کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 145

لغيرهم على سبيل الاستتباع، و قيل عنى به الناس ههنا فإن: كل واحد منهم عالم من حيث كالزمخشريّ لم يرد ذلك كما بينه شراحه فإن وهم من قوله لذوي العلم، فوهم على وهم إذ لا يلزم من كون معناه ذوي العلم كونه اسم فاعل، و إنما مرض لأنه إن قيل إنه حقيقة خالف اللغة و إن قيل إنه مجاز لم يفد فائدة، قيل و جمع جمع قلة على الأصح لقلتهم في جنب عظمة قدرته أو بالنسبة لما عداهم و فيه نظر و لفظ اسم بمعنى مقابل الفعل أو مقابل الصفة، و ما قيل من أنه على هذا مأخوذ من العلم و على ما مرّ من العلامة دعوى بلا دليل. قوله: (من الملائكة إلخ) بيان لذوي العلم، و الثقلان الجنّ و الإنس لأنهما ثقلا الأرض و الاستدلال به على تجسم الجنّ في غاية الوهن. قوله: (و قيل عنى به الناس ههنا إلخ) عنى بمعنى قصد مبنيّ للمجهول أو للمعلوم، و الضمير المستتر فيه للّه تعالى لأنه معلوم بقرينة المقام و التعبير به إشارة إلى أنه معنى مجازيّ، و هذا القول نسب إلى الحسين بن فضل، و احتج بآيات منها قوله تعالى‏ أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ‏ [سورة الشعراء، الآية: 165] و هو منقول عن أهل البيت أيضا، و نقله الراغب عن جعفر الصادق، و عبارته عبارة المصنف بعينها، و المراد أنه في الأصل و الحقيقة كل ما سوى اللّه من الجواهر و الأعراض، و قصد به هنا الناس خاصة لتنزيله منزلة جميع الموجودات لأنه فذلكة جميع الموجودات و نسخة كل الكائنات المنقولة من اللوح الرباني بالقلم كما أشار إليه المصنف رحمه اللّه بقوله من حيث إلخ و إياه عنى القائل:

و تزعم أنك جرم صغير

و فيك انطوى العالم الأكبر

و هو منزع صوفيّ، فمن قال في شرحه: إنّ تخصيصه بهم لأنّ المقصود بالذات من التكليف بالأحكام من الحلال و الحرام و إرسال الرسل عليهم الصلاة و السلام، و إنزال الكتب هو الإنسان قال اللّه تعالى‏ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [سورة الفرقان، الآية: 1] لم يقف على مراده، و لم يحم حول مرامه، و على هذا هو شائع في أفراد البشر مشترك بينها اشتراكا معنويا فكل فرد منه بمنزلة جنس من تلك الأجناس، و مرّضه المصنف رحمه اللّه لمخالفته لأصله من غير مقتض، و لا دليل يدل عليه إذ المناسب للمقام التعميم، فلا يرد عليه أنه قد يختص بهؤلاء كما في قوله تعالى‏ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ‏ [سورة الجاثية، الآية: 16]. قوله: (من حيث أنه يشتمل إلخ) قيد الحيثية في كلام المصنفين يستعمل على وجوه هي الإطلاق كما يقال إنّ الإنسان من حيث هو إنسان مدرك للكليات و الجزئيات، و التقييد كما يقال دلالة التضمن دلالة اللفظ على جزء معناه من حيث هو جزؤه، و التعليل كما يقال الأفيون من حيث إخراجه للحرارة الغريزية يسخن ظاهر البدن و هذا هو المقصود هنا، و يشتمل افتعال من الشمول و هو الإحاطة و الفرق بين الاشتمال، و الشمول أنّ الشمول يوصف به المفهوم الكليّ بالنسبة إلى جزئياته، و الاشتمال يوصف به الكل بالنسبة لأجزائه و هذا أغلبيّ، فلا يرد عليه ما يخالفه، و المراد بالعالم الكبير عالم الملك و هو السماء، و ما تحويه بأسره، و اشتماله كما في حاشية منقولة عنه لأنّ ما في ذلك العالم من شي‏ء إلا و في الإنسان نظيره مما يحكيه، و يفيد ما يفيده‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 146

أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر، و الأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم، و لذلك سوّى بين النظر فيهما، و قال تعالى: وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ‏ [سورة الذاريات، الآية: 21] و قرئ ربّ العالمين بالنصب على المدح أو النداء، أو في الجملة إذ بدن الإنسان بمنزلة العالم السفليّ، و أخلاطه كعناصره، فالسوداء كالأرض و التراب لكونها باردة يابسة، و البلغم كالماء لكونه باردا رطبا، و الدم كالهواء حارّ رطب، و الصفراء كالنار حار يابس، و رأسه بما فيه من الحواس الظاهرة و الباطنة على رأى، كالعالم العلوي لأنه منبت للأعضاء التي هي محل الحس، و الحركة كما أنّ العالم العلوي منوط به أمر السفليات على ما قال تعالى‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ‏ [سورة السجدة، الآية: 5] ما مع انفرد به من الكمالات المتنوّعة، و الهيئات النافعة، و المناظر البهية، و التراكيب العجيبة المبنية في علم التشريح و نحوه مما لا يحصى، كالتمكن من الأفعال الغريبة، و استنباط الصنائع المختلفة، فسبحان من زوّج الآباء العلوية بالأمّهات السفلية، و نقل نسخ الوجود بقلم قدرته العلية إلى الصحف المكرّمة الإنسانية. قوله: (من الجواهر و الأعراض) يجوز أن يكون بيانا للنظائر، و لما أضيف إليه، قيل و الأوّل أظهر ليكون قوله يعلم بها متعلقا بما هو أقرب و في قوله بما أبدعه في العالم إشعار بأنّ المشبه به مبدع بخلاف المشبه لنكتة، و هي أنه لما جعله نظيرا للعالم الكبير كان مسبوقا بالمثل في الجملة، و إن كان نوعه باعتبار صورته الخاصة به مبدعا على أحسن تقويم. و من لم يتنبه له أورد عليه أنّ الإبداع إيجاد الشي‏ء من غير سبق مثال و هذا متحقق بالنسبة إلى العالم الصغير و الكبير. قوله: (و لذلك سوّى إلخ) ذلك إشارة إلى الاشتمال على النظائر المعلوم مما قبله، و النظر بمعنى الابصار بالعين، و بمعنى التفكر، و التفات النفس بالبصيرة للمعاني، و هو المراد هنا لتعديه بفي، و هو في الأصل مصدر شامل للقليل و الكثير، و حقه أن لا يثنى، و لا يجمع فلذا أفرده، فلا وجه لما قيل من أنّ الظاهر أن يقال بين النظرين لاقتضاء بين التعدّد، فكأنه اكتفى بالتعدّد المعنويّ من قوله فيهما ضرورة أنّ النظر في أحدهما عين النظر في الآخر انتهى، و ضمير فيهما عائد على العالم الكبير و الصغير، و هو الإنسان و التسوية واقعة في النظم، أمّا في قوله تعالى‏ وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ‏ [سورة الذاريات، الآية: 20- 21] و هو الظاهر أو في قوله‏ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ‏ [سورة فصلت، الآية: 53] و قوله: (و قال إلخ) معطوف على قوله سوّي عطف تفسيريّ، فتكون التسوية إشارة إلى الآية الأولى أو هو أمر مستقل مغاير لما عطف عليه، فالتسوية بما في الآية الثانية و هي سنيريهم إله. و قوله و في الأرض إن أريد به ظاهره فتخصيصها من بين دلائل الآفاق لظهورها لمن على ظهورها، و في قوله‏ أَ فَلا تُبْصِرُونَ* من غير تمييز بين الإبصار المتعلق بالأنفس، و المتعلق بما يقابلها إشارة إلى شدّة ظهورها إذّ سوّى بين المحسوس و غيره حتى، كأنّ الجميع محسوس. قوله: (و قرئ ربّ العالمين بالنصب إلخ) مثل هذا النصب على القطع، و كونه على المدح مستفاد من المقام إذا قدر أمدح و ليس بمتعين فقد يقدر

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 147

بالفعل الذي دلّ عليه الحمد، و فيه دليل على أنّ الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث غيره كاذم و أذكر و أعني و نحوه و في شرح العمدة لابن مالك أنّ المنعوت إذا كان متعينا لم يقدّر أعني بل أذكر، و هذه قراءة زيد بن عليