کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5334
معانى السورة
القرآن مبين، و النبى منذر و مبشر
قال اللّه تعالى:
[سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم هذه حروف ابتدأت بها السورة، و قد ذكر أن معناها على الحقيقة لا نعلمها، بل اختص بها علم اللّه تعالى و اللّه بكل شيء عليم، و قد نعرف حكمتها على قدر طاقتنا، و هى الإشارة إلى أن القرآن مكون من الحروف التى تنطقون بها، و لكنكم تعجزون عن أن تأتوا بمثله؛ لأنه من عند اللّه، و لأن النبى صلى اللّه عليه و سلم أمى لا يقرأ و لا يكتب، فهو يعرف الكلمات و لا يعرف الحروف، فذكرها فى القرآن دليل على أنه ليس من عند ذلك الأمى إنما هو من العالم بكل شيء الذى لا يغيب عن علمه شىء فى السماء و لا فى الأرض، و لأن كبار المشركين قالوا فيما بينهم لا تسمعوا لهذا القرآن و ألغوا فيه لعلكم تغلبون، فإذا ابتدأت السورة بهذه الحروف الصوتية استرعاهم صوتها، فجاءوا متلهفين للاستماع، و يذهب عنهم ما اتفقوا.
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5335
و لذا كانت أكثر السور المفتتحة بهذه الأحرف، يعقبها ذكر القرآن، و هنا جاء بعد هذه الحروف الصوتية قوله تعالى:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2).
- الإشارة فى قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) للسورة أو آيات مضافة إلى الكتاب، و الإضافة بمعنى (من) أى آيات من الكتاب، و أضيفت إلى الكتاب كأنها كل الكتاب؛ لأن كل آية من الكتاب فيها خصائصه من إعجاز، و بيان و روعة، و كانت الإشارة «بتلك» التى تدل على البعد لعلو منزلتها، و ارتفاع قدرها، و سمو مكانها، و الْمُبِينِ معناها البين فى ذاته و المبين للشرائع و التوحيد، و هداية البشر، و ما من شيء يتعلق بالإيمان و شرائعه إلا بينه، لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها، فهذا الكتاب أو بعضه واضح الدلالة على أنه من عند اللّه تعالى بإعجازه، و لقد كان محمد الصدوق طول حياته حتى إنه ما عرفت له كذبة قط، و هو الشفيق على قومه حريص على أن يؤمنوا به، حتى لا تفوته فضيلة التصديق، و لا يفوتهم خير الإيمان، و لذا قال تعالى:
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3).
البخع قطع خيط العنق، أى إصابة النخاع الشوكى الذى يسير فى فقرات العنق، فإن ذلك نهاية الفرج أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ الضمير المنسبك من أن و ما بعدها فاعل باخع، أى يبخعك و يقتلك ألا يكونوا مؤمنين، و هذا كقوله تعالى فى أول سورة الكهف: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ، و كقوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ و قلنا إن فاعل: باخع هو ألا يكونوا مؤمنين، بعدا عن التأويل، لأن ما لا يحتاج إلى التأويل أولى بالأخذ مما يحتاج إلى تأويل، و لأن التأويلات فيها بعد، و فيها خروج عن معنى الآية الظاهر.
و قوله: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يشير إلى أن بخع نفس الرسول صلى اللّه عليه و سلم؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنين أى لم يؤمنوا، و الضمير كينونتهم أنهم من المؤمنين، فيكونوا قوة، و هم أقرب الناس إليه، و هو عليهم شفيق.
و قد بين سبحانه و تعالى أن اللّه أراد أن يكونوا مختارين فى إيمانهم، فيؤمنوا بعد الموازنة بين حالهم، و ما يدعوهم إليه النبي، فيكون التكليف بعد الاختيار و الموازنة، و يكون الجزاء على الإيمان، و الجزاء على الامتناع.
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5336
قال عز من قائل:
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ .
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ، أى معجزة من السماء قاهرة تقسرهم على الإيمان قسرا بحيث لا يكون لديهم احتمال التكذيب أو الرد، أو التفكير، فيؤمنوا مقهورين مقسورين، غير مفكرين، و ما كانت مثل هذه الآية من عند بعث أى رسول، بل كانت عقابا عاجلا فى الدنيا على كفرهم على الاختيار، و بها ينته أمرهم و جدلهم.
و التعليق- بإن- يومئ إلى أن اللّه لا يغفل جلت قدرته؛ لأنه سبحانه كما تدل أعماله، يريد التكليف لا مجرد الامتناع عن الشر و العصيان.
و قال سبحانه ما يدل على أن الآية التى لو شاء لأنزلها قاهرة مانعة من المخانعة، و لذا قال (عليهم) الدالة بكلمة (على) على القهر و القسرة، و ذلك غير ما أودعه اللّه الإنسان من علم و فكر أراد له به الخلافة فى الأرض، و فضله على الخلق أجمعين، حتى على الملائكة، إن استقام و سار على الجادة.
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ، أى فظلوا و استمروا لها خاضعين، و عبر عن خضوعهم بالأعناق على سبيل المجاز المرسل، إذ عبر باسم الجزء عن الكل، لأن لهذا الجزء مزية فى هذا المقام عن بقية الأجزاء، إذ هو مظهر الخضوع و الخنوع، و للإشارة إلى أن استكبار الكافرين هو الذى منعهم من الإيمان فعبر بهذا للدلالة على أنهم يخضعون و لأن العنق يعبر به عن الكبراء المتجبرين، فيقال عنق القوم أى كبارهم المسيطرون أو المتغطرسون، و هذه الآية كقوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ و كقوله تعالى:
وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً و عبر بخاضعين التى هى وصف العقلاء بدل خاضعات التى هى مقتضى السياق للدلالة على أن المقصود من ذلك هو الأشخاص.
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5337
و مما يجب التنبيه إليه أنه عبر بالماضى فى معنى المضارع للدلالة على تأكد خضوعهم و أنهم يظلون خاضعين غير متمردين، و لكنه أراد الاختيار تكريما لبنى آدم فى الأرض كما أراد أن يجعله خليفة.
و قد بين سبحانه و تعالى تلقى المشركين للقرآن، فقال عز من قائل:
- الذكر هنا ليس القرآن كله، إنما هو بعض ما ينزل من مواعظ مذكرة، و قصص و أحكام تذكر، و عبّر بلفظ، وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ على أن ذلك قريب محدث مجرد لمعنى التذكر و التفكر لمن هو أهل لذلك، إلا كانت حالهم حال إعراض، فالاستثناء من أعم الأحوال، و الجملة بعد (إلا) منصوبة فى معناها على الحال. و إن هذا الذكر من الرحمة بهم؛ لأن التذكير رحمة، و لذا قال تعالى:
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ أى من اللّه تعالى الذى هو مصدر الرحمة، و الذى لا يكون منه إلا ما هو رحمة، فهم يعرضون عن الذكر و هو رحمة بهم، فكل شيء منه رحمة جزاؤه رحمة، و عقابه رحمة، و مواعظه و شرائعه رحمة، و (من) فى قوله تعالى: مِنْ ذِكْرٍ لبيان عموم الاستغراق، و من الثانية للابتداء و بيان من صدر عنه التذكير الذى هو رحمة للعباد، و كانوا دالة على استمرارهم فى الإعراض كأنه شأن من شئونهم، و حال دائمة من أحوالهم، و تقديم عَنْهُ عن متعلقها، و هى (معرضون) لأن التقديم يفيد معنى الاختصاص، أى كأنهم لا يعرضون إلا عن الحق، و من فساد نفوسهم لا يعرضون عن باطل، بل لا يعرضون إلا عن الحق لأنه يلائم فساد نفوسهم، و ضلال تفكيرهم.
و قال تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أى فإنه يترتب على هذا الإعراض التكذيب، أى بسبب ذلك الإعراض قد كذبوا الحق لما جاءهم، و بسبب ذلك سيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون و الأنباء جمع نبأ، و هو الخبر العظيم الشأن الذى يؤثر فى شأنهم، و إن المواعظ، و الذكر الحكيم كان فيه إنذار بما يقع لهم فى العاجلة و الآجلة، ففى العاجلة يجعل اللّه
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5338
كلمة الذين كفروا السفلي، و كلمة الحق هى العليا بتوالى هزائم الشرك حتى تطهر منه أرض العرب، و فى الآخرة بعذاب الجحيم، و لذا قال تعالى: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الفاء كما أشرنا لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها و السبب لتأكيد الوقوع فى المستقبل، و الأنباء هنا الوقائع التى أنبأ عنها القرآن الكريم، و النبى الحكيم، فهم يرون هذه الأخبار وقائع تقرع حسهم، و تنبه غافلهم، و توجه اليقظ إلى الحق الصريح الواضح البين.
