کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5337
و مما يجب التنبيه إليه أنه عبر بالماضى فى معنى المضارع للدلالة على تأكد خضوعهم و أنهم يظلون خاضعين غير متمردين، و لكنه أراد الاختيار تكريما لبنى آدم فى الأرض كما أراد أن يجعله خليفة.
و قد بين سبحانه و تعالى تلقى المشركين للقرآن، فقال عز من قائل:
- الذكر هنا ليس القرآن كله، إنما هو بعض ما ينزل من مواعظ مذكرة، و قصص و أحكام تذكر، و عبّر بلفظ، وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ على أن ذلك قريب محدث مجرد لمعنى التذكر و التفكر لمن هو أهل لذلك، إلا كانت حالهم حال إعراض، فالاستثناء من أعم الأحوال، و الجملة بعد (إلا) منصوبة فى معناها على الحال. و إن هذا الذكر من الرحمة بهم؛ لأن التذكير رحمة، و لذا قال تعالى:
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ أى من اللّه تعالى الذى هو مصدر الرحمة، و الذى لا يكون منه إلا ما هو رحمة، فهم يعرضون عن الذكر و هو رحمة بهم، فكل شيء منه رحمة جزاؤه رحمة، و عقابه رحمة، و مواعظه و شرائعه رحمة، و (من) فى قوله تعالى: مِنْ ذِكْرٍ لبيان عموم الاستغراق، و من الثانية للابتداء و بيان من صدر عنه التذكير الذى هو رحمة للعباد، و كانوا دالة على استمرارهم فى الإعراض كأنه شأن من شئونهم، و حال دائمة من أحوالهم، و تقديم عَنْهُ عن متعلقها، و هى (معرضون) لأن التقديم يفيد معنى الاختصاص، أى كأنهم لا يعرضون إلا عن الحق، و من فساد نفوسهم لا يعرضون عن باطل، بل لا يعرضون إلا عن الحق لأنه يلائم فساد نفوسهم، و ضلال تفكيرهم.
و قال تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أى فإنه يترتب على هذا الإعراض التكذيب، أى بسبب ذلك الإعراض قد كذبوا الحق لما جاءهم، و بسبب ذلك سيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون و الأنباء جمع نبأ، و هو الخبر العظيم الشأن الذى يؤثر فى شأنهم، و إن المواعظ، و الذكر الحكيم كان فيه إنذار بما يقع لهم فى العاجلة و الآجلة، ففى العاجلة يجعل اللّه
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5338
كلمة الذين كفروا السفلي، و كلمة الحق هى العليا بتوالى هزائم الشرك حتى تطهر منه أرض العرب، و فى الآخرة بعذاب الجحيم، و لذا قال تعالى: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الفاء كما أشرنا لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها و السبب لتأكيد الوقوع فى المستقبل، و الأنباء هنا الوقائع التى أنبأ عنها القرآن الكريم، و النبى الحكيم، فهم يرون هذه الأخبار وقائع تقرع حسهم، و تنبه غافلهم، و توجه اليقظ إلى الحق الصريح الواضح البين.
و قوله تعالى: أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ توبيخ لهم على استهزائهم، و قد كان له هذه الوقائع القارعة، و تقديم الجار و المجرور على يستهزئون فيه اختصاص نسبي، أى لا يستهزئون إلا بالحق، و قلوبهم معرضة، و نفوسهم مصروفة عن الحق إلى الباطل، فلا يستهزئون له، و هذا تصوير نفسى لانحرافهم عن الجادة، و التواء تفكير، حتى لا يكون منهم إلا الباطل و تأييده، و نصرته.
و إن هذه الآية كقوله تعالى: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) [الأنعام].
