کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 133

...

بكسب العبد يصلح أن يحمد اللّه عليه بالحقيقة باعتبار خلقه له على المذهب الحق لا على مذهب المعتزلة، و أيضا المحامد الراجعة إلى العباد لما كانت أنفسها بخلقه تعالى على المذهب الحق كان القول بكون جميع المحامد مختصة به تعالى أقرب، و أظهر منه على مذهب المعتزلة، و قيل مبناه على أنّ المصادر نائبة مناب الأفعال سادّة مسدّها و الأفعال لا تعد و دلالتها عن الحقيقة إلى الاستغراق و ردّ بأنّ ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة قرائن الأحوال، و قيل إنما اختاره بناء على أنّ الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال لا سيما في المصادر، و عند خفاء القرائن و ردّ بأنّ المحلي بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه الاستغراق، و هو الشائع في الاستعمال هناك مصدرا كان أو غيره و أي مقام أولى بملاحظة الشمول و الاستغراق من مقام تخصيص الحمد به سبحانه تعظيما، فقرينة الاستغراق كنار على علم، و الحق أنّ سبب الاختيار هو أنّ اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام، و مستلزم لاختصاص جميع الأفراد فلا حاجة في تأدية المقصود الذي هو ثبوت الحمد له تعالى، و انتفاؤه عن غيره إلى أن يلاحظ الشمول و الإحاطة، و يستعان فيه بالأمور الخارجية بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص جميع الأفراد ثابت بطريق برهاني، فيكون أقوى من إثباته ابتداء انتهى.

و فيه أنّ ملخص ما ذكره من أنّ اختصاص الجنس يستفاد من جوهر الكلام من غير حاجة إلى الإستعانة فيه بأمور خارجية أنّ الجنس هو المتبادر إلى الفهم لأنه لا معنى للتبادر إلّا التسارع، و إذا كان فهمه من جوهره قبل ملاحظة أعرا منه فلا شبهة في سرعته إلى الفهم قبل كل شي‏ء، و قد ردّه آنفا و إذا كان اختصاص جميع الأفراد بطريق برهاني، فلا شبهة في خفائه، فكيف يقال إنه كنار على علم.

و قوله أي مقام أولى إلخ فيه بحث ظاهر مع أنّ الاختصاص المدّعى مبنيّ على أنّ مدلول اللام الاختصاص بمعنى القصر و هو غير ثابت، و كلامهم فيما يفيد الاختصاص هنا مضطرب، كما فصله بعض الفضلاء و لولا خوف السآمة أوردناه برمته، و لما رأى المصنّف رحمه اللّه أنّ كلّ ما ذكر من الوجوه مقتض لمرجوحية الاستغراق دون كونه، و هما عدل عن عبارته في الكشاف و مبناه على أنّ معاني اللام كل منها أصل برأسه كما مرّ، فاندفع عنه ما قيل إنه إن أراد المصنّف رحمه اللّه أنّ التعريف للاستغراق في مقابلة كونه للجنس، فهو ظاهر البطلان إذ اللام لتعريف مدخولها قطعا، و ليس مدلول لام الجنس الاستغراق، و إن أراد أنّ الحمد محمول على الاستغراق بمعونة المقام، فصحيح إلّا أنه لا يقابل قوله و التعريف للجنس، إلّا أن يحمل على أنّ التعريف للجنس بلا انضمام استغراق معه قوله: (إذ الحمد في الحقيقة كله له) المصنفون يستعملون قولهم في الحقيقة كما بيّنه شراح الهداية فيما إذا دل أمر بحسب ظاهره على شي‏ء، فإذا دقق النظر فيه علم أنه يؤل إلى شي‏ء آخر هو المراد منه، فليس المراد بها مقابل المجاز كما قد يتوهم قيل و يرد على ما قاله المصنّف أنّ حمد العبد بصفته الجميلة على الجميل الاختياري‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 134

و هو موليه بوسط، أو بغير وسط كما قال تعالى: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ‏ [سورة القائم به ليس حمد اللّه تعالى لامتناع وصفه بصفات العباد و إن خلقها، و المتبادر من كون الحمد للّه أنه المستحق له و أنه محمود له إلّا أن يراد بالحمد المحمدة، فإنّ كل محمدة له تعالى إما لكونها صفة له أو صادرة منه أو يراد بكون الحمد له أعم من كونه متعلقا به تعلّق الفعل بالمفعول به، أو مستند إليه باعتبار استناد المحمود به أو المحمود عليه إليه خلقا، أو يقال لما كان كل جميل إمّا له أو منه فإذا حمد العبد على فعل الجميل، فكأنه حمد اللّه على خلقه فيه و وصفه بما يليق بشأنه و يأباه قوله في الحقيقة و قد ذكر في سبأ ما يدلّ على أنّ بعض أفراد الحمد يستحقه العبد حيث قال ثمة إنّ تقديم الصلة للاختصاص، فإنّ النعم الدنيوية قد يتوسط فيها من يستحق الحمد لأجلها بخلاف نعم الآخرة انتهى. و قد اعترض عليه بأنّ ظاهره أنّ شيئا من حمد العبد لا يحمد به اللّه تعالى، و لا يخفى أنّ المحمود به و عليه إذا كان وصفا بينه و بين عباده، كالعلم و الجود يصح أن يقال إنه المستحق له إذا جرّد عن إضافته للعبد إلّا أن يكون ذلك مما تنزّه عنه سبحانه اللهمّ إلّا أن يقال هذا على رأي من يقول لا اشتراك بين اللّه و غيره في شي‏ء من الصفات إلّا بحسب اللفظ، فالوجه أن يقال أنه لم يرد بكون الحمد كله للّه جعله محمودا بعين تلك المحامد موصوفا بتلك الأوصاف نفسها، و يدلّ عليه قوله: (ما من خير إلخ) إذ الإيلاء لا يقتضي الاتصاف بل يريد أنّ كلّ حمد لسواه مستلزم لحمد اللّه و هو أنه مولى لتلك النعمة و موصلها فهو حامد بلسان الحال، و الأوّل كالمعدوم في جنب الثاني بمنزلة الواسطة إلى المقصود ففي الحقيقة لا وجود لمحامد الغير، و إنما الموجود في كل حمد حمده، و أيضا حمل الحمد على المحمدة، قيل إنه لا يفيد لأنّ الكلام في الحمد بمعناه الحقيقيّ لا بمعنى المحمدة، و الأولى أن يقال الحصر بناء على عدم الاعتداد بحمد العبد باعتبار كسبه، و أيضا قوله و يأباه قوله في الحقيقة ليس بمسلم على ما مرّ من معناه.

(أقول) ما ذكره المصنّف هنا برمّته مأخوذ من الإمام و قد قدم طرفا منه في تفسير لفظ الرحمن و حاصله أنّ كل ما هو في الوجود موجود مما هو ممدوح و محمود صفات و أفعالا بخلقه تعالى ابتداء أو بوسط كلا وسط، إذ هو خالق لفاعله و ممكن له من فعله و موجد لدواعيه، و هذا لا ينكره أحد من العقلاء فإنّ إنكاره تعطيل فحينئذ إذا حصر الحمد فيه، و قيل إنه لا يحمد سواه نظرا لهذا أي ضير فيه، و هذا مما يجري في المقام الخطابي ادّعاء و مبالغة لا سيما إذا انسلخت الأخبار من الخبرية إلى الإنشاء، فإن أراد هؤلاء أنه لا يتأتى باعتبار اللغة، و عرف التخاطب حقيقة فقد وقع في كلامهم مرّة بعد أخرى ما يدفعه، فتذكره و لا تكن من الغافلين، و أمّا كون ما ذكره في سورة سبأ مما ينافيه مع أنه صريح فيه فغنيّ عن الجواب.

