الأليم بسبب صبرهم على سخريتكم، و على الإيذاء الذى تؤذونهم، و كان ذلك الجزاء اليوم، أى فى الوقت الذى تكونون فيه فى الجحيم يكون هؤلاء الذين كنتم تتخذونهم سخريا، و كنتم منهم تضحكون فى نعيم مقيم، و رضوان من اللّه تعالى ينظر إليهم، و يكلمهم، و يزكيهم.
و على قراءة كسر همزة «إنّ» «1» تكون (إن) جملة فى معنى تعليل الجزاء، أو بيانه، أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أى هم وحدهم الفائزون، و دل على القصر تعريف الطرفين، و التأكيد بضمير الفصل، و الجملة فيها عدة تأكيدات، فهى مؤكدة ب «أن»، و بالجملة الاسمية، و ب «هم»، و اللّه سبحانه رءوف رحيم.
مدة البقاء فى الأرض
قال تعالى:
[سورة المؤمنون (23): الآيات 112 الى 118]
(1) (إنهم هم الفائزون) بكسر الهمزة، حمزة و الكسائى، و قرأ الباقون بفتح همزة «إن». غاية الاختصار: 2/ 586.
(2) انظر السابق.
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5126
إن هذه الدنيا مع أدوارهم فيها من أجنة فى الأرحام إلى الخروج من بطون أمهاتهم أطفالا فشبابا فكهولا يكون الإحساس بها، كأنها يوم أو بعض يوم؛ و لذا يسألون يوم القيامة عن مدة مكثهم قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ ، أىّ مدة بقيتم فى الأرض قد اتخذتموها مهادا و فراشا و أفسدتم بها ما أفسدتم و عادين ذلك بالسنين عَدَدَ سِنِينَ هذا بيان لأصل الاستفهام بعد نوع إيهام، أى كم لبثتم من عدد السنين، فالسؤال عن عدد السنين، لا عن عدد الشهور و الأيام؛ لأنهم فى ذلك الوقت يكونون قرب الخروج من أرحام الأمهات أطفالا، فالسؤال عن وقت وعيهم و هو يكون بالسنين.
و قد أجابوا: بأنهم مكثوا يوما أو بعض يوم؛ لأنهم كانوا فيها يتمتعون و يرتعون فى الحرام فكانت قصيرة فى نظرهم، و لذا قالوا:
قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113):
(الفاء) للإفصاح، أى أنهم يجهلون عدد السنين فلا يستطيعون الإجابة، و أحسوا بأن الذى يسألهم عنده وسائل المعرفة، وعده عليهم من سنين حياتهم فى الدنيا، كما أحصى أعمالهم، و وجدوها محضرة، فمن أحصى الأعمال لابد أن يعرف عدد السنين؛ و لذا فَسْئَلِ الْعادِّينَ ، أى الذين من شأنهم أن يعدوا و يحصوا.
و قد أكد سبحانه أنهم ما لبثوا إلا قليلا، و القلة بالنسبة للآخرة، و لذا قال عز من قائل:
قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114).
إِنْ نافية، أى ما لبثتم إلا زمنا قليلا؛ لأن الدنيا متاع قليل غير باق، و الآخرة خير و أبقى، فمهما تطل الآجال فى الدنيا فهى فانية، و الفانى قليل إذا وزن بالباقى الذى لا يفنى، و ذلك ما لم يكونوا يعلمونه إذ كانوا يقولون ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا، و ما نحن بمبعوثين؛ و لذا قال تعالى: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، أى لو ثبت و قرّ فى نفوسكم أنكم كنتم تعلمون حقيقة هذه الدنيا، و أنها معبر طال
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5127
زمنه أو قصر إلى حياة دائمة باقية، إما أن تكون عذابا مستقرا أو فانية أو نعيما باقيا، و (لَوْ) - حرف امتناع لامتناع، أى امتنع علمكم فى الآخرة لامتناع علمكم فى الدنيا بأنها سنون قليلة بالنسبة للآخرة، و قد أكد نفى علمهم ب «إنّ»، و ب «كان»، و للّه فى خلقه شئون، و قد انتفى علمهم، لأنهم حسبوا أنه لا حياة بعد الموت؛ و لذا قال عز من قائل:
أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) ..