و قوله تعالى: أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ توبيخ لهم على استهزائهم، و قد كان له هذه الوقائع القارعة، و تقديم الجار و المجرور على يستهزئون فيه اختصاص نسبي، أى لا يستهزئون إلا بالحق، و قلوبهم معرضة، و نفوسهم مصروفة عن الحق إلى الباطل، فلا يستهزئون له، و هذا تصوير نفسى لانحرافهم عن الجادة، و التواء تفكير، حتى لا يكون منهم إلا الباطل و تأييده، و نصرته.
و إن هذه الآية كقوله تعالى: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) [الأنعام].
مع لجاجتهم فى الكفر و التكذيب و الاستهزاء يذكرهم تعالى بنعمه عليهم بإيجاز فيقول:
- الهمزة للاستفهام الإنكارى بمعنى التوبيخ، و الواو عاطفة على فعل محذوف تقديره فى القول افعلوا ذلك، و لم ينظروا، و هذا توبيخ على فعلهم؛ لأنهم استهزءوا بالحق، و نعم اللّه تحوطهم و تستغرقهم يَرَوْا معناه يرون، و لكنها هنا نظرة تأملية متتبعة و ليست نظرة عاجلة خاضعة، بل ترجع البصر حينا بعد حين؛ و لذا كانت التعدية للدلالة على التتبع متبصرين إلى الأرض كيف ينبت
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5339
فيها النبات، و يستغلظ سوقه، و يقوى عوده حتى يصير طعاما فى ذاته أو حبا متراكبا، و هكذا، و لذا قال تعالى: كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ كم- هنا هى الخبر الدال على الكثرة، و موضعها فى الإعراب النصب أى كثيرا ما أنبتنا فيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ من بيانية، أى أنبتنا من زوج أى شيئين متقابلين فى اللون أو الذكورة و الأنوثة، و غير ذلك من كل شيئين متقابلين فى الألوان و الطعوم، و كريم- أى كثير المنافع فى الأكل و الملبس، و المأوى، و إن هذه الجملة السامية فيها من دلائل الإعجاز بإيجاز القصر، الذى تكثر فيه المعانى مع قلة الألفاظ، فهذه الجملة شملت كل ما فى معانى الإنبات، و ثماره من زرع و غراس نخيل و عنب، و فواكه من كل ما تشمله الالفاظ، و تراه الأعين.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً الإشارة إلى الإنبات، أى إن فى ذلك لآية، أى لعلامة تدل على قدرة القادر، و نراها كل يوم فى حياتنا الخاصة و العامة، و هى حولنا تنبئنا بالعليم الخبير، القادر على كل شيء، فحولنا النخيل و الأعناب، و حولنا الحب المتراكب، و الزروع و الحشائش التى تأكل منها أنعامنا، و تدر علينا الدر الوفير، و لكن مع هذه الآية الباهرة و الدلائل القاهرة أكثرهم لا يؤمنون، و لذا قال تعالى: وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (كان) هى الدالة على الاستمرار، أى و قد استمر أكثرهم غير مؤمنين؛ لأنهم لم تدرك عقولهم، و لم يتدبروا و لم يتفكروا.
وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ .
الواو عاطفة على ما ذكر من ءايات بينات. و التعبير بربك للإشارة إلى معانى الخلق و الربوبية و الكلاءة و الحفظ و الرعاية و القيام على الحياة و الأحياء، لأنه الحى القيوم (لَهُوَ) اللام لام التوكيد، (الْعَزِيزُ) أى الغالب (الرَّحِيمُ) المتصف بصفة الرحمة الدائم، فهو رحيم بهذا الخلق و التكوين، و رحيم بهذه الرسائل التى أرسلها على أيدى الرسل، و رحيم بالبعث و النشور، و رحيم بكل ما ورد به الرسل من معجزات دالة على رسالاتهم، و رحيم بالعقاب و الثواب، لأن ذلك حمل على الخير، و جزاء عليه.
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5340
من قصة موسى عليه السلام
قال تعالى:
[سورة الشعراء (26): الآيات 10 الى 42]