کتابخانه تفاسیر
عرائس البيان فى حقائق القرآن، ج1، ص: 18
و مسرة لأهل القربات.
و الرَّحْمنِ : مطيّة السالكين، تسير بهم إلى معدن العناية، و الرَّحِيمِ : حبل الحق للمجذوبين تجذبهم به إلى حجال الوصلة.
باسمه الرَّحْمنِ أمنهم من العقاب، و باسمه الرَّحِيمِ أتاهم من نفائس الثواب؛ الأول: مفتاح المكاشفة، و الآخر: مرقاة المشاهدة.
باسمه الرَّحْمنِ : فتح لهم الغيوب، و باسمه الرَّحِيمِ : غفر لهم الذنوب.
و قال ابن عطاء: في اسمه الرَّحِيمِ مودة و محبة.
و عن جعفر بن محمد في قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إنه قال: هو واقع على المريدين و المرادين؛ فاسم الرَّحْمنِ : للمرادين؛ لاستغراقهم في أنوار الحقائق، و الرَّحِيمِ :
للمريدين؛ لبقائهم مع أنفسهم، و اشتغالهم بالظاهر.
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 4]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» شكر نفسه للعباد؛ لأنه علم عجزهم عن شكره، و أيضا: أدّب الخلق بتقدم حمده امتنانه عليهم على حمدهم نفسه.
و لسان الحمد ثلاثة: لسان الإنسانيّ، و لسان الروحانيّ، و لسان الربانيّ، أما «اللسان الإنسانيّ»: فهو للعوام، و شكره بالتحدث بإنعام اللّه و إكرامه، مع تصديق القلب بأداء الشكر.
(1) لم يقل تعالى: الحمد لرب العالمين اللّه؛ لكون الربوبية تلو الألوهية دون العكس؛ فإن الألوهية كالسلطنة، و الربوبية كالوزارة، فالسلطان مظهر الاسم اللّه؛ لكمال جمعيته، و الوزير مظهر الاسم الرب؛ لكونه في مقام التربية للعالمين؛ كالروح و العقل، فإن القوى و الأعضاء إنما تقومان بهما، و بهما كمال ترتبيهما، فكما أن تعيّن الروح قبل تعيّن ما دونه؛ فكذا تعيّن الألوهية، و نظير ذلك الشمس مع القمر، فإن الشمس أقدم في الوجود؛ كتقدّم الأب على الابن.
و الحاصل: إن الألوهية باطن الربوبية، فالأولى مظهر الاسم الباطن، و الثانية مظهر الاسم الظاهر، و كذا الحق باطن الخلق، و الشمس باطن القمر، و الأب باطن الابن، و الروح باطن الجسم، فالظاهر مرآة الباطن في كل ذلك؛ و إنما جعلوا الرب الاسم الأعظم أيضا، و في مرتبة الجلال من حيث جمعيته؛ لأن الألوهية و الربوبية لا تختصان بألوهية بعض دون بعض، و بربوبية بعض دون بعض، و باسم دون اسم، و بلطف دون قهر و بالعكس، فللسلطان الجمال و الجلال، و للوزير التربية بكل من اللطف و القهر، فجمعية السلطان إنما تظهر في المراتب التي دون السلطنة فاعرف ذلك.
عرائس البيان فى حقائق القرآن، ج1، ص: 19
و أما «اللسان الروحانيّ»: فهو للخواص، و هو ذكر القلب لطائف اصطناع الحق في تربية الأحوال، و تزكية الأفعال.
و أما «اللسان الربانيّ»: فهو للعارفين، و هو حركة السرّ، يصدق شكر الحق جلّ جلاله بعد إدراك لطائف المعارف، و غرائب الكواشف بنعت المشاهدة و الغيبة في قربه، و اجتناء ثمرة الأنس، و خوض الروح في بحر القدس، و ذوق الأسرار مع مباينة الأنوار.
و الحامدون في حمدهم للّه، بتفاوت لسانهم في مقاماتهم و مقاصدهم، و أهل الإرادة حمدوه بما نالوا من صفاء المعاملات، مقرونا بنور القرب، و أهل المحبة حمدوه بما نالوا من أنوار المكاشفات، مقرونة بنور صرف الصفات، و أهل المعرفة حمدوه بما نالوا من جمال المشاهدات، ممزوجا بعلم الربوبية، و أهل التوحيد حمدوه بما نالوا من سناء خصائص الصفات، و جلال قدم الذات، مشوبا بنعت البقاء، و أهل شهود الأزل بنعت الأنس حمدوه بما لاح في قلوبهم من نور القدس، و قدس القدس، و بما أودع اللّه أرواحهم من أسرار علوم القدم، و ما أفرد مواطن أسرارهم من غصن الأبصار في تعرض الحدثان عند حقائقها، و ما خصها بكشف الكشاف، فحمدهم بالبسط و الرجاء و الانبساط شطح، و حمده في الاصطلام و المحو خرس.
كما قال عليه السلام: «لا أحصي ثناء عليك» «1» في قبضه عن تحصيل شكر رؤية القدم، فلسان التحميد لأهل التفرقة، و لسان الحمد في رؤية المحمود صفات أهل الجمع.
و قيل: الْحَمْدُ لِلَّهِ : ما قضى و قدّر بإدراك، على ما هدى و حفظ، و على ما أرشدوا، و على ما اختاروا.
و قال أبو الوزير الركبي في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ : عن اللّه، قال: لو عرّفت ذلك عبدي، لما شكرت غيري.
و قال أبو بكر بن أبي طاهر: ما خلق اللّه شيئا من خلقه؛ إلا و ألهمه الحمد، ثم جعل فاتحة كتابه، و فرضها عليهم في صلاته.
و قال ابن عطاء: «الحمد للّه» معناها الشكر للّه إذا كان منه الامتنان على تعليمنا إيّاه حتى حمدنا.
و قيل: معنى «الحمد للّه» أي: أنت المحمود جميع صفاتك و أفعالك.
و قيل: «الحمد للّه» أي: لا جامد للّه إلا اللّه.
و ذكر عن جعفر الصادق في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قال: من حمده، فقال: من حمد
(1) رواه مسلم (1/ 352).
عرائس البيان فى حقائق القرآن، ج1، ص: 20
بصفاته كما وصف نفسه فقد حمده؛ لأن الحمد حاء، و ميم، و دال؛ «فالحاء» من الوحدانية، و «الميم» من الملك، و «الدال» من الديمومية، فمن عرفه بالوحدانية و الديمومية و الملك؛ فقد عرفه.
و قال رجل بين يدي الجنيد: «الحمد للّه»، فقال له: أتممها كما قال اللّه، قل: رَبِّ الْعالَمِينَ ، فقال له الرجل: و من العالمون حتى يذكروا مع الحق؟! فقال: قله يا أخي، فإن الحادث إذا قارن بالقديم لا يبقى له أثر.
قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ ؛ لأنه أظهر نفسه عليهم حتى نالوا من بركاتهم ما هداهم إلى معرفته، فربّاهم بها على قدر مذاقهم، فربّى المريدين بشعشعة أنواره، و لوائح أسراره، و ربّى المحبين بحلاوة مناجاته، و لذة خطابه، و ربّى المشتاقين بحسن وصاله، و ربّى العاشقين بكشف جماله، و ربّى العارفين بمشاهدة بقائه، و دوام أنسه، و حقائق انبساطه، و ربّى الموحدين برؤية الوحدانية و الأنانية في عين الجمع، و جمع الجمع.
و قيل: رَبِّ الْعالَمِينَ أي: منطقهم بحمده.
و ذكر عن ابن عطاء: رَبِّ الْعالَمِينَ أي: مربي أنفس العارفين بنور التوفيق، و قلوب المؤمنين بالصبر و الإخلاص، و قلوب المريدين بالصدق و الوفاء، و قلوب العارفين بالفكرة و العبرة.
و قال محمد بن عليّ الترمذي: علم اللّه تواتر نعمه على عباده، و غفلتهم عن القيام بشكره، فأوجب عليهم في العبادة التي تكرر عليهم في اليوم و الليلة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فيكون ذلك قياما لشكره، و ألا يغفلوا عنه، فأبوا ذلك.
و قال بعضهم: ذكر بِسْمِ اللَّهِ ، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ : أعلم أن منه المبتدأ، و إليه المنتهى.
و قال الحارث المحاسبي: إنّ اللّه بدأ بحمد نفسه، فأوجب للمؤمنين تقديم الْحَمْدُ لِلَّهِ في أول كل كتاب، و كل خطبة، و كل قول حسن، و هو أحسن ما ابتدأ به المبتدئ، و افتتح مقالته.
و قال بعضهم: من قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ؛ فقد قام بحق العبودية، و شكر النعمة.
و قال بعضهم: ظهر فضل آدم على الكلّ، بقوله حين عطس: الْحَمْدُ لِلَّهِ .
و قال الأستاذ: مربّي الأشباح بوجود النعم، و مربّي الأرواح بشهود الكرم.
عرائس البيان فى حقائق القرآن، ج1، ص: 21
و قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : «بالرحمن»: سبقت رحمته غضبه، و «بالرحيم»:
حجب كرمه سخطه، و الرَّحْمنِ : اسم القدم، و «الرحيم»: اسم البقاء، و الرَّحْمنِ الرَّحْمنِ : اسم الحقيقة، و الرَّحِيمِ : اسم الصفة.
و قيل: الرَّحْمنِ بالإشراف على أسرار أوليائه، و التجلّي لأرواح أنبيائه.
و قيل: الرَّحْمنِ : خاص الاسم خاص الفعل، و الرَّحِيمِ : عام الاسم عام الفعل.
و قيل: الرَّحْمنِ بالنعمة، و الرَّحِيمِ بالعصمة.
و قيل: الرَّحْمنِ بالتجلّي، و الرَّحِيمِ بالتدلّي.
و قيل: الرَّحْمنِ بكشف الأنوار، و الرَّحِيمِ بحفظ ودائع الأسرار.
و قيل: الرَّحْمنِ بذاته «1» ، و الرَّحِيمِ بنعوته و صفاته.
و قال سهل: بنسيم روح اللّه اخترع من ملكه ما شاء رحمة؛ لأنه رحمن رحيم.
و قال الواسطي: الرحمانية تشوق الروح شوقا، و الإلهية تذوق الحق ذوقا.
و قال إبراهيم الخواص: من عرفه بأنه الرحمن الرحيم، لزمه معرفته له بالرحمة، الثقة به في حياته و مماته، و العطف بالرحمة على الخلائق أجمع في الدنيا بالعوافي و الأرزاق، و في الآخرة بالمغفرة و الرحمة و الغفران.
قال جعفر الصادق: الرَّحْمنِ : العاطف على خلقه لسابق المقدور عليهم المراقب لهم، و الرَّحِيمِ : المتعطّف لهم في أمر المعاش و العوافي.
و قال الجنيد في قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : الرحمة على وجهين: رحمة لطفه، و رحمة عطفه، فإشارة باسمه الرحمن إلى لطفه، و إشارة باسمه الرحيم إلى عطفه.
و قال الأستاذ: الرَّحْمنِ : خاص الاسم، عام المعنى، و الرَّحِيمِ : عام الاسم، خاص المعنى «2» .
(1) الرَّحْمنِ في الظاهر، فيعمّ رحمته الكافر، و الأعضاء و الآفاق، فإن كل ذلك داخل تحت حيطة الاسم الظاهر.
(2) الرَّحِيمِ في الباطن، فيعمّ رحمته المؤمن و القوى و الأنفس، كما يعمّهم الرحمة الرحمانية، فللكافر ظاهر دون باطن؛ لأن لا آخرة له، فإن العاقبة للمتقين، و للمؤمن ظاهر و باطن جميعا فالظاهر مع الباطن أقوى من الظاهر بلا باطن؛ لأن الظاهر بلا باطن محصور كالدنيا؛ لانتهائها دون الظاهر مع الباطن؛ كالآخرة لعدم نهايتها، و إنما أدخلنا الآخرة في الباطن؛ لأنها قلب الدنيا؛ و القلب باطن بالنسبة إلى
عرائس البيان فى حقائق القرآن، ج1، ص: 22
فالرحمن: بما روّح، و الرَّحِيمِ بما لوّح، فالترويح للمباد، و التلويح بالأنوار.
و الرَّحْمنِ بكشف تجلّيه، و الرَّحِيمِ بلطف تولّيه.
و الرَّحْمنِ بما أولى من الإيمان، و الرَّحِيمِ بما أسرى من العرفان.
و الرَّحْمنِ بما أعطى من العرفان، و الرَّحِيمِ بما تولّى من الغفران.
و الرَّحِيمِ بما منّ به من الرضوان، و الرَّحْمنِ بما يكرم به من الرضوان.
و الرَّحِيمِ بما يكرّم به من الرؤية و العيان، فالرحمن بما يوفّق، و الرَّحِيمِ بما يحقّق، فالتوفيق للمعاملات، و التحقيق للمواصلات، فالمعاملات للقاصدين و المواصلات للواجدين.
و الرَّحْمنِ بما يصنع لهم، و الرحيم بما يدفع عنهم، و الصنع يجمع العناية، و الدّفع بحسن الرعاية، إلى هاهنا كلام الأستاذ.
أمّا من اختراعي أن: اسم الرَّحْمنِ : محل طلوع أنوار العناية، و «الرَّحِيمِ» : محل إشراق شمس الكفاية، فبالعناية يهدى أهل العرفان إلى مشاهدة القدم، و بالكفاية تحفظ حقائق إيمانهم أبدا لوجه بقاء الديموميّة، فبالرحمن تأيّدهم، و بالرحيم ترقيهم و تحفظهم، فالأول: للعناية، و الآخر: للكفاية، تغمّدهم بنور الأزلية بين الصفتين؛ حتى يصيروا بالرحمن مشتاقين، و بالرحيم والهين.
و قال حميد: هل يكون من الرحمن لأهل الإيمان، إلا الأمن و الأمان، و الروّية و العيان.
و قال سهل: الرَّحْمنِ : على عباده بالمغفرة و الرضوان، و «الرَّحِيمِ» : عليهم بالعوافي و الأرزاق.
قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : في اسم المالك رجاء المقبلين، و تخويف المهلكين، يجازي مقاساة ألم فراق العاشقين بمشاهدته، و نفائس كرامته، و يجازي عموم المحبّين بكشف جماله و جلاله، و يجازي المعاملة الصادقين، بإدخالهم في جنانه، و إسكانهم في جواره.
و قال ابن عطاء: يجازى يوم الحساب كل صنف بمقصودهم و همّتهم، و يجازي العارفين
القلب، فكما ينتهي حكم الدنيا، و يظهر الآخرة على صورتها؛ فيكون الدنيا باطنة، و الآخرة ظاهر؛ فكذا يظهر القلب في الآخرة على صورة القالب، فيكون القالب باطنا، و القلب ظاهرا، و به يصحّ رؤية اللّه تعالى كما يصحّ ذلك في الدنيا بالبصيرة، فانظر إلى هذا، و كن على بصيرة من الأمر، فإن الأمر ليس كما يزعمه المنكرون من المعتزلة و غيرهم، و اللّه رقيب شهيد.
عرائس البيان فى حقائق القرآن، ج1، ص: 23
بالقرب منه، و النظر إلى وجهه الكريم، و يجازي أرباب المعاملات بالحسنات.
و قيل: مالك يوم الكشف و الأشهاد؛ ليجازي كل نفس بما تسعى.
و قال الأستاذ: مالك نفوس العابدين، فصرّفها في خدمته، و مالك قلوب العارفين، فشرّفها، و مالك نفوس القاصدين، فيتّمها، و مالك قلوب الواجدين، فهيّمها، و مالك أشباح من عبده، فلاطفها بنواله و أفضاله، و مالك أرواح من أحبّه، فكاشفها بنعت جلاله و وصف جماله، و مالك زمام أرباب التوحيد، فصرّفهم حيث شاء كما شاء، و وفّقهم حيث شاء كما شاء على ما يشاء كما شاء لم تكلهم إليهم لحظة، و لا ملكهم من أمرهم سيئة، و لا خطرة أفناهم له عنهم «1» .
[سورة الفاتحة (1): الآيات 5 الى 6]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي: بمعونتك نعبدك، لا بحولنا و قوّتنا، و إيّاك نستعين بتمام عبوديتك، و دوام سترك علينا حتى نرى فضلك، و لا ننظر إلى أعمالنا.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي: إيّاك نعبد لا برؤية المعاملات، و طلب المكافآت، و وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي: نستعينك بمزيد العنايات، بنعت العصمة عن القطيعة.
و أيضا: إيّاك نعبد بالمراقبة، و إيّاك نستعين بكشف المشاهدة.
و أيضا: إيّاك نعبد بعلم اليقين، و إيّاك نستعين بحق اليقين.
و أيضا: و إيّاك نعبد بالغيبة، و إيّاك نستعين بالرؤية.
و قيل: إيّاك نعبد بقطع العلائق و الأغراض، و إيّاك نستعين على ثبات هذا الحال بك و لا بنا.
و قيل: إيّاك نعبد بالعلم، و إيّاك نستعين بالمعرفة.
و قيل: إيّاك نعبد بأمرك، و إيّاك نستعين علينا بفضلك.
قال سهل: إيّاك نعبد بهدايتك، و إيّاك نستعين بكلاءتك على عبادك.
قال الأنطاكي: إنما يعبد اللّه على أربع: على الرغبة، و الرهبة، و الحياء، و المحبّة فأفضلها
(1) و فيه إشارة إلى أن الدنيا و الآخرة ملك للّه تعالى ليس لغيره في ذلك الملك يد إلا بطريق الخلافة و العارية، فإن الدين المجازاة، و هو جارية في الدّارين، فهو تعالى مالك يوم الدنيا، و يوم الآخرة، و مالك المجازاة فيهما، فظهر إن قيامة العارفين دائمة؛ لكونهم مع اللّه تعالى في كل نفس من الأنفاس، و محاسبون أنفسهم في كل لحظة من لحظات، فهم مملوكون للّه تعالى؛ لأنهم أحرار عمّا سواه تعالى، و قائمون لربهم بالخدمة في كل حين.
عرائس البيان فى حقائق القرآن، ج1، ص: 24
المحبة التي تليها الحياء، ثم الرهبة، ثم الرغبة.
و قال الأستاذ: العبادة بستان القاصدين، و مستروح المريدين، و مرتع الأنس للمحبّين، و مرتع البهجة للعارفين، بها قوة أعينهم، و فيها مسرّة قلوبهم، و منها راحة أبدانهم «1» .
قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: اهدنا مرادك منا؛ لأن الطريق المستقيم ما أراد الحق من الخلق، من الصدق و الإخلاص في عبوديته.
و أيضا أرشدنا إلى ما أنت عليه.
و أيضا اهدنا إنابتك حتى نتّصف بصفاتك.
و أيضا اهدنا إلى معرفتك، حتى نستريح من معاملتنا بنسيم أنسك، و حقائق حسنك.
و قيل: معنى اهدنا أي: مل بقلوبنا إليك، و أقم بهمّنا بين يديك، و كن دليلنا منك إليك حتى لا تقطع عمّا لك بك.
و قيل أي: أرشدنا طريق المعرفة؛ حتى نستقيم معك بخدمتك.
و قيل أي: أرنا طريق الشكر فنفرح، و نطرب بقربك.
و قيل: اهدنا بفناء أوصاف الطريق إلى أوصافك التي لم تزل و لا تزال.
و قيل: اهدنا هدى العيان بعد البيان؛ لنستقيم لك على حسب إرادتك.
و قيل: اهدنا هدى من يكون منك مبدأه؛ حتى يكون إليك منتهاه.
و قيل: اهدنا الصراط المستقيم على الصراط بالغيوبة؛ لئلا يكون مربوطا بالصراط.
قال الجنيد: إن القوم لّما سألوا الهداية عن الحيرة التي وردت عليهم عن إشهاد صفاته الأزلية، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية؛ كيلا يستغرقوا في رؤية صفات الأزلية.
قال بعضهم: إليك قصدنا، فقوّمنا.
و قيل: اهدنا بالقوة و التمكين.
و قال الحسين أي: اهدنا طريق المحبّة لك، و السعي إليك.
قال الشبلي: اهدنا صراط الأولياء و الأصفياء.
و قال بعضهم: أرشدنا الذي لا اعوجاج فيه، و هو الإسلام.
و قيل: أرشدنا في الدنيا إلى الطاعات، و بلّغنا في الآخرة الدرجات.