کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 54

...

بعد عصر النبوّة فلا يصح حمله عليه و إن أراد مجرّد الموافقة اللفظية، فيعارض بما يرجح مقابله كإفادة تلبس الفعل كله بالتبرك و نحوه، و في بعض الحواشي فإن قلت الحديث المشهور المستدعي للابتداء بالبسملة، و وقوعها في الابتداء قرينة ظاهرة على تقدير أبدأ قلت: لا يصلح شي‏ء منهما لذلك أمّا الحديث، فلأنه يستدعي تقدّم البسملة على الأمر ذي البال، و التلفظ بها في ابتداء ذلك الأمر و لا يستدعي تقدير ابتدى‏ء أو فعل آخر، و أمّا الوقوع في الابتداء، فإنه و إن صلح مع حث الشارع على وقوعه فيه قرينة لكنها ليست بظاهرة لأنه لو كفى قرينة على تقدير أبدأ لكفى الوقوع في النهاية و الوسط على تقدير الانتهاء و التوسط، و ليس كذلك، و هو كلام حسن، و في قول المصنف رحمه اللّه لعدم ما يطابقه إشارة ما إليه إذ معناه أنّ كل ما صرح فيه بالمتعلق ذكر مخصوصا نحو باسمك ربي وضعت جنبي و غيره مما ضاهاه، و قيل: المراد عدم ما يطابقه في القرآن لوقوع القراءة مستعلقا في قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏ [سورة العلق، الآية: 1] و لم تقع الباء فيه متعلقة بإبدأ، و ردّ بأنه في الآية ليس تعلقه به متعينا، و لو سلم فلا يلزم كون ما في أوائل السور مثله، و لذا قيل: إنّ المطابقة بهذا الاعتبار لا تصلح مرجحا بدون ملاحظة ما ذكر عند وجود القرينة الدالة على تعيين المحذوف في محل التكلم، فلا يلتفت إليها فيصلح لأن يعتبر ضميمة لا استقلالا.

(بقي ههنا بحث) و هو أنّ الشريف كغيره قال في تقرر تقديره عاما زعم بعض النحاة أنّ تقدير الابتداء أولى فيقال بسم اللّه ابتدى‏ء القراءة مثلا، و لا يخفى أنّ ابتداء القراءة أخص من القراءة لا أعم لصدقها على قراءة الأوّل و الوسط و الآخر و اختصاص ابتداء القراءة بالأوّل و ليس هذا هو الكون، و الحصول الذي قدّره النحاة حتى يحتاج إلى الجواب و ما قيل من عموم ابتدئ باعتبار أنه منزل منزلة اللازم لكنه يعلم بقرينة المقام أنّ المبتدأ به هو القراءة، أو باعتبار أصل العامل في الجميع لا يخفى فساده، فإنه إذا دل المقام على إرادته ما معنى تنزيله منزلة اللازم حينئذ و كونه باعتبار الأصل لا يدفع السؤال باعتبار الحال فتدبر. قوله: (لعدم ما يطابقه و ما يدلّ عليه) و في نسخة و يدل عليه بدون ما و الضمير المرفوع للموصول و المنصوب لأبدأ، و المراد بما يدل عليه القرينة الدالة عليه دلالة ظاهرة، و إن وجد الدليل في الجملة، فلا يرد عليه أنه يدل على عدم صحة إضمار أبدأ لا على مرجوحيته، و قوله أولى يدل على خلافه فإنّ ابتداءه بالبسملة قرينة لإرادة البدء لكنها في الظهور ليست بمنزلة الأولى، فسقط أنّ وقوعه في الابتداء دال عليه كغيره من الدلالات الحالية إذ لا قرينة إلا مقارنة الفعل و هي داعية إلى تقدير شي‏ء من جنسه لا إلى تقدير الابتداء و قيل معنى قوله: و ذلك أولى أن إضمار كل فاعل ما جعل التسمية مبدأ له أولى من إضمارا بدأ لعدم ما يطابقه فيما إذا كان الفعل الواقع بعده غير ممتدّ، و لا يخفى بعده.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 55

و تقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله باسم اللّه مجراها و قوله إياك نعبد لأنه أهم و أمّا كون تالي التسمية ما يصدق عليه مقروء لأنفسه فسهل لأنّ تحقق ما يصدق عليه الشي‏ء تحقق له، و قد يقال يمكن اعتبار مثله عند تقدير ابدأ لأن الفعل المبدوء بالتسمية يصدق عليه المبدوء بها، و قد أجيب عنه بأنّ عنوان القراءة أقرب إلى الفهم لأنه المقصود من التصدير بالتسمية، و فيه نظر ظاهر. قوله: (أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه) و هو إضمار المصدر و فاعله و الخبر سواء جعل الجار و المجرور متعلقا بالمصدر المذكور أو خبرا، و سواء قدر ابتدائي أو بدئي و هذه احتمالات عقلية و إلا فكلامه مقتض لتعلق الجار بابتدائي و السياق صريح فيه، و يلاحظ هذا مع ما مر من عدم المطابقة و الدلالة، و أقرأ و إن كان جملة فعلية و الفاعل مستترة، و أقل لما مرّ و دلالة الإسمية على الثبوت معارضة بدلالة المضارع على الاستمرار التجدّدي المناسب للمقام، و قيل زيادة الحذف هنا باعتبار زيادة الحروف فلا بد أن حذف الجملة ليس أقل من حذف المضاف و المضاف إليه، و أورد عليه أن النظر هنا متوجه إلى المعنى كما مرّ في كلام الكشاف في ذكر أقرأ و أتلو، و هنا لو قدّر بدئي لا زيادة له في الحروف و إنما ارتكب هذا التكلف بناء على أنّ أهل المعاني لا يطلقون الحذف على إضمار العام، و أنت تعلم أن كلا منا في زيادة الإضمار سواء أطلق عليه الحذف عند أهل المعاني أم لا، ثم إنّ المصنف رحمه اللّه لما أتمّ الكلام على تقديره فعلا خاصا شرع في بيان تقديمه. قوله: (و تقديم المعمول ههنا أوقع الخ) هنا إشارة إلى البسملة في أوائل السور، و أوقع بمعنى أحسن مرقعا و أنسب بمقامه يقال:

إنه ليقع مني في موقع مسرة و له موقع حسن كما في الأساس، و قيل: أوقع بمعنى أثبت و أمكن من وقع الحق إذا ثبت و ثباته باعتبار وقوعه في محل يقتضيه الحال، و في نسخة بدل المعمول المفعول أي المفعول بواسطة حرف الجر و قوله ههنا للاحتراز عن نحو: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏ [العلق: 1] مما يقتضي المقام تقديم عامله لأنه أوّل نازل من الآيات اهتماما بشأن القراءة و إن كان اسم اللّه أهم في ذاته كما سيأتي. قوله: كما في قوله: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها [سورة هود، الآية: 41] تنظير له باعتبار المتبادر لا استشهاد و نقل الفاضل الليثي هنا حاشية عن المصنف رحمه اللّه و هي أي على تقدير أن يكون معناه مجراها و في نسخة مجراة بالنصب و التنوين باسم اللّه و جوز فيه غير هذا الوجه انتهى.

يعني أن التمثيل به على تقدير أن يكون عاملا في باسم اللّه بناء على و جواز تقديم معمول المصدر عليه مطلقا، و إذا كان جارا و مجرورا لأنه مصدر ميميّ بمعنى الإجراء و الإرساء أي ذلك باسم اللّه لا بهبوب الرياح و إلقاء المرساة بكسر الميم و قيل إنه إشارة إلى وجه كون الجملة الإسمية حالا بدون الواو لأنها في تأويل المفرد كما في قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة، الآية: 36] أي متعادين و فيه نظر ستراه ثمة، و قيل: هو تنظير لمجرّد التوضيح حيث قدّم فيه هذا الظرف بعينه إلا أنه مستقرّ، و فيما نحن فيه لغو فدل على تقدّم المتعلق هنا خصوصا على القول بأنّ المبتدأ عامل في الخبر و الاستشهاد أيضا، إنما يتأتى إذا جعل اسم اللّه خبرا

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 56

...

لمجراها لا متعلقا باركبوا كما أشار إليه المصنف رحمه اللّه حيث قال إنه حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين اللّه أو قائلين باسم اللّه وقت إجرائها و إرسائها أو مكانهما على أنّ المجرى و المرسي للوقت أو المكان أو المصدر و المضاف محذوف كقولك آتيك خفوق النجم و انتصابهما بما قدّر حالا أو جملة اسمية من مبتدأ و خبر انتهى.

و قيل عليه: إنّ الاستشهاد ليس بصحيح على الوجوه كلها لأنها منافية له، و دفعه يعلم مما مرّ، و إياك نعبد مثال لتقديم مطلق المعمول. قوله: (لأنه أهم الخ) الظاهر أنّ الضمير للمعمول فإن أهميته تقتضي التقديم حتى صار قولهم المهم المقدّم كالمثل كما قال:

فقلت له هاتيك نعمى أتمها

ودع غيرها إنّ المهم المقدّم‏

لكن قوله أدل و ما بعده يقتضي كون الضمير للتقديم لأنها من صفاته إلا أن يكون فيه تقدير تقديمه و لذا قيل إنّ الضمير للتقديم و إن كان أهميته باعتبار ما أضيف إليه لأنّ قوله أدل و ما بعده معطوف على أهم و لا يصح أن يقال المعمول أدل إلا بتكلف أن يكون المراد و تقديمه أدل بحذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه و فيه ما فيه، و أهميته ذاتية لاشتماله على اسم الذات الأقدس المعبود بحق لأن الاستعانة نصب خاطره في كل أمر خطر، و لظهوره لم يصرح بوجه الأهمية فيه، فلا يرد عليه ما قيل إنه لا يكفي أن يقال قدّم كذا للاهمية من غير بيان وجه الاهتمام كما صرح به الشيخ عبد القاهر، فالظاهر أن يقول لأنه أدل على الاختصاص و لا يجوز أن يكون عطفا تفسيريا لأنه لا يحسن تفسير الشي‏ء بما يوجبه، و كلام المصنف رحمه اللّه صريح في خلافه أيضا فسقط ما قيل من أنّ الردّ على المشركين المبتدئين بأسماء الأصنام منوط على الاختصاص المستفاد من التقديم و قيل عليه إنه من فوائد الاختصاص المذكور، فلا وجه لجعله من نكات التقديم نعم لو قلنا إنّ المشركين يبتدؤن أفعالهم بذكر آلهتهم الباطلة، فالمناسب لنا الابتداء بذكره سبحانه لكان وجها انتهى.

و قد عرفت مما قدّمناه ما يغنيك عنه و من الناس من جعل أدل و ما بعده معطوفا على أوقع، و قال: لما كان دليل الوسطين معلوما، و دليل الطرفين غير معلوم تعرّض للأوّل بقوله لأنه أهم و للرابع بقوله فإنّ اسمه الخ و اكتفى بذلك لأنّ دليلهما دليل الوسط بعينه، و قول عبد القاهر، إنهم لم يعتمدوا في التقديم شيأ يجري مجرى الأصل غير العناية و الاهتمام، و نقله عن سيبويه ليس لإبطال إفادته الحصر كما توهمه ابن الحاجب و أبو حيان بل إشارة إلى أنّ العناية أمر كلي مجمل لا بد له من وجه كالتعظيم و الاختصاص، و لذا قيل إنّ قوله و أدل الخ بيان و تفصيل للأهم لكنه كان الأظهر أن يقول لأنه أدل، و اعتذر له بأنه إشارة إلى تمييز الأهمية الناشئة من ذاته عن غيرها، و حذف متعلق اسم التفضيل لمعلوميته و القصد لأهميته أي أهم من غيره كالعامل، و قيل: إنه مجرّد عن التفضيل مؤوّل باسم الفاعل أو الصفة المشبهة. قوله:

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 57

و أدل على الاختصاص و أدخل في التعظيم و أوفق للوجود فإنّ اسمه تعالى مقدّم على القراءة كيف (و أدل على الاختصاص) أمّا الاختصاص فلابتداء المشركين بأسماء آلهتهم استعانة و تبركا فقطع الموحد عرق الشرك باختصاصه ردّا عليهم و قوله أدل يستدعي وجود أصل الدلالة بدون التقديم و وجه بأنّ التخصيص بالذكر قد يفيد الحصر بمعونة السياق و تعليق الحكم بالأوصاف يشعر بالعلية و انتفاء العلة يستلزم انتفاء المعلول في المقام الخطابي إذا لم تظهر علة أخرى فيفيد الاختصاص أيضا، فكأنه قيل باسمه أقرأ لأنه الرحمن الرحيم لا سيما عند القائل بمفهوم الصفة لإشعاره بأنّ من لم يتصف بها لا يتبرك باسمه و قيل: الظاهر أنّ المراد بالاختصاص مطلق التعلق لا الحصر، فيكون التقديم المفيد للحصر دلالته أظهر على اختصاص القراءة باسم اللّه و تكلفه غني عن البيان، ثم إنّ هذا القصر كما قالوه قصر إفراد لأنهم لا ينكرون التبرك باسم اللّه تعالى، فإن قلت: المعروف في قصر الإفراد أنّ المخاطب بالكلام الواقع فيه يعتقد أنّ المتكلم مشرك لصفتين، أو أكثر في موصوف واحد، أو لموصوفين فأكثر في صفة واحدة، و المخاطب بقصر القلب يعتقد أن المتكلم بعكس الحكم، و ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى قلت:

هذا مما اعترف بوروده بعض الفضلاء و في شرح الفاضل المحقق ما يشير إلى الجواب عنه بأنه غير لازم، و إن ترك القوم بيانه في كتبهم، و الشارح المحقق جعل قصره قصر إفراد و تبعه فيه السيد السند و لم يجزم به لاحتمال كونه قصر قلب لأنّ ابتداءهم بأسماء آلهتهم لما كثر وقوعه منهم على الإنفراد قلبه الموحد، ثم إنّ اعتبار مخاطب لكل موحد غير من خاطبه في غاية التكلف و توجيه السعد رحمه اللّه له بأنّ المشركين لما كانوا يبتدؤن بأسماء آلهتهم كان مظنة أن يتوهم المخاطب أن سائر الناس كذلك تعسف بعيد، و قال قدّس سره: التقديم من المشركين لمجرّد الاهتمام لا للإختصاص، فوجب على الموحد أن يقصد قطع شركة الأصنام لئلا يتوهم تجويز الابتداء بأسمائها، و كتب في حواشيه أنه لردّ السؤال السابق و هذا القدر كاف في قصر الأفراد إذ لا يجب أن يكون معتقدا للشركة بل ربما كان متوهما و هنا مظنة توهم الشركة، و أورد عليه أنه ادّعاء منه مخالف لما صرح به أهل المعاني إلا أن يقال أنه ليس قصر أفراد على الحقيقة بل على التشبيه، و تنزيله منزلته.

(و أنا أقول): ليت شعري ما الداعي لما ارتكبوه من التكلفات مع إمكان جعله قصرا حقيقيا و لو ادّعائيا حتى لا يحتاج فيه إلى مخاطب و لا إلى اعتقاده فمرد الموحد التبرك في أفعاله باسم اللّه لا اسم غيره و هو يتضمن الردّ على المشركين فإياك من الوقوف في حضيض التقليد إذا أمكنك الصعود لقصر التحقيق المشيد، و أمّا توهم التنافي بين قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و بين الاستعانة باسمه في البسملة الكريمة بناء على أنّ الباء للاستعانة فما لا ينبغي أن يذكر و إن تكلف له بعض المتأخرين بأنه هنا استعانة توسل، و المنفي ثمة استعانة تحصل المستعان فيه، ثم إنه قال في الكشاف: فوجب على الموحد أن يقصد معنى اختصاص اسم اللّه بالابتداء، و ذلك بتقديمه، فأورد عليه أنه لا يناسب ما هو بصدده من ترجيح تقدير أقرأ مؤخرا و لذا قيل‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 58

لا، و قد جعل آلة لها من حيث أنّ الفعل لا يتم و لا يعتدّيه شرعا ما لم يصدّر باسمه تعالى لقوله إنّ المصنف حذفه لذلك و إن وجه بأنه إشارة إلى جواز تقدير ابتدى‏ء أيضا، و بأنه أراد ابتداء الفعل الذي شرع فيه كالقراءة لا مفهومه الحقيقي و قد قيل إنه إيماء إلى دفع مناقشة أخرى و هي كيف يكون قصر الموحد ابتداء قراءته، و نحوها باسمه تعالى ردا على المشرك الذي لا يقرأ أبدا و إنما يصير ردّا عليه لو حصر مطلق الابتداء، و قد مرّ أنه يكفي فيه التوهم فيذكره ثم إنه أورد على قول الزمخشري و غيره أنّ تقديم الفعل في قوله: (اقرأ باسم ربك) أوقع لأنها أوّل ما نزل، فالأمر بالقراءة فيه أهم كما مر أنّ هذا العارض و إن كان يقتضي أن يكون الأمر بالقراءة أهم إلا أنّ العارض الأوّل و هو ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم يقتضي أن يكون اسم اللّه تعالى أهم، فأنى يرجح هذا على ذاك و كان السكاكي نظر إلى هذا حيث جعله متعلقا باقرأ الثاني، و يمكن أن يقال لما تعارض العارضان قدّم العامل على المعمول بحكم الأصالة انتهى.

(قلت): الظاهر أنّ المراد أنه نازل أوّلا على النبيّ الأميّ صلى اللّه عليه و سلم فأمر فيه بالقراءة ليتدرّب لتلقي الوحي من غير قصد إلى أمره بتبليغ و لا إنذار حتى يقصد فيه الردّ على من خالفه و لذا قال صلى اللّه عليه و سلم: ما أنا بقارئ‏ «1» فلا حاجة إلى ما ادّعاه مما لا يقتضيه المقام و لا فحوى الكلام فتدبر. قوله: (و أدخل في التعظيم الخ) من قولهم هو حسن الدخلة، و المدخل أي المذهب في أموره من دخل بمعنى جاز، و المعنى أنّ دلالة و تسببا في تعظيمه، و أتى بأفعل لأنّ الابتداء به و التبرك فيه تعظيم له فإذا قدّم على متعلقه المقدّر كان أقوى في ذلك و قيل في تعظيم الاسم تعظيم المسمى. و قوله: (و أوفق للوجود من وفق أمره) أي وجد موافقا أو حسن كما في شرح أدب الكاتب لا من وافقه حتى يكون على خلاف القياس، و المراد بكونه أكثر موافقة للوجود أي لما في الخارج أو نفس الأمر أنّ اسمه تعالى مقدّم على القراءة و المقروء، فتقديمه على عامله المقدّر أوفق من تأخيره تقديرا، و قيل: لأنّ ذات واجب الوجود قبل كل موجود و اسم السابق سابق فتدبر فإن قوله إن اسمه تعالى مقدّم على القراءة يأباه، ثم إنه أيد ذلك بوجه يدل على معنى الباء و يدخل به لتفسيرها، و هو قوله كيف لا الخ و لفظة لا سقطت من بعض النسخ فقدّرها بعضهم أي كيف لا يكون اسمه تعالى مقدّما على القراءة، و قد تقدّم عليها بالذات، و من حيث الكمال و الاعتداد بها شرعا لأنها جعلت آلة، و هي لا بد من تقدّمها في الوجود.

و قوله: (من حيث الخ) بيان لجعلها آلة على أنّ الباء للإستعانة و الظرف لغو باعتبار أنّ الفعل لا يتم و يعتد به شرعا ما لم يصدّر بالتسمية أي تجعل في أوّله لأنّ الصدر استعير للأوّل استعارة مشهورة حتى صار كأنه حقيقة فيه فمعنى كونه آلة له توقفه عليه حتى كأنه فعل به، فلا يرد عليه أنّ مذهب الشافعية أنها من الفاتحة فلا يناسب جعلها للآلة المغايرة لما يستعان بها فيه و لا أنّ الآلية تقتضي الامتهان فلا يلائم التعظيم و الآلة هي الواسطة بين الفاعل و منفعله في وصول الأثر

(1) هو بعض حديث عائشة في بدء نزول الوحي أخرجه البخاري 3 و 4956 و 6982 و مسلم 160 و ابن حبان 33 و البيهقي في الدلائل 2/ 135- 136 و عبد الرزّاق في مصنفه 9719.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 59

عليه الصلاة و السلام «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر» و قيل الباء للمصاحبة إليه و قوله ما لم يصدر أي جميع أوقات عدم التصدير فتدبر. قوله: (لقوله عليه الصلاة و السلام كل أمر الخ) «1» الأبتر هو الناقص الآخر و المقطوع الذنب و لذا قيل لمن لا عقب له أبتر و استدل بالحديث على ترجيح الآلة لدلالته على عدم التمام بدونها التزاما بخلاف المصاحبة فإنها لا دلالة لها على ذلك فلا توافق معنى الحديث و في طبقات السبكي رحمه اللّه روى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للّه فهو أقطع» «2» و رواه البغوي بحمد اللّه و الكل بلفظ «أقطع» و عن ابن شهاب «أجذم» و أدخل الفاء في الخبر و ليس في أكثر الروايات، و قد يروى «كل كلام» و جاء موضع أقطع أجذم و أبتر، و جاء الجمع بينهما، و جاء موضع يبدأ يفتتح، و موضع الحمد الذكر، و يروى أيضا ببسم اللّه الرحمن الرحيم، و قد وقع الاضطراب في هذا الحديث سندا و متنا، ثم قال: و الحمل على الذكر الأعم أولى لأنّ المطلق إذا قيد بقيدين متنافيين لم يحمل على واحد منهما و يردّ إلى أصل الإطلاق، ثم إنّ الحديث في فضائل الأعمال فيغتفر فيه ذلك لا سيما و قد تقوّى بالمتابعة معنى إلى آخر ما فصله، فقول ابن حجر رحمه اللّه: إنا لم نجده بهذا اللفظ، فكأنه رواية بالمعنى‏

(1) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي 1210 و السمعاني في أدب الإملاء ص 51 و ابن السبكي في طبقات الشافعية 1/ 6 و الرهاوي في الأربعين البلدانية كما في تلخيص الحبير 3/ 151- 152 من حديث أبي هريرة، و مداره على أحمد بن محمّد بن عمران.

قال الحافظ الذهبي في الميزان: قال الخطيب: كان يضعّف في الحديث و قال الأزهري: ليس بشي‏ء اه.

(2) أخرجه أبو داود 4840 و ابن ماجه 1894 و النسائي في اليوم و الليلة 494 و الدارقطني 1/ 229 و ابن حبان 1 و 2 و أحمد 2/ 359 و البيهقي 3/ 208- 209 عن أبي هريرة مرفوعا.

قال أبو داود: رواه يونس و عقيل و غيرهما عن الزهري مرسلا. و قال الدارقطني و البيهقي: المرسل هو الصواب ا ه.

و أخرجه النسائي في اليوم و الليل 495 و 496 عن الزهري مرسلا، و ذكره المزي في تحفة الأشراف 3/ 368 في قسم المراسيل.

و قال الحافظ في الفتح 8/ 220: في إسناده مقال ا ه.

و الحديث له ثلاث علل:

الأولى: ضعف قرة بن عبد الرحمن المصري.

الثانية: إعلاله بالإرسال، و الزهري قبيح المرسل.

و الثالثة: الاضطراب في المتن فقد ورد بلفظ: «الحمد للّه» و «بذكر اللّه» و «ببسم اللّه» و «بالحمد».

الخلاصة: هو حديث ضعيف، لكن مشروعية البسملة و الحمدلة ثابتة بأدلة أخرى فالقرآن الكريم فيه البسملة ما بين السورة و الأخرى و كذلك في سورة النمل‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ و كذلك ابتدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كتبه إلى الملوك و الأمراء.

و كذلك- الحمدله- في أول الخطبة و كذا في خطبة النكاح و غير ذلك ا ه.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 60

...

و قريب منه ما في الكشف لا يلتفت إليه، فإنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، و في لفظ أبتر مبالغة في نقصانه حتى كأنه سرى لآخره و قيل فيه ترك للمبالغة فإنّ الحيوان المقطوع الرأس منتف بالكلية لا المقطوع الآخر و البال الشأن و الحال و أمر ذو بال أي شريف عظيم يهتم به و البال القلب في الأصل كانّ الأمر ملك قلب صاحبه لاشتغاله به، و قيل: شبه الأمر العظيم بذي قلب على الاستعارة المكنية و التخييلية، و الوصف به تقييدي لتعظيم اسمه تعالى حيث ابتدى‏ء به في الأمور المعتد بها دون غيرها، و للتيسير على الناس في محقرات الأمور، و التصدير عرفي أو شامل للحقيقي، و الإضافي فلا تعارض بين الروايات، و شهرته تغني عن ذكره. قوله: (و قيل الباء للمصاحبة) اختار كونها للاستعانة مخالفا للزمخشريّ في ترجيح المصاحبة لأنها أعرب و أحسن.

قال قدّس سره: أمّا أنها أعرب أي أدخل في لغة العرب أو أفصح أو أبين فلأنّ باء المصاحبة و الملابسة أكثر في الاستعمال من باء الاستعانة لا سيما في المعاني و ما يجري مجراها من الأفعال و أمّا أنها أحسن أي أوفق لمقتضى المقام، فإنّ التبرك باسم اللّه تعالى تأدّب معه و تعظيم له بخلاف جعله آلة فإنها مبتذلة غير مقصودة بذاتها، و لأنّ ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك فينبغي أن يردّ عليهم في ذلك و لأن الباء إذا حملت على المصاحبة كانت أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم اللّه منها إذا جعلت داخلة على الآلة، و لأنّ التبرك باسم اللّه معنى ظاهر يفهمه كل أحد ممن يبتدى‏ء به و التأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدى إليه إلا بنظر دقيق، و لأنّ كون اسم اللّه تعالى آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه متوسل إليه ببركته فقد رجع بالآخرة إلى معنى التبرك، و قد أيد الوجه الأوّل بأنّ جعله آلة يشعر بأنّ له زيادة مدخل في الفعل و يشتمل على جعل الموجود لفوات كما له بمنزلة المعدوم و مثله يعدّ من محسنات الكلام انتهى، و قد أيد الثاني أيضا بأن جعل اسمه آلة لقراءة الفاتحة لا يتأتي على مذهب من يقول بأنّ البسملة من السورة، و منهم المصنف رحمه اللّه فاللائق جعل الباء للمصاحبة و مما يستأنس به للمصاحبة كما ذكره البلقيني في تفسيره ما روى في السنن عنه عليه الصلاة و السلام من قوله: «باسم اللّه الذي لا يضرّ مع اسمه شي‏ء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم» «1» . فإنّ قوله مع اسمه صريح في إرادة المصاحبة.

(أقول): كل ما ذكر أمور اقناعية غير مسلمة و لذا كرّ عليها بالإبطال في الحواشي.

فقيل: على الأول: إثبات الأكثرية دونها خرط القتاد و باء الاستعانة تدخل كثيرا على المعاني كما في قوله: (استعينوا بالصبر و الصلاة) [سورة البقرة، الآية: 153] و إنما نشأ هذا التوهم من تمثيلهم في الآلة بالمحسوسات، و ليس كل استعانة بآلة ممتهنة و لا شك في صحة

صفحه بعد