قلنا: إن الآية السابقة فيها إيماء إلى أن الحياة الدنيا أمدها قصير بالنسبة للآخرة، و إنها لجنة أبدا و لنار أبدا، و إن ذلك مع ما سبق يتبين أنه لابد من البعث، و أن حكمة الخلق و الإيجاد للإنسان لا تتحقق إلا به، و لذا قال تعالى: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً (الفاء) تفيد ترتيب السؤال على ما قبلها، و هى مؤخرة عن تقديم،؛ لأن أداة الاستفهام لها الصدارة، و الاستفهام للاستنكار أى إنكار ما وقع، فهم حسبوا ذلك، و قالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما نحن بمبعوثين، و أَنَّما أداة حصر، أى ما خلقناكم إلا عبثا، أى من غير حكمة باهرة ظاهرة، و العبث أى من غير حكمة من اللّه تعالى، و عبثا منكم أى خلقناكم لتعبثوا من غير طلب مطلوب منكم، و لا غاية تتجهون إليها، لتلهو أو تلعبوا و تقولوا و ما الحياة الدنيا إلا لهو و لعب، و لا محاسب يحاسبكم، وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ الواو عاطفة أى و حسبتم أنكم إلينا لا ترجعون لتحاسبوا على ما كان منكم من لهو عابث، و تقديم الجار و المجرور يدل على الاختصاص و التهديد بالرجوع إليه سبحانه و تعالى وحده بحيث لا يكون معهم شفيع يشفع، و لا ولىّ يناصر، و لا فدية تعطى، بل يؤاخذ كل على ما فعل، إن قليلا، و إن كثيرا، و إن خيرا، و إن شرا، و أكد سبحانه و تعالى رجوعهم إليه، بالجملة الاسمية، و بتصديرها ب «إنّ» الدال على التحقيق، و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116).
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5128
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه يترتب على ما ذكر من خلق الإنسان و الكون كله أن يكون فى علو لا يتسامى إليه أحد فى الوجود، و قد وصفه سبحانه بصفات خمس هى لا تكون إلا له سبحانه؛ إذ هو كامل الوجود، و تلك صفات كامل الوجود، و ليست إلا له:
الأولى- أنه سبحانه له وحده الملك و السلطان، و لا سلطان فوق رب العالمين.
و الصفة الثانية- أنه الحق الثابت الدائم، الذى لا ثبات لغيره، و ملكه قائم على الحق و العدل؛ لأنه قام على كونه خالق الوجود كله، و هو ربه، فهو الملك و هو الحق، و هو قائم على دعائم الحق، و يحكمه سبحانه و تعالى بالعدل.
و الصفة الثالثة- أنه هو اللّه وحده فلا إله غيره؛ سبحانه و تعالى؛ لأنه إذا كان الخالق وحده، و له الملك وحده، فهو الإله وحده، و قد أشرنا من قبل إلى أن العرب كانوا يعترفون بأن اللّه وحده خالق كل شىء، و أنه واحد فى ذاته و صفاته، و لكن عند العبادة يعبدون الأوثان، فاللّه سبحانه يبين أن الخلق و وحدة الذات توجبان وحدة الألوهية.
الصفة الرابعة- أنه رب العرش، أى صاحب السلطان وحده فى الدنيا و الآخرة فلا سلطان لشخص أو حجر، إنما السلطان له وحده فى الدنيا و الآخرة.
الصفة الخامسة- أنه الكريم الذى فاض بنعمه الظاهرة و الباطنة على الوجود كله، و يغفر و يرحم، و الذى يقبل التوبة عن عباده، كما قال عز من قائل: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) [طه].
و إن المشركين لا برهان عندهم على أن ما يعبدونه استحق العبادة؛ و لذا قال تعالى: