کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

صفوة التفاسير تفسير للقرآن الكريم

الجزء الاول

كلمة سماحة الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر كلمة سماحة الشيخ عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى الرئيس العام للإشراف الديني على المسجد الحرام كلمة سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رئيس ندوة العلماء بلكنهو - الهند كلمة معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف مدير جامعة الملك عبد العزيز كلمة سعادة الدكتور راشد بن راجح عميد كلية الشريعة و الدراسات الإسلامية بمكة المكرمة كلمة فضيلة الشيخ عبد الله خياط خطيب المسجد الحرام كلمة فضيلة الشيخ محمد الغزالي رئيس قسم الدعوة و أصول الدين بكلية الشريعة بمكة المكرمة مقدمة فهرس الأحاديث الشريفة الجزء الأول

الجزء الثانى

فهرس موضوعات المجلد الثاني فهرس الأحاديث الشريفة المجلد الثاني

الجزء الثالث

صفوة التفاسير تفسير للقرآن الكريم


صفحه قبل

صفوة التفاسير تفسير للقرآن الكريم، ج‏3، ص: 343

به، فإنه إنما استغفر لأبيه المشرك رجاء إسلامه‏ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ هذا من تتمة كلام إبراهيم لأبيه أي ما أدفع عنك من عذاب اللّه شيئا إن أشركت به، و لا أملك لك شيئا غير الاستغفار رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا أي عليك اعتمدنا في جميع أمورنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا أي و إليك رجعنا و تبنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي و إليك المرجع و المعاد في الدار الآخرة قال المفسرون: إن إبراهيم وعد أباه بالاستغفار كما في سورة مريم قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47] و استغفر له بالقول فعلا كما في سورة الشعراء وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ‏ و كلّ هذا كان رجاء إسلامه، ثم رجع عن ذلك لمّا تيقّن كفره كما في سورة التوبة وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏ [التوبة: 114]

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا بعذاب لا نطيقه‏ «1» و قال مجاهد: أي لا تعذبنا بأيديهم و لا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك‏ وَ اغْفِرْ لَنا أي اغفر لنا ما فرط من الذنوب‏ رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏ أي أنت يا اللّه الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الخير و المصلحة، و تكرار النداء للمبالغة في التضرع و الجؤار.

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي لقد كان لكم في إبراهيم و من معه من المؤمنين قدوة حسنة في التبرؤ من الكفار قال أبو السعود: و التكرير للمبالغة في الحثّ على الاقتداء به عليه السّلام و لذلك صدّر بالقسم‏ «2» لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ أي لمن كان يرجو ثواب اللّه تعالى، و يخاف عقابه في الآخرة وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي و من يعرض عن الإيمان و طاعة الرحمن، فإن اللّه مستغن عن أمثاله و عن الخلق أجمعين، و هو المحمود في ذاته و صفاته‏

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً أي لعلّ اللّه جل و علا يجعل بينكم و بين الذين عاديتموهم من أقاربكم المشركين محبة و مودة، محبة بعد البغضاء، و ألفة بعد الشحناء قال في التسهيل: لما أمر اللّه المسلمين بعداوة الكفار و مقاطعتهم، على ما كان بينهم و بين الكفار من القرابة و المودة، و علم اللّه صدقهم آنسهم بهذه الآية، و وعدهم بأن يجعل بينهم مودة أي محبة، و هذه المودة كملت في فتح مكة فإنه أسلم حينئذ سائر قريش‏ «3» ، و جمع اللّه الشمل بعد التفرق و قال الرازي: و عسى وعد من اللّه تعالى و قد حقق تعالى ما وعدهم به من اجتماع كفار مكة بالمسلمين، و مخالطتهم لهم حين فتح مكة «4» وَ اللَّهُ قَدِيرٌ أي قادر لا يعجزه شي‏ء، يقدر على تقليب القلوب و تغيير الأحوال‏ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ أي مبالغ في المغفرة و الرحمة، لمن تاب إليه و أناب‏

لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ‏ أي لا ينهاكم عن البر بهؤلاء الذين لم يحاربوكم لأجل دينكم، و لم يخرجوكم من أوطانكم كالنساء و الصبيان، و لفظة أَنْ تَبَرُّوهُمْ‏ في موضع جر ب «عن» أي‏

(1) القول الأول مروي عن ابن عباس، و الثاني قول مجاهد و الأول هو الأرجح لأنه دعاء لأنفسهم بعدم تمكين الكفار من رقابهم، و هو اختيار ابن عطية.

(2) تفسير أبي السعود 5/ 157.

(3) التسهيل لعلوم التنزيل 4/ 114.

(4) التفسير الكبير 29/ 303.

صفوة التفاسير تفسير للقرآن الكريم، ج‏3، ص: 344

لا ينهاكم جل و علا عن البر و الإحسان لهؤلاء وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ‏ أي تعدلوا معهم‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏ أي يحب العادلين في جميع أمورهم و أحكامهم قال ابن عباس: نزلت في خزاعة، و ذلك أنهم صالحوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على ألا يقاتلوه و لا يعينوا عليه أحدا، فرخّص اللّه في برهم و الإحسان إليهم‏ «1» .. و روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: قدمت أمي- و هي مشركة- في عهد قريش حين عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم- تعني في صلح الحديبية- فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقلت يا رسول اللّه: إن أمي قدمت و هي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك‏ «2» ، فأنزل اللّه‏ لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ .. الآية

إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى‏ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ‏ أي إنما ينهاكم اللّه عن صداقة و مودة الذين ناصبوكم العداوة، و قاتلوكم لأجل دينكم، و أعانوا أعداءكم على إخراجكم من دياركم، أن تتولّوهم فتتخذوهم أولياء و أنصارا و أحبابا وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏ أي و من يصادق أعداء اللّه و يجعلهم أنصارا و أحبابا، فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب‏

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ‏ أي اختبروهنّ لتعلموا صدق إيمانهنّ قال المفسرون: كان صلح الحديبية الذي جرى بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و كفار مكة قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يردّ إليهم، و من أتى المسلمين من أهل مكة- يعني المشركين- ردّ إليهم، فجاءت «أم كلثوم» بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فخرج في أثرها أخواها «عمارة» و «الوليد» فقالوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: ردّها علينا بالشرط، فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: كان الشّرط في الرّجال لا في النّساء، فأنزل اللّه الآية، قال ابن عباس:

كانت المرأة تستحلف أنها ما هاجرت بغضا لزوجها، و لا طمعا في الدنيا، و أنها ما خرجت إلا حبا للّه و رسوله، و رغبة في دين الإسلام‏ «3» اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ‏ أي اللّه أعلم بصدقهن في دعوى الإيمان، لأنه تعالى المطّلع على قلوبهن، و الجملة اعتراضية لبيان أن هذا الامتحان بالنسبة للمؤمنين، و إلا فاللّه عالم بالسرائر لا تخفى عليه خافية فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي فإن تحققتم إيمانهن بعد امتحانهن فلا تردوهنّ إلى أزواجهن الكفار لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ‏ أي لا تحل المؤمنة للمشرك، و لا يحل للمؤمن نكاح المشركة قال الألوسي: و التكرير للتأكيد و المبالغة في الحرمة و قطع العلاقة بين المؤمنة و المشرك‏ «4» وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهور قال في البحر: أمر أن يعطى الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت، فلا يجمع عليه خسران الزوجة و المالية «5» وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ‏ أي و لا حرج و لا إثم عليكم أن تتزوجوا هؤلاء المهاجرات إذا دفعتم لهن مهورهنّ قال الخازن: أباح اللّه للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام و إن كان لهن أزواج كفار- لأن الإسلام فرّق بينهن و بين أزواجهنّ الكفار، و تقع الفرقة بانقضاء عدتها «6» وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي و لا تتمسكوا بعقود زوجاتكم الكافرات، فليس بينكم و بينهن عصمة و لا علاقة

(1) التفسير الكبير للرازي 29/ 34.

(2) أخرجه الشيخان و أحمد.

(3) تفسير البحر المحيط 8/ 256.

(4) تفسير الألوسي 28/ 76.

(5) البحر المحيط 8/ 257.

(6) تفسير الخازن 4/ 79.

صفوة التفاسير تفسير للقرآن الكريم، ج‏3، ص: 345

زوجية قال القرطبي: المراد بالعصمة هنا النكاح، يقول: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فليست امرأته، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين‏ «1» وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي اطلبوا يا أيها المؤمنون ما أنفقتم من المهر إذا لحقت أزواجكم بالكفار، و ليطلبوا هم- أي المشركون- ما أنفقوا على أزواجهم المهاجرات قال ابن العربي: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار يقال للكفار: هاتوا مهرها، و يقال للمسلمين إذا جاءت إحدى الكافرات مسلمة مهاجرة: ردّوا إلى الكفار مهرها، و كان ذلك نصفا و عدلا بين الحالتين‏ «2» ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏ أي ذلكم هو شرع اللّه و حكمه العادل بينكم و بين أعدائكم‏ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏ أي عليم بمصالح العباد، حكيم في تشريعه لهم، يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة

وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أي و إن فرّت زوجة أحد من المسلمين و لحقت بالكفار فَعاقَبْتُمْ‏ أي فغزوتم و غنمتم و أصبتم من الكفار غنيمة فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي فأعطوا لمن فرّت زوجته، مثل ما أنفق عليها من المهر، من الغنيمة التي بأيديكم قال ابن عباس: يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة «3» قال القرطبي: لما نزلت الآية السابقة وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا قال المسلمون: رضينا بما حكم اللّه، و كتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت هذه الآية «4» وَ اتَّقُوا اللَّهَ‏ أي و راقبوا اللّه في أقوالكم و أفعالكم، و احذروا عذابه و انتقامه إن خالفتم أوامره‏ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ‏ أي الذي آمنتم و صدقتم بوجوده، فإن من مستلزمات الإيمان تقوى الرحمن .. و لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مكة جاء نساء أهل مكة يبايعنه على الإسلام، كما بايعه الرجال فنزلت‏

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى‏ أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أي إذا جاء إليك النساء المؤمنات للبيعة فبايعهنّ على هذه الأمور الستة الهامة، و في مقدمتها عدم الإشراك باللّه جل و علا وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ‏ أي و لا يرتكبن جريمة السرقة و لا جريمة الزنى، التي هي من أفحش الفواحش‏ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ‏ أي و لا يئدن البنات كما كان يفعله أهل الجاهلية خوف العار أو خشية الفقر، قال ابن كثير: و هذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق أو العار، و يعمّ قتله و هو جنين كما يفعله بعض النساء الجاهلات، تطرح نفسها لئلا تحبل، إمّا لغرض فاسد أو ما أشبهه‏ «5» وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ‏ أي لا تنسب إلى زوجها ولدا لقيطا ليس منه تقول له: هذا ولدي منك قال المفسرون: كانت المرأة إذا خافت مفارقة زوجها لها لعدم الحمل، التقطت ولدا و نسبته له ليبقيها عنده، فالمراد بالآية اللقيط، و ليس المراد الزنى لتقدمه في النهي صريحا «6» قال ابن عباس: لا تلحق بزوجها ولدا ليس منه، و قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك،

(1) تفسير القرطبي 18/ 65.

(2) تفسير القرطبي 18/ 68.

(3) مختصر تفسير ابن كثير 3/ 486.

(4) تفسير القرطبي 18/ 68 ثم نقل القرطبي عن قتادة أن هذا الحكم قد نسخ بسورة براءة.

(5) مختصر تفسير ابن كثير 3/ 489.

(6) انظر حاشية الصاوي على الجلالين 4/ 200 و تفسير أبي السعود 5/ 158 و تفسير الرازي 29/ 308.

صفوة التفاسير تفسير للقرآن الكريم، ج‏3، ص: 346

و إنما قال: يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ‏ لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها و رجليها «1» وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ‏ أي و لا يخالفن أمرك فيما أمرتهنّ به من معروف، أو نهيتهن عنه من منكر، بل يسمعن و يطعن‏ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ‏ أي فبايعهن يا محمد على ما تقدم من الشروط، و اطلب لهنّ من اللّه الصفح و الغفران لما سلف من الذنوب‏ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ أي واسع المغفرة عظيم الرحمة قال أبو حيان: كانت «بيعة النساء» في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا، بعدما فرغ من بيعة الرجال، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على الصفا و عمر أسفل منه، يبايعهنّ بأمره و يبلغهنّ عنه، و ما مست يده عليه الصلاة و السّلام يد امرأة أجنبية قطّ، و قالت «أسماء بنت السكن»: «كنت في النسوة المبايعات، فقلت يا رسول اللّه: أبسط يدك نبايعك، فقال لي صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنّي لا أصافح النّساء لكن آخذ عليهنّ ما أخذ اللّه عليهنّ» و كانت «هند بنت عتبة»- و هي التي شقت بطن حمزة يوم أحد- متنكرة في النساء، فلما قرأ عليهن الآية عَلى‏ أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ‏ قالت و هي متنكرة يا رسول اللّه: إن أبا سفيان رجل شحيح، و إني لأصيب الهنة- أي القليل و بعض الشي‏ء- من ماله، لا أدري أيحل لي ذلك أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شي‏ء فيما مضى و فيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عرفها فقال لها: و إنّك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبيّ اللّه، عفا اللّه عنك، فلما قرأ وَ لا يَزْنِينَ‏ قالت: أو تزني الحرة؟ فلما قرأ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ‏ قالت: ربيناهم صغارا و قتلتهم كبارا فأنتم و هم أعلم- و كان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر- فضحك عمر حتى استلقى، و تبسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فلما قرأ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ‏ قالت هند: و اللّه إن البهتان لأمر قبيح، و لا يأمر اللّه إلا بالرشد و مكارم الأخلاق، فلما قرأ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ‏ قالت: و اللّه ما جلسنا مجلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك في شي‏ء «2» و أخرج الإمام أحمد عن «أميمة بنت رقيقة»- أخت السيدة خديجة و خالة فاطمة الزهراء- قالت: «أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن‏ أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً الآية و قال: «فيما استطعتنّ و أطلقتنّ» فقلنا: اللّه و رسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا يا رسول اللّه: ألا تصافحنا؟ قال: «إنّي لا أصافح النّساء، إنّما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة» «3»

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏ أي لا تصادقوا يا معشر المؤمنين الكفرة أعداء الدين، و لا تتخذوهم أحباء و أصدقاء توالونهم و تأخذون بآرائهم، فإنهم قوم غضب اللّه عليهم و لعنهم قال الحسن البصري: هم اليهود لقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏ [الفاتحة: 7] و قال ابن عباس: هم كفار قريش لأن كل كافر عليه غضب من اللّه‏ «4» ، و الظاهر أن الآية عامة كما قال ابن كثير: يعني اليهود و النصارى و سائر الكفار، ممن غضب اللّه عليه و لعنه‏ «5» قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ أي أولئك الفجار الذين يئسوا من ثواب الآخرة و نعيمها كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي كما يئس‏

(1) روح المعاني للألوسي 28/ 80.

(2) تفسير البحر المحيط 8/ 258 و انظر التفسير للرازي 29/ 307.

(3) أخرجه أحمد و الترمذي و النسائي.

(4) البحر المحيط 8/ 259.

(5) مختصر تفسير ابن كثير 3/ 490.

صفوة التفاسير تفسير للقرآن الكريم، ج‏3، ص: 347

الكفار المكذبون بالبعث و النشور، من أمواتهم أن يعودوا إلى الحياة مرة ثانية بعد أن يموتوا، فقد كانوا يقولون إذا مات لهم قريب أو صديق: هذا آخر العهد به، و لن يبعث أبدا «1» .. ختم تعالى السورة الكريمة بمثل ما فتحها به و هو النهي عن موالاة الكفار أعداء اللّه، و هو بمثابة التأكيد للكلام، و تناسق الآيات في البدء و الختام، و هو من البلاغة في مكان.

البلاغة: تضمنت السورة الكريمة وجوها من البديع و البيان نوجزها فيما يلي:

1- الطباق في قوله‏ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ‏ لأن الإخفاء يطابق الإعلان.

2- العتاب و التوبيخ‏ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ .. الآية.

3- تقديم ما حقه التأخير لإفادة الصيغة للحصر رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا، وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ، و الأصل توكلنا عليك، و أنبنا إليك .. إلخ.

4- صيغة المبالغة قَدِيرٌ ، غَفُورٌ ، رَحِيمٌ‏ و هو كثير في القرآن و مثله‏ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

5- طباق السلب‏ لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ‏ ثم قال‏ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ .. الآية.

6- الجملة الاعتراضية اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ‏ للإشارة إلى أن للإنسان الظاهر و اللّه يتولى السرائر.

7- العكس و التبديل‏ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ‏ و هو من أنواع البديع.

8- الكناية اللطيفة وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ‏ كنّى بذلك عن اللقيط، و هي من لطائف الكنايات.

9- التشبيه المرسل المجمل‏ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ كما أن فيه من المحسنات البديعية ما يسمى رد العجز على الصدر، حيث ختم السورة بمثل ما ابتدأها ليتناسق البدء مع الختام.

«تم بعونه تعالى تفسير سورة الممتحنة»

(1) هذا هو الراجح في تفسير الآية الكريمة و هو خلاصة قول ابن عباس و قتادة و الحسن، و قال مجاهد معناه أنهم يئسوا من نعيم الآخرة كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير، و الأول أظهر و اللّه أعلم.

صفوة التفاسير تفسير للقرآن الكريم، ج‏3، ص: 348

(61) سورة الصف مدنية و آياتها اربع عشرة

بين يدي السورة

سورة الصف هي إحدى السور المدنية، التي تعنى بالأحكام التشريعية، و هذه السورة تتحدث عن موضوع «القتال» و جهاد أعداء اللّه، و التضحية في سبيل اللّه لإعزاز دينه، و إعلاء كلمته، و عن التجارة الرابحة التي بها سعادة المؤمن في الدنيا و الآخرة، و لكنّ المحور الذي تدور عليه السورة هو «القتال»، و لهذا سميت سورة الصف.

ابتدأت السورة الكريمة- بعد تسبيح اللّه و تمجيده- بتحذير المؤمنين من إخلاف الوعد، و عدم الوفاء بما التزموا به‏ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟ .

ثم تحدثت عن قتال أعداء اللّه بشجاعة المؤمن و بسالته، لأنه يقاتل من أجل غرض نبيل، و هو رفع منار الحق، و إعلاء كلمة اللّه‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ.

و تناولت السورة بعد ذلك موقف اليهود من دعوة موسى و عيسى عليهما السّلام، و ما أصابهما من الأذى في سبيل اللّه، و ذلك تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيما ناله من كفار مكة وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي .. الآيات.

و تحدثت السورة عن سنة اللّه في نصرة دينه، و أنبيائه، و أوليائه، و ضربت المثل للمشركين في عزمهم على محاربة دين اللّه، بمن يريد إطفاء نور الشمس بفمه الحقير يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.

ودعت السورة المؤمنين إلى التجارة الرابحة، و حرضتهم على الجهاد في سبيل اللّه بالنفس و النفيس، لينالوا السعادة الدائمة الكبيرة مع النصرة العاجلة في الدنيا، و خاطبتهم بأسلوب الترغيب و التشويق‏ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .. الآيات.

و ختمت السورة بدعوة أهل الإيمان إلى نصرة دين الرحمن، كما فعل الحواريون أصحاب عيسى حين دعاهم إلى نصرة دين اللّه فاستجابوا و نصروا الحق و الرسول‏ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا

صفوة التفاسير تفسير للقرآن الكريم، ج‏3، ص: 349

أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ .. و هكذا يتناسق البدء مع الختام في أبدع بيان و إحكام.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[سورة الصف (61): الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)

وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى‏ إِلَى الْإِسْلامِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

اللغة: سَبَّحَ‏ التسبيح تمجيد اللّه و تنزيهه عما لا يليق به من صفات النقص‏ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يغلب‏ الْحَكِيمُ‏ الذي يضع الأشياء في مواضعها و يفعل ما تقتضيه الحكمة مَقْتاً بغضا قال الزمخشري: المقت أشد البغض و أبلغه و أفحشه‏ «1» (المرصوص) المتماسك المتلاصق بعضه ببعض قال الفراء: رصصت البناء إذا لائمت بينه و قاربت حتى يصير كقطعة واحدة «2» زاغُوا مالوا عن الهدى و الحق (البينات) المعجزات الواضحات.

سبب النّزول: روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى اللّه تعالى لبذلنا فيه أموالنا و أنفسنا!! فلما فرض اللّه الجهاد كرهه بعضهم فأنزل اللّه‏ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ‏ «3» .

التفسير:

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ‏ أي نزّه اللّه و قدّسه و مجّده جميع ما في السموات و الأرض من ملك، و إنسان، و نبات، و جماد وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏ قال الإمام الفخر: أي شهد له بالربوبية و الوحدانية و غيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السموات و الأرض‏ «4» وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏ أي و هو الغالب في ملكه، الحكيم في‏

(1) تفسير الكشاف 4/ 314.

(2) التفسير الكبير 29/ 311.

(3) تفسير أبي السعود 5/ 159.

صفحه بعد