کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 37

ذلك حيث قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ‏ [سورة الشعراء، الآية: 78] إلى قوله: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏ [سورة الشعراء، الآية: 83] ففي هذه السورة وقعت البداءة بالثناء عليه تعالى، ثم ذكر العبودية، ثم ذكر الاستعانة، ثم وقع الختم على طلب الهداية.

و أورد عليه أنه لا يتحصل مما ذكره الدلالة على تسميتها بالسؤال الذي أراده، ثم مقتضى الحديث تجرّد الذكر عن السؤال و السورة جامعة بينهما، فلا مناسبة لهذا الحديث هنا، و ليس كما توهمه المعترض بل المراد أنّ تسميتها بالسؤال، لأنها مشتملة على تعليمه و بيان كيفيته اللائقة بالكاملين كما مرّ، و يشهد له قصة الخليل عليه الصلاة و السلام، و كذلك هذا الحديث القدسي أيضا بناء على أنّ المراد منه اشتغاله بذكره في ابتداء توجهه للسؤال لأنه نصب عينيه و قبلة اقباله، و من أحب شيأ أكثر من ذكره و يؤيده ما ذكره بعده نعم هو لا يخلو من الخفاء و كون المراد بالحديث ما ذكر غير مسلم، و قد سئل بعض التابعين عما ورد في الحديث «أفضل ما دعاني به عبدي، لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد» «1» فقيل كيف سمي هذا دعاء، و هو صرف ذكر، فقال هو دعاء أيضا لحديث «من شغله ذكري» الخ ثم نقل هذا الجواب لبعض السلف فقال: هو كما قال فإنّ الثناء على الكريم سؤال و طلب، فقيل: هل عرف مثله فقال: نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان في قصيدته المشهورة:

أ أذكر حاجتي أم قد كفاني‏

حياؤك إنّ سميتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه من تعرّضك الثناء

و نحوه قول الغنوي:

و إذا طلبت إلى كريم حاجة

فلقاؤه يكفيك و التسليم‏

و هو معنى بديع سيأتي بيانه. قوله: (لاشتمالها عليها) أي على المسألة، و كيفية تعليمها و لو قال: عليه بإرجاع الضمير للتعليم كان أظهر و في تفسير ابن برحان من آداب الدعاء و حلية السؤال، و الضراعة إلى الملك الملك الأمر كله أن يقدّم العبد بين يدي دعائه التوحيد و التعظيم و الإجلال، ثم يحمد اللّه بمحامده التي هو لها أهل، و يثني عليه و يمجده و يتبرأ إليه من حوله و قوّته، ثم يسأل اللّه الهداية إلى ما يرضيه، و حسن العون على ذكره، ثم يسأل اللّه بعدما ما

و أخرجه البيهقي في «الشعب» 572 و ابن عبد البر في «التمهيد» 6/ 45- 44 من حديث عمر.

(1) لم أره بهذا اللفظ و جاء في سنن الترمذي 3585 «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، و خير ما قلت أنا و النبيّون قبلي: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، و هو على كل شي‏ء قدير» قال الترمذي:

هذا حديث غريب من هذا الوجه و حماد بن أبي حميد، ليس بالقوي عند أهل الحديث ا ه.

و له شاهد مرسل في الموطأ 1/ 246.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 38

و الصلاة لوجوب قراءتها، أو استحبابها فيها، و الشافية، و الشفاء لقوله عليه الصلاة و السلام يشاء، لعموم قوله الحق: «و لعبدي ما سأل» و من قدّم أمر الآخرة على أمر الدنيا نظمه اللّه في نظام الاقتداء بأمّ القرآن و إنّ المطلوب الأعظم لفي أمّ القرآن مجملا و يحق ما قال بعضهم: لو قرئت أمّ القرآن على ميت فحي ما كان ذلك بعجب لأنّ الحمد اسم من أسماء اللّه و كذلك سائر الحروف كلها فافهم انتهى. قوله: (و الصلاة لوجوب قراءتها الخ) لفظ الصلاة يجوز جرّه و نصبه هنا لأنها كما تسمى سورة الصلاة، تسمى الصلاة أيضا، و هو من تسمية الجزء باسم كله، أو تسمية أحد المتلازمين باسم الآخر و الصلاة بمعنى العبادة المعروفة. قوله: (و استحبابها) قيل عليه إنه لا قائل بالاستحباب لأنها فرض عند الشافعي و واجبة عند أبي حنيفة، و إنما تبع صاحب الكشاف في قوله لأنها تكون فاضلة أو مجزئة بقراءتها فيها، و ما ذكروا رد عليه أيضا، و لذا قال في المدارك لأنها واجبة أو فريضة، و هو أحسن لأنه لا قائل بالاستحباب كما عرفت هذا زبدة ما في جميع الحواشي، و هو لا يسمن و لا يغني من جوع (و أنا أقول) كون المذاهب الأربعة متفقة على عدم الاستحباب، و أنه لا صلاة بدونها مما اتفق عليه هنا لما رووه في كتب الفقه المشهورة خصوصا كتب الحنفية، و ليس كذلك، فإنّ المصنف شافعي المذهب، و في كتبهم المعتمدة ما يخالفه، و عبارة الإمام الغزالي في شرح الوجيز الفاتحة متعينة في الصلاة خلافا لأبي حنيفة حيث قال: فرض الصلاة قراءة آية ما طويلة أو قصيرة، و إن كان ترك الفاتحة مكروها انتهى.

و عليه اعتمد المصنف رحمه اللّه، فالاستحباب عنده مذهب أبي حنيفة، و لو سلم عدم صحة ما ذكر فالسلف لهم في أكثر الأحكام أقول شتى، و مذاهب مختلفة، و إن لم يرخص لنا العمل بها، و قد نقل الإمام الجصاص رحمه اللّه في كتاب أحكام القرآن مذهب ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه يجزئ في الصلاة قراءة شي‏ء ما من القرآن، و لا تتعين الفاتحة، و به فسر قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ‏ [سورة المزمل، الآية: 20] فإن أردت تفصيله فراجعه فإذا ثبت عن بعض الصحابة و مجتهدي السلف أنها غير واجبة في الصلاة مطلقا، و أنّ المراد بقوله في الحديث «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» «1» نفي الكمال لا الصحة، فمراد المصنف و الزمخشريّ الإشارة إلى مذهب هؤلاء لا إلى شي‏ء من المذاهب الأربعة حتى يحتاج إلى ما قالوه من التعسف هنا: من أنّ استحبابها إشارة إلى مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه بناء على تفسير المستحب بما يشمل الواجب و السنة لا المستحب المتعارف على أنّ الواجب بمعنى الفرض و المستحب ما يقابله، أو هو مبني على أنّ الوجوب في الكل عند الشافعي رحمه اللّه أو الركعتين الأوليين عند أبي حنيفة و الاستحباب فيما عداهما عنده، أو في صلاة النفل في رواية

(1) أخرجه البخاري 756 و مسلم 394 و أبو داود 822 و النسائي 2/ 137 و ابن ماجه 837 و أحمد 5/ 321 و ابن حبان 1782 و الدارقطني 1/ 321 و البيهقي 2/ 164 من حديث عبادة بن الصامت.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 39

«و هي شفاء لكل داء» و السبع المثاني، لأنها سبع آيات بالاتفاق إلا أن منهم من عدّ التسمية عن الشافعي، و أبعد منه ما قيل من أنه مذهب ابن حنبل، و أنه لورعه كان لا يطلق الواجب على ما لم يتواتر عن السلف إطلاقه عليه، و قد جوز أن يكون المراد بالصلاة هنا الدعاء فيكون كتسميتها بسورة الدعاء، فإن قلت هل لما قيل من تعين الجرّ هنا وجه و إن كان النصب بناء على تسميتها صلاة الحديث «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين الحديث» «1» لأن تعليل المصنف يناسب معنى الجرّ لا النصب، لأنّ تسميتها في الحديث بالصلاة من إطلاق اسم الكل، و إرادة الجزء الذي هو ركن تنتفي الحقيقة بانتفائه، و هو غير مناسب لقوله، أو استحبابه مع أن بعضهم قدّر في الحديث مضافا أي قراءة الصلاة، أو ذكر الصلاة قلت لا، فإنّ ما ذكره من الشرط غير مسلم عند المحققين من أهل الأصول، مع عدم تعين التجوّز أيضا فتدبر. قوله:

(الشافية و الشفاء الخ) بالنصب أي تسمى الشافية الخ. كما صرّحوا به و يجوز جرّه.