مع لجاجتهم فى الكفر و التكذيب و الاستهزاء يذكرهم تعالى بنعمه عليهم بإيجاز فيقول:
- الهمزة للاستفهام الإنكارى بمعنى التوبيخ، و الواو عاطفة على فعل محذوف تقديره فى القول افعلوا ذلك، و لم ينظروا، و هذا توبيخ على فعلهم؛ لأنهم استهزءوا بالحق، و نعم اللّه تحوطهم و تستغرقهم يَرَوْا معناه يرون، و لكنها هنا نظرة تأملية متتبعة و ليست نظرة عاجلة خاضعة، بل ترجع البصر حينا بعد حين؛ و لذا كانت التعدية للدلالة على التتبع متبصرين إلى الأرض كيف ينبت
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5339
فيها النبات، و يستغلظ سوقه، و يقوى عوده حتى يصير طعاما فى ذاته أو حبا متراكبا، و هكذا، و لذا قال تعالى: كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ كم- هنا هى الخبر الدال على الكثرة، و موضعها فى الإعراب النصب أى كثيرا ما أنبتنا فيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ من بيانية، أى أنبتنا من زوج أى شيئين متقابلين فى اللون أو الذكورة و الأنوثة، و غير ذلك من كل شيئين متقابلين فى الألوان و الطعوم، و كريم- أى كثير المنافع فى الأكل و الملبس، و المأوى، و إن هذه الجملة السامية فيها من دلائل الإعجاز بإيجاز القصر، الذى تكثر فيه المعانى مع قلة الألفاظ، فهذه الجملة شملت كل ما فى معانى الإنبات، و ثماره من زرع و غراس نخيل و عنب، و فواكه من كل ما تشمله الالفاظ، و تراه الأعين.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً الإشارة إلى الإنبات، أى إن فى ذلك لآية، أى لعلامة تدل على قدرة القادر، و نراها كل يوم فى حياتنا الخاصة و العامة، و هى حولنا تنبئنا بالعليم الخبير، القادر على كل شيء، فحولنا النخيل و الأعناب، و حولنا الحب المتراكب، و الزروع و الحشائش التى تأكل منها أنعامنا، و تدر علينا الدر الوفير، و لكن مع هذه الآية الباهرة و الدلائل القاهرة أكثرهم لا يؤمنون، و لذا قال تعالى: وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (كان) هى الدالة على الاستمرار، أى و قد استمر أكثرهم غير مؤمنين؛ لأنهم لم تدرك عقولهم، و لم يتدبروا و لم يتفكروا.
وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ .
الواو عاطفة على ما ذكر من ءايات بينات. و التعبير بربك للإشارة إلى معانى الخلق و الربوبية و الكلاءة و الحفظ و الرعاية و القيام على الحياة و الأحياء، لأنه الحى القيوم (لَهُوَ) اللام لام التوكيد، (الْعَزِيزُ) أى الغالب (الرَّحِيمُ) المتصف بصفة الرحمة الدائم، فهو رحيم بهذا الخلق و التكوين، و رحيم بهذه الرسائل التى أرسلها على أيدى الرسل، و رحيم بالبعث و النشور، و رحيم بكل ما ورد به الرسل من معجزات دالة على رسالاتهم، و رحيم بالعقاب و الثواب، لأن ذلك حمل على الخير، و جزاء عليه.
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5340
من قصة موسى عليه السلام
قال تعالى:
[سورة الشعراء (26): الآيات 10 الى 42]
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5341
هذه قصة موسى و فرعون، و المقاولة التى جرت بين موسى الكليم، و فرعون الجبار العنيد، و إن فيها جزءا لم يذكر فى قصة موسى و هارون، و هى المجاوبة التى كانت بين كليم اللّه و مربيه حتى بلغ رشده، و فيها عتب المربى و دفاع من تربى و مجابهته بالحق القوى الصريح، و جاء ما هو مذكور فى غير هذا الموضع من قصة العصا، ثم قصة النجاة، التى سنذكرها فى موضعها فيما يلى، و إن ذكر التربية هو الذى اختصت به القصة، و جاء ذكر المعجزة، و أعمال السحرة تابعا، و لا يعد ذلك تكرارا لأصل القصة، إن كان طاغوت فرعون يذكر فيما تشبه التكرار تنبيها على الظلم و الطغيان، كما يكرر ذكر طلب التوحيد، و النهى عن الشرك.
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5342
الواو عاطفة هذا الكلام على ما سبقه، أو دالة على الاستئناف و إِذْ متعلقة بمحذوف، تقديره اذكر، أى اذكر لقومك قصة موسى، و التعبير بربك إشارة إلى أنه الكالئ الحامى المدبر القيوم على كل شيء، أن- حرف تفسير للنداء، نداء اللّه تعالى جلت قدرته، فالنداء ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ وصفوا بالظلم؛ لأنهم هم الذين مكنوا فرعون من ظلمه، فكانوا ظالمين؛ لأنهم الذين أقاموه، و أيدوه، و طاوعوه، و مهدوا، و صاروا آلة طيعة لتنفيذ مظالمه، و إنه لا يسأل العامة عن ظلم الخاصة، حتى يروا الظلم فلا يستنكروه، و كذلك كان أهل مصر، و عبر عنهم بقوم فرعون لأنهم كانوا له تبعا، و قد فنى وجودهم فى وجوده، أَ لا يَتَّقُونَ هذه جملة مستأنفة دالة على أنهم لم يتقوا، و أفرطوا فى اتباع فرعون، و كان إسرافهم على أنفسهم، إذ إنهم لما لم يستنكروا أوغل هو فى الطغيان بمقدار إسرافهم فى الخضوع، فرد الطغاة وقاية للأنفس، و اتقاء للّه، و (ألا) دالة على التحريض و الحث على التقوى، و هنا التفات من الخطاب إلى الغيبة، للدلالة على الغضب عليهم، و هناك قراءة بالخطاب ألا تتقون، و يكون النص محرضا لهم على التقوى.
و إن ذلك النص بعد فوات قرون، فيكون معناه أنهم كانوا فى حال كان يجب أن يحرضوا فيها على التقوى، و أن موسى عليه السلام حرضهم عليها، و لم يتركهم لأنفسهم، و فى ذلك إشارة إلى أنه يجب أن يقمع كبراء قريش، و ألا يستسلم الناس لهم، و يخنعوا لعبادة الأوثان.
و هناك قراءة بكسر نون أ لا يتقون و تكون منيبة عن ياء المتكلم، أى ألا تتقون اللّه رب العالمين.
زهرة التفاسير، ج10، ص: 5343
هذا جواب موسى لربه، و قد فصلت هذه الجملة لأنها جواب عن سؤال مقدر، و كيف أجاب موسى، و صدر كلامه بالنداء لربه، للدلالة على شعوره بأنه فى كلاءته، و أنه سيعمل فى رعايته و حمايته، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ بكسر النون للإشعار بأن ياء المتكلم محذوف، و الخوف هنا لا يتضمن معنى النكوص عن الاستجابة لربه، إنما يتضمن معنى تقدير الموقف و إرادة الاستعداد، و الشعور بعظم المهمة التى كلفه اللّه تعالى إياها، و إنها تحتاج إلى جمع كل ما عنده من قوة، و قد أحس بموضع الضعف فيه، و هو البيان مع توقع الضيق و الحرج، و لذا قال: وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13).
ضيق الصدر هو من التكذيب و المباهتة فى قوة من فرعون، و طغيانه، فيكون فى شدة من هجوم الباطل المؤزر بالطغيان الفرعوني، مع حبسة اللسان فلا يستطيع رد إنكار أولئك الكاذبين المكذبين المزودين بطغيان عظيم، و لذا استغاث بربه قائلا:
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ و الفاء لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أى فإنه يترتب على هذه الحال التى أكون عليها أن أطلب إليك أن ترسل إلى أخى هارون بأن تجعل له رسالة معي، و (إِلى) تدل على أن النهاية أن يكون رسولا معي، و هذا كقوله تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35).