و قوله: (إذ الحمد إلخ) تعليل للاستغراق، و أفرده بالتعليل لأنّ الجنس معنى ظاهر أصليّ و ما جاء على الأصل مستغن عن بيان وجهه و علته كما قيل و يحتمل أنه تعليل لهما أي لم يجعل لفرد معين لما ذكر، و الأوّل هو الظاهر، و المولى بضم الميم و كسر اللام كالمعطى زنة و معنى،

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 135

النحل، الآية: 53] و فيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم إذا الحمد لا يستحقه، إلا من كان هذا شأنه و قرئ الحمد للّه باتباع الدال اللام، و بالعكس تنزيلا لهما من حيث أنهما فالوسايط بمنزلة الشروط و الآلات و لا مؤثر سواه، و هو مذهب المشايخ و الحكماء أيضا كما في الإشارات قوله: كما قال تعالى‏ وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ‏ [سورة النحل 53] ذكره مؤيد الكون كل خير منه إذ لا فرق بين الخيرات المتعدية و القاصرة أو أنعم هنا بمعنى أعطاه اللّه و أوجده مطلقا و في هذه الآية إشكال سيأتي في كلام المصنّف دفعه قال ابن الحاجب في إيضاح المفصل: الشرط و ما شبه به الأوّل فيه شرط للثاني نحو أسلم تدخل الجنّة و هنا على العكس، و هو أنّ الأوّل استقرار النعمة بالمخاطبين، و الثاني كونها من اللّه عزّ و جلّ، و لا يستقيم أن يكون الأوّل فيه سببا للثاني لكونه فرعا عنه، و تأويله أنّ الآية جي‏ء بها لإخبار قوم استقرّت بهم نعم جهلوا معطيها و شكوا فيه فاستقرارها مشكوكة أو مجهولة سبب للإخبار بكونها من اللّه عزّ و جلّ، و جواب الشرط جملة قصد تبيين مضمونها، أو الإعلام بها فيصير الشرط سببا للمشروط و من ثمة و هم من قال إنّ الشرط قد يكون مسببا انتهى قيل: و يمكن أن يقال وجود النعمة بهم سبب لكونها من عند اللّه إذ كونها من عند اللّه متوقف على أصل الكون، و قد ذكر الرضى أنّ الشرط يدلّ على لزوم الجزاء للشرط و لا يخفى ما فيه من التعسف، و ما نقله عن الرضى هو ما قال ابن الحاجب إنه و هم و سيأتي فيه كلام في محله قوله: (و فيه إشعار إلخ) أي في قوله الحمد للّه، أو في إثبات الحمد له، و هو من اعتبار الاختيار فيه، و لذا قيل إنّ فيه إشارة إلى إيثار الحمد على المدح أيضا لا في اختصاص جميع المحامد به تعالى كما توهم لما فيه من التكلف، و قيل بل فيه إشعار بثبوت جميع الكمالات له تعالى، إذ يفهم منه اختصاص جميع أفراد الحمد، و كل كمال يصلح لأن يقع في مقابلة حمد، فالمستحق لجميع المحامد متّصف بجميع الكمالات، و الإشعار الذي ذكره بناء على أنّ المحمود لا بدّ له من أن يكون مختارا، و المختار يتصف بتلك الصفات، و قدرته تعالى عند أهل الحق كونه بحيث يصح منه صدور الفعل و عدم صدوره بالقصد، و القدرة في الحيوان مصححة للفعل و عدمه، و إرادته تعالى صفة مخصصة لأحد المقدورين، و قيل هي في الحيوان شوق يؤدّي إلى حصول المراد، و قيل إنها مغايرة للشوق إذ هي ميل اختياريّ، و الشوق ميل طبيعي، و إرادة اللّه عند الحكماء علمه بنظام الكلّ على الوجه الأكمل، فإنّ العلم عندهم من حيث أنه كاف، و مرجح لطرف وجوده على عدمه إرادة، و الحياة في الحيوان صفة تقتضي الحس و الإرادة، و حياة اللّه عند المتكلمين صفة مصححة للقدرة و الإرادة و قال الحكماء الحيّ الدرّاك الفعّال و في إشعار الحمد باتصافه بالحياة و العلم و القدرة، و الإرادة على مذهب المتكلمين نظر إلّا أن يقال الحمد مشعر بأصل الإتصاف، و كيفيته معلومة من خارج، و الحق أنه يفهم من اتصاف إنسان ما بالاختيار اتصافه بهذه الصفات، فمن يعتقد اتصافه بالاختيار أيضا يعتقد تلك الصفات في حقه لكن مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إلى الإنسان، و إليه أشار بقوله إذ الحمد إلخ قوله: (و قرئ إلخ)

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 136

يستعملان معا منزلة كلمة واحدة رَبِّ الْعالَمِينَ‏ الربّ في الأصل مصدر بمعنى التربية، الأولى قراءة الحسن البصري و الثانية قراءة إبراهيم بن أبي عبلة و قوله: (تنزيلا إلخ) إشارة إلى قول الزمخشري الذي جسّرهما على ذلك و الاتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم منحدر الجبل و مغيرة تنزّل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين، و أشفّ القراءتين أي أفضلهما قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى، و عدل عنه المصنّف رحمه اللّه لما فيه من الإشارة إلى أنّ القراءة تكون بالرأي، و سيأتي ردّه مع أنّ ما ذكره قد ردّ بأنّ الأكثر في اللغة جعل الثاني متبوعا و كون غير اللازمة تابعة أولى، و كون الحركة الإعرابية أقوى غير مسلم و الإتباع يتعدّى إلى مفعول واحد و إلى اثنين و اختلفوا في أنّ ما كان فاعلا له قبل الهمزة هل يصير مفعولا أوّلا أو ثانيا فيحتمل كون الدال تابعا و عكسه فتدبر (بقي هنا شي‏ء شريف) و هو أنّ الماتريدي في التأويلات جعل هذا حمدا من اللّه لنفسه قال: و إنما حمد نفسه ليعلم الخلق فإن قيل كيف يجوز و مثله في الخلق غير محمود.

قيل إنه لوجهين:

أحدهما أنه استحق بذاته لا بأحد فيكون في ذلك تعريف الخلق لما يزلفهم لديه بما أثنى على نفسه ليثنوا عليه و غيره إنما يكون ذلك لربّه عزّ و جلّ، فعليه توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه إذ نفسه لا تستوجبه بها بل باللّه تعالى.

و الثاني أنه تعالى حقيق بذلك إذ لا عيب يمسه و لا آفة تحلّ به، فيدخل نقصانا في ذلك، و لا هو خاص بشي‏ء و العبد لا يخلو عن عيوب تمسّه، و آفات تحلّ به و يمدح بالايتمار و يذم بتركه و في ذلك تمكن النقصان انتهى. يعني أنه لا يقاس على غيره فإنه تعالى متصف بالمحامد من ذاته فله أن يحمد ذاته بذاته، و أيضا مدح النفس نهي عنه لما فيه من النقص و الغرور و الافتخار على الغير المؤدّي لانكساره و هو منزّه عنه، و لهذا لا يذمّ إذا سلم من ذلك كأن يكون تحدّثا بالنعمة أو سببا للاقتداء به، و الحثّ على مثله مثلا، فعلى الأوّل لا يسمى مادح نفسه حامدا، و على الثاني يصح و الزمخشريّ لم يجعله حمدا لنفسه فقال: و المعنى تحمد اللّه حمدا، و لذلك قيل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ لأنه بيان لحمدهم له كأنه قيل كيف تحمدون فقيل:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ إلخ و قد قيل عليه إنه تعكيس، لأنّ جعل صدر الكلام متبوعا أولى من العكس و المحققون على تعميم الحمد، و إنما ترك العاطف في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأنّ الكلام الأوّل جار على مدح الغائب لاستحقاقه كل حمد، و الثاني حكاية عن نفس الحامد من بيان أحواله بين يدي ذلك الغائب، فترك العاطف للفرق بين الحالتين لا للبيان و يدلّ عليه أنّ الالتفات إنما يكون في سياق واحد لمعلوم واحد و كأنه حين قرّر الالتفات نسي هذا.

و ما بالعهد من قدم.

و في هذا كلام طويل تركناه خوف السآمة، و كأنّ المصنّف لم يتعرّض لهذا رأسا لما رأى‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 137

و هي تبليغ الشي‏ء إلى كماله شيئا فشيئا ثم وصف به للمبالغة كالصوم و العدل و قيل هو نعت فيه من الاضطراب و الخفاء، و لعلّ التوبة تفضي إلى بيانه أتم بيان إن شاء اللّه تعالى قوله:

(الربّ في الأصل إلخ) المراد بالأصل حالة وضعه الأوّل، فهو فيه مصدر أطلق على الفاعل مبالغة كما يقال: عدل بمعنى عادل بدون تأويل، و لا تقدير مضاف لأنه يفوتها، فالربّ و التربية مترادفان، و ربه يربه و رباه تربية بمعنى و التربية من ربى الصغير بالتخفيف كعلا يعلو إذا نشأ فعدى بالتضعيف، و قيل أصل رباه رببه فجعلت إحدى الباآت ياء و الربّ كما يكون بمعنى المربى يكون بمعنى المالك و قد فسر بهما، و على الأوّل قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ معنى جديد، و على الثاني تخصيص بعد تعميم قيل، و كلامه في الكشاف يميل إلى اختيار الثاني قوله: (و هي تبليغ الشي‏ء إلى كماله إلخ) المراد بكماله ما يتمّ به الشي‏ء في صفاته، و يطلق على الخروج من القوّة إلى الفعل و الفرق بينه و بين المقام أنّ الثاني يشعر بالانقطاع كما قال:

إذا تم أمر بدا نقصه‏

تيقن زوالا إذا قيل تم‏

و قوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ‏ [سورة الانفطار 6] تفصيل لما دلّ عليه الربّ فلا يقال إجراء هذه الصفات على الربّ يقتضي عدم تضمنه لمعناها كما توهم و قوله: (شيئا فشيئا) منصوب على الحال لأنّ المراد منه متدرجا أو مترتبا و فيه إشارة إلى أنّ التفعيل يدلّ على التدريج كما صرّح به الزمخشري في قوله تعالى: يَتَسَلَّلُونَ‏ [سورة النور 63] فقال أي قليلا قليلا، و نظيره تدرج و تدخل، و في المثل درّج الأيام تندرج، و على هذا فإضافته معنوية و جعله بمعنى الصفة المشبهة أو اسم الفاعل غير مرضيّ، كما حقق في شرح التلخيص، و قوله ثم وصف به للمبالغة بصيغة المجهول المسند للجار و المجرور أو هو مسند لضمير اللّه و هو بمعنى المالك مأخوذ من هذا، أو منقول منه كما سيأتي بيانه قوله: (و قيل هو نعت إلخ) المراد بالنعت الصفة المشتقة التي من شأنها أن ينعت بها، و هو صالح للصفة المشبهة و غيرها، و شراح الكشاف قالوا المراد أنه صفة مشبهة.

و في شرح التسهيل كونه صفة مشبهة ممنوع، و الظاهر أنه من مبالغة اسم الفاعل، أو هو اسم فاعل و أصله رابّ فخفف، و كلام ابن مالك في التصريف يشهد له، و يؤيده قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ فإنه متعدّ مضاف إلى المفعول و الصفة المشبهة تضاف للفاعل، و قال قدّس سرّه: لما كان مجي‏ء الصفة على فعل من باب فعل يفعل بفتح الماضي و ضمّ المضارع عزيزا استشهد له، فقال: نمّ ينمّ بالضم و الكسر فهو نمّ، و لا بدّ فيه من النقل أيضا، و في ترك المفعول إشارة إليه و في التمثيل به أيضا غاية المناسبة للممثل له حيث وصف بالمصدر، و هو النم كالربّ، و في نظر لا يخفى، فإنه يجوز أن لا يكون نمّ من مضموم العين بل من مكسورها، و كلام القاموس على أنه يجي‏ء من كل منهما، و نمّ متعدّ بنفسه للحديث، و يعلي و اللام للمنقول عنه كما في من نمّ لك نمّ عليك، و النميمة نقل الكلام على وجه الإفساد و قوله مجي‏ء الصفة على فعل إن كان على أنه محرّك العين فغير صحيح، و إن كان بسكونها فغير مسلم.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 138

من ربه يريه فهو ربّ كقولك نمّ ينمّ فهو نمّ ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه و يربيه و لا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله تعالى: ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ‏ [سورة يوسف، قال ابن الصائغ في حواشيه على الكشاف: و من خطه نقلت لم يتعرّضوا لوزنه، و ينبغي أن يكون فعلا بكسر العين، فأدغم لا فعلا لأنه جمع على أرباب، و أفعال لا يقاس فيه فتدبر قوله: (ثم سمي به المالك إلخ) أي نقل له بعدما كان مصدرا بمعنى التربية، أو نعتا بمعنى المربي و لما كان تبليغ الشي‏ء لكماله من شأن المالك سمي به و أيضا هو لا يسمى بدون حفظه، فلذا أطلق على الحافظ، و هذه المناسبة لا تنافي كونه حقيقة إذ هي تراعى في المنقولات و غيرها من الموضوعات، فمن قال إنه ردّ على الواحديّ حيث قال: الرب في اللغة له معنيان التربية و المالك لم يأت بشي‏ء مع أنّ كلام الواحدي لا يقتضيه أيضا، و في بعض التفاسير أنه يطلق على المالك و الشهيد و المربي و المدبر و المنعم و المصلح و المعبود، و قال ابن عبد السلام حمله على المصلح أولى لعمومه قوله: (لأنه يحفظ ما يملكه و يربيه) معطوف على يحفظ أو يملك، و قد مرّ بيانه قيل هو إشارة إلى أنّ معنى الحفظ معتبر في أصل معناه إذ لا يتصوّر التبليغ إلى الكمال بدونه لكن في كونه جزءا من معناه نظر، و قيل في ردّه إنّ الحفظ من جملة التربية بل تبليغ الشي‏ء إلى كماله مستلزم لحفظه، فلا خفاء في كون معنى الحفظ جزءا لمعنى الرب بحسب الأصل و ليس برمته شيئا قوله: (و لا يطلق على غيره تعالى إلّا مقيدا) بإضافة و نحوها مما يدل على ربوبية مخصوصة سواء كان إضافة أولا قال في المصباح: الربّ يطلق على اللّه تعالى معرّفا بالألف و اللام و مضافا، و يطلق على مالك الشي‏ء الذي لا يعقل مضافا إليه، فيقال ربّ الدين، و ربّ المال، و في التنزيل‏ فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً [سورة يوسف 41] قالوا و لا يجوز استعماله بالألف و اللام للمخلوق بمعنى المالك لأنّ اللام للعموم، و المخلوق لا يملك جميع المخلوقات، و ربما جاء باللام عوضا عن الإضافة إذا كان بمعنى السيد قال الحارث بن حلزة:

فهو الربّ و الشهيد على يوم الجبارين و البلاء بلاء

و منع بعضهم أن يقال: هذا ربّ العبد، و أن يقول العبد هذا ربي و قوله عليه الصلاة و السلام: «حتى تلد الأمة ربتها» «1» في رواية حجة عليه انتهى. و حاصل ما قالوه أنه إذا كان بمعنى المالك لا يطلق على غيره تعالى إلّا مقيدا بإضافة، و ما هو بمعناها لأنّ المالك الحقيقي هو اللّه و الملك المطلق له، و لو كان بمعنى غير المالك جاز مع القرينة إطلاقه على غيره و كذا إذا أضيف لفظ كربّ الدار أو معنى كزيد ربّ الإبل و الربّ يتصرّف كما يريد و كذا إذا كانت‏

(1) هو بعض حديث سؤالات جبريل المطول، و قد أخرجه مسلم 8 و أبو داود 4695 و الترمذي 2610 و النسائي 8/ 97 و ابن ماجه 63 من حديث ابن عمر، و فيه: «أن تلد الأمة ربتها و أن الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يطاولون في البنيان».

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 139

الآية: 50] و العالم اسم لما يعلم به كالخاتم و القالب غلب فيما يسلم به الصانع و هو كل ما اللام عوضا عن الإضافة كما مرّ، فلا وجه لما قيل في القاموس من أنه لا يطلق باللام إلّا على اللّه لأنّ ما ذكر يردّه و لا حاجة إلى ما قيل من أنه كان في الجاهلية، و قد نسخه الإسلام أو هو جهل بالحكم الإسلاميّ، و هذا أيضا إذا كان مفردا فإذا جمع كالأرباب جاز إطلاقه على اللّه، و على غيره إذ لم يطلق على اللّه أو على اللّه وحده، و كان حقه أن لا يجمع لكنه ورد جمعا كما في قوله تعالى: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ‏ [سورة يوسف 39] و هذا وارد على زعمهم، و ما قيل من أنه يجوز إطلاقه كما في هذه الآية، و تقييده كما في رب الأرباب قيل: إنه سهو لأن المقيد الربّ لا الأرباب و لك أن تقول إنّ المراد التقييد المعنوي كما مرّ لأنه بإضافة الربّ إليه علم أنّ المقصود به ما سوى اللّه من الآلهة، و قوله كقوله تعالى: ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ‏ [سورة يوسف 50] عدل عن تمثيل الزمخشري بقوله: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ‏ [سورة يوسف 23] لأنه قيل إنه عنى به اللّه تعالى، و قيل عنى الملك الذي ربّاه كما قاله الراغب. و أما هذه الآية فالمراد فيها الملك و لا وجه لما قيل من أنّ استشهاده بما حكي عن يوسف عليه الصلاة و السلام يشعر بأنّ كلامه غير مختص بالإسلام لأنّ ما قصّ علينا من شرع من قبلنا من غير إنكار، و لا إشعار باختصاص بتلك الأمة فهو شرع لنا كما صرّحوا به، و القول بأنه يزعم المخاطب به لا يناسب الاستشهاد به. و أمّا قوله عليه الصلاة و السلام: «لا يقل أحدكم أسق ربك» فهو نهي تنزيه، و قد قال النوويّ رحمه اللّه إنه مكروه مطلقا و قيل إنه منسوخ قوله: (و العالم اسم لما يعلم به إلخ) أي يكون وسيلة للعلم به، و هو شامل للأشخاص و غيرها كما سيأتي، و هو اسم آلة مشتقة من العلم كالخاتم من الختم لكنه غير مطرد، و لذا لم يذكر في علم التصريف، و قالب بفتح اللام و يجوز كسرها آلة معروفة يفرغ فيها الجواهر المذابة، و هو في الأصل غير عربيّ معرّب كالب كما في بعض كتب اللغة، و قيل عربيّ اسم لما يقلب به الشي‏ء، فإنه يقلب الشي‏ء من شكله الأصليّ إلى شكله نفسه، و قدم المصنّف رحمه اللّه هذا الوجه لأنه أدخل في المدح، و الزمخشري أخره، و المراد بالصانع اللّه تعالى، و إطلاقه عليه قد ورد في حديث صحيح رواه الحاكم و البيهقي عن حذيفة و لفظه: «إنّ اللّه تعالى صانع كل صانع و صنعته» «1» و لا يتوهم أنه مشاكلة فلا يجوز إطلاقه عليه منفردا لما سيأتي، و سئل السبكي رحمه اللّه عن إطلاق المتكلمين الصانع على اللّه عزّ و جلّ مع أنّه لم يرد في أسمائه الحسنى، فأجاب بأنه ورد في القرآن‏ صُنْعَ اللَّهِ‏ [سورة النمل 88] و قرئ في‏ صِبْغَةَ اللَّهِ‏ [سورة البقرة 138] صنعة اللّه بالعين المهملة، و في طبقات النحاة أنه إنما يتمشى على رأي من يكتفي في صحة الإطلاق عليه تعالى بورود المادّة، و الأصل و لا حاجة إليه لما سمعته، و أيضا روى الطبرانيّ في حديث آخر: «اتقوا اللّه فإنّ اللّه‏

صفحه بعد