و في الكشاف أنها تسمى سورة الشفاء. و قيل: إنّ المصنف ذهب إلى أنّه يطلق عليها هذا بدون سورة، و لولاه لقدّم الشفاء على الشافية و فيه نظر، و قد ورد في البخاري أيضا تسميتها سورة الرقية، و هو قريب مما هنا و الحديث الذي ذكره المصنف‏ «2» صحيح أخرجه البيهقي، و الدارميّ، و غيرهما، إلا أنه قيل عليه إنه لا يدل على تسميتها بذلك إذ لا يدل قولنا زيد كاتب على غير اتصافه، و صدق كاتب عليه، و أمّا تسميته به فلا، و قريب منه ما قيل الحديث إنما يدل على أنها شفاء في نفس الأمر و أنه أطلق عليها الشفاء شرعا، و ليست التسمية هنا بمعنى الإطلاق إلا أن يقال وضع الاسم ثبت بالنقل عن الثقات، و لا حاجة لدعوى الاجماع كما قيل، فالحديث إنما ذكر لبيان سند ما نقل و لا ثبات الباعث على التسمية به. قوله: (و السبع المثاني الخ) السبع منصوب. و قوله: (لأنها الخ) علة لتسميتها سبعا، و فيه أنه ذكر في التيسير أنها ثمان آيات عند الحسن البصريّ و ست آيات في قول الحسن الجعفي، و قد نقل عن بعضهم أنها تسع أيضا فكيف يتأتي دعوى الإتفاق أو الإجماع المذكور في كثير من التفاسير و عليه المصنف فقيل أراد اتفاق الجمهور و من يعتدّ به فخلاف غيرهم بمنزلة العدم، و مخالفة واحد أو اثنين تسمى خلافا لا اختلافا، فلا يخرج بها الحكم بكونه متفقا عليه، و قيل المراد اتفاق القرّاء، و قيل اتفاق الحنفية، و الشافعية و ما له لما مرّ فلا وجه لردّه به، و قيل: إنه لا خلاف فيه و الزيادة

(1) هو بعض حديث أخرجه مسلم 395 و أبو داود 821 و النسائي 2/ 135- 136 و مالك 1/ 84- 85 و أحمد 2/ 460 و ابن حبان 1784 و البيهقي 2/ 39 و 166 عن أبي هريرة مرفوعا.

(2) «فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» أخرجه الدارمي 2/ 445 و البيهقي في الشعب عن عبد الملك بن عمير مرسلا.

و عبد الملك قال عنه ابن حجر في التقريب: ثقة فصيح عالم تغير حفظه و ربما دلّس ا ه.

و أخرجه الديلمي 4385 و البيهقي في الشعب كما في الدر 1/ 22 من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ «فاتحة الكتاب شفاء من السم». و للحديث شواهد أخرى انظر الدر المنثور 1/ 22- 23.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 40

دون أنعمت عليهم، و منهم من عكس، و تثنى في الصلاة أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة و النقص وهم من الراوي لأنه لما رأى عدّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ آية ظنّ أنه في الباقي مع غيره و لما رأى عدّ التسمية فيه كذلك، و هو مراد المصنف بقوله إلا أنّ الخ و في قوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ تسامح أي‏ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ‏ الخ لظهور أنّ الموصول بدون صلته، و المضاف بدون المضاف إليه لا يعدّ آية فمبدؤها معلوم و إنما الخلاف في آخرها قوله: (و منهم من عكس) أي عدّ أنعمت عليهم آية دون التسمية و المناسب لما جعل عكسا له أن يكون المراد أنه جعل التسمية جزأ من آية كما ذهب إليه البعض، فيلزمه عدم التعرّض لمذهب الحنفية و هو أنّ التسمية خارجة عن السورة. و قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ آية و قوله‏ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ‏ آية أخرى، و إن لم يحمل عليه يلزم عدم التعرّض لبعض المذاهب و أمره سهل إذ ليس في كلامه ما يدل على الانحصار قيل: و لا يبعد أن يجعل قوله: و منهم من عكس إشارة إليهما على أنّ المراد بعدم جعل التسمية آية ما يتناول خروجها عنها و جعلها جزأ منها و ليس في القرآن سورة آياتها سبع غير الفاتحة، و سورة أرأيت. قوله: (و تثني في الصلاة الخ) أي تكرّر و أصل معنى ثني الشي‏ء ردّ بعضه على بعض. قال الراغب سمي القرآن مثاني لأنه يثني على مرور الأوقات، و يكرّر فلا يدرس و ينقطع، و لا تنقضي عجائبه، و يصح أن يكون من الثناء لأنه يثنى عليه، و على من يتلوه و يعمل به و جوّز فيه أن يكون جمع مثنى كمرمى أو مثنى مشدّد النون أو مثنى مخففا منه، و كلها مع هاء التأنيث و بدونها، و الجمع بالنظر للآيات، و هذا بيان لإطلاق المثاني عليها و هي من التثنية، و قد فسرت هنا بالتكرير و لا يرد أنها تثلث في المغرب، و تربع في الرباعية مع أنه اقتصار على الأقل، فلا ينفي الزيادة، و لا ترد الركعة الواحدة، و صلاة الجنازة لأنّ المراد المتعارف الأغلب من الصلاة، و غير المصنف عبارة الكشاف و هي قوله: تثني في كل ركعة و هي عبارة مأثورة عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، و قد أورد عليها أنها تثني في الصلاة لا في الركعة و أجيب عنه بأنه مجاز مبالغة في أنّ كل صلاة فعلة واحدة كركعة أو أنها تكرّر في كل ركعة بالقياس إلى أخرى، و قيل: في للمصاحبة أي تثني مع كل ركعة، و يفهم منه عرفا أنّ كل ركعة تثني معها كما إذا قيل فلان يأكل مع كل أحد لا يفهم منه إلا أنه يأكل مع كل أحد يأكل معه، و هذا مع كونه تكلفا باردا زعم قائله أنه أحسن الوجوه و أولاها، و قيل الأشبه أن يراد بيان محل التكرير على معنى أنّ الفاتحة تكرّر في كل الصلاة بحسب الركعة لا بحسب أركانها كلها، كالطمأنينة و لا بحسب ركعتين ركعتين كالتشهد في الرباعية و لا بحسب كل صلاة كالتسليم، فإن تعددت الركعة تعدّدت الفاتحة و إلا فلا كأنه قيل تثني باعتبار الركعة و اعترض عليه بأنّ هذا المعنى، و إن كان واضحا في نفسه إلا أنّ دلالة هذه العبارة عليه في غاية الخفاء و يردّ بأنّ مراده أنّ لفظ في ههنا، كما في قولهم يستعمل في وضع الشرع لكذا بمعنى أنه مستعمل بحسبه، و اعتباره و هو واضح، و إن خفي عن الفاضل المعترض (و أقول) هو لم يخف عليه كيف و هو أبو عذرته كما حققه في شرح العضد في قول‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 41

...

ابن الحاجب الحقيقة اللفظ المستعمل في وضع أوّل حيث قال: هذا يحتاج لتمهيد مقدّمة و هي أنّ في ليس ظرفا للاستعمال تحقيقا، بل تقديرا، فإنه لما تعلق بالمعنى تعلقا مخصوصا صار كأنه ظرف للاستعمال محيط به، و لا شك أنّ الاستعمال متعلق بالوضع ناشى‏ء عنه بحيث يتصوّر فيه ظرفية تقديرية، فكما يقال استعمل اللفظ في معنى كذا بناء عليها يقال استعمل في وضع كذا أيضا لأنّ مآل الظرفية هنا إلى تعلق خاص تستعمل فيه اللام كثيرا و إن كان في أكثر و ههنا أيضا ما لها إلى السببية و الباء فيه أكثر و في تستعمل فيه أيضا انتهى و ليس إنكار خفائه و تكلفه مسموعا و إن لم تنكر صحته فكيف يعترض عليه بما مرّ و ليس الغافل إلا المعترض، ثم إنّ، الظرفية المجازية به إنما تظهر و تحسن إذا لم يكن مقارن في صالحا للظرفية الحقيقية كما في التوضيح فليس وزان في كل ركعة وزانها في قوله المستعمل في وضع أول فتأمل، ثم قال:

و الذي أدّى إليه الخاطر القاصر أن اضطرابهم في هذه العبارة إنما نشأ من حمل الظرفية على اللغوية المتعلقة بتثني و هو مستقرّ، و التقدير تثني واقعة في كل ركعة، و قال بعض علماء العصر: لا يخفي ما فيه.

أمّا أوّلا: فلأنه مع التقدير فيه لا فائدة فيه بالنظر لهذا المقام لتعرّضه للوقوع في الركعة و الكلام في بيان تكرارها و ليس هذا قيد للتكرار بل خارج عنه.

و أمّا ثانيا: فلأنه لا يصح قوله باعتبار كل ركعة إذ الصحيح أن تكرارها باعتبار تعدّد كل ركعة و فهمه من هذه العبارة في غاية الخفاء كما قاله السيد السند رحمه اللّه و المعترض لم يفهم مراده و فيه بحث و قيل إنه لا يبعد حمل العبارة على التضمين أي تثني مقروأة في كل ركعة و قيل يرد عليه أنه مع الاستغناء عنه فاسد لظهور أنّ التكرار ليس في حال القراءة في كل ركعة، بل في حال القراءة في الركعة الثانية و الثالثة و الرابعة، فإذا قلنا زيد يقوم في زمان قيام كل واحد من القوم لا يفهم منه إلا أن يكون قيام زيد مقارنا لزمان قيام كل واحد لا لزمان قيام المجموع من حيث هو مجموع فافهم. قوله: (أو الإنزال) عطف على الصلاة إلا أنّ العامل و هو تثني لا يظهر تعلقه به لأنّ تثنية الإنزال قد وقعت فعاملها فعل ماض لا مضارع، ففي هذه العبارة خلل ظاهر، و لذا قيل إنّ تثني للاستمرار بالنسبة إلى الصلاة و ماض بالنسبة إلى الإنزال و التعبير بالمضارع لاستحضار الصورة و حكاية الحال الماضية بناء على رأي المصنفّ رحمه اللّه في جواز إرادة معني اللفظ معا أو على عموم المجاز بأن يراد مطلق الزمان الشامل للماضي و غيره يعني أنّ المضارع لدلالته على الحال الحاضر الذي من شأنه أن يشاهد قد يذكر ليستحضر به ما مضى، فيستمر و تثني لاستحضار التسمية المعللة بالتثنية و لا يفعل ذلك إلا بما يهتم بمشاهدته لغرابته أو فظاعته، كما ذكره أهل المعاني، و هو مجاز، و لذا لما لزم المصنف الجمع بين الحقيقة، و المجاز أشار المحشي إلى دفعه بما ذكر و لا يخفى بعده لاختصاصه بما يستغرب و لا غرابة هنا، و الأقرب عندي أن يقال إنّ المراعى تحقق الاستقبال و غيره زمان الحكم لا زمان‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 42

حين فرضت الصلاة و بالمدينة لمّا حوّلت القبلة و قد صح أنها مكية، لقوله تعالى: وَ لَقَدْ التكلم كما حقق في كتب الأصول و التسمية مقدّمة على تثنيتها في الصلاة، و كذا على تكرار الإنزال لأنها توقيفية، فإن كان الواضع هو اللّه في الأزل فاستقبال الإنزال ظاهر و إن كان الرسول صلى اللّه عليه و سلم، فالتسمية في أوّل النزولين و تكرر النزول إنما يتحقق بالثاني فهو مستقبل من غير تكلف لتقدير متعلق أو عطف معمول ماض على معمول مستقبل، و أمّا كونه من قبيل.

* علفتها تبنا و ماء باردا *

فلا يخفى برودته و ركاكته مع أنهم لم يذكروه إلا مع اختلاف الحدثين دون الزمانين و إن كان القياس لا يأباه فتدبر. قوله: (إن صح أنها نزلت بمكة) هذا بناء على جواز تكرّر النزول و هو في الآيات متفق عليه و في السورة مختلف فيه، فأنكره بعضهم مطلقا لعدم الفائدة فيه قيل و لذا قال المصنف: إن صح و استدل المنكر له بأنّ نزوله ظهوره من عالم الغيب إلى الشهادة و الظهور به لا يقبل التكرر فإن ظهور الظاهر ظاهر البطلان كتحصيل الحاصل و إيجاد الموجود و يرد بأنه ليس من هذا القبيل، و في منازل السائرين من تواضع للدين لم يعارض بمعقول منقولا، و لم يتهم دليلا، و لم ير إلى الخلاف سبيلا، و قال الزركشي في البرهان: قد ينزل الشي‏ء مرتين تعظيما لشأنه و تذكيرا عند حدوث سببه خوفا لنسيانه و في جمال القراء للسخاوي فائدة نزول الفاتحة مرتين أنها نزلت أوّلا على حرف، و بعده على آخر كملك و مالك، و يجري هذا في وجوه القراآت و قد قيل إنها نزلت مرّة أخرى بعد تحويل القبلة ليعلم أنها ركن في الصلاة كما كانت و قيل: نزلت مرّة بالبسملة، و أخرى بدونها، و استحسنه ابن حجر و الجزري، و به جمع بين المذاهب، و الروايات و سقط ما قاله المعترض من أنه لا فائدة في تكرر النزول، و ذهب الغزالي رحمه اللّه إلى أنه ليس في القرآن مكرر أصلا لأنه يفسر بمعان مختلفة و ما توهم من أنه لو تكرّر نزولها كانت أربع عشرة آية توهم باطل و معنى قوله إن صح الخ إن صح مجموع هذين الأمرين لأنه لا تردّد في نزولها بمكة و لذا قيل لو قال إن صح أنها نزلت بالمدينة لما حوّلت القبلة و قد صح الخ كان أوضح و أخصر، و قد علم مما مرّ أنّ في تكرّر النزول مذاهب. قوله: (و قد صح أنها مكية الخ) هذا قول ابن عباس و أكثر الصحابة و المفسرين و المراد بكونها مكية أنها نزلت بمكة لأنه أشهر معانيه كما سيأتي و قيل: إنه لم يقل نزلت بمكة لأنه ليس بصدد إثبات ما في الشرطية بل بصدد بيان كون السورة مكية باصطلاح المفسرين و أمّا القول بأنها مدنية و هو قول مجاهد فقد قيل إنه هفوة منه و القول بأنّ بعضها مكي و بعضها مدنيّ في غاية الضعف، و كون المراد بالسبع المثاني في الحجر الفاتحة عليه أكثر المفسرين، و قد ورد التفسير به مسندا إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم في صحيح البخاري و قيل هي السبع الطوال و قيل الحواميم و قيل غير ذلك، فإن قيل اسمها السبع المثاني و الواقع في الآية سبعا من المثاني فلم جعلت عين المثاني قيل من في الآية بيانية فمؤداهما واحد لأن الجار و المجرور صفة و المعنى سبعا هي المثاني مع أنّ كونها مثاني مخصوصة لا ينافي كونها بعضا من مطلق المثاني و كونها مكية

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 43

آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي‏ [سورة الحجر، الآية: 87] و هو مكي بالنص.

صفحه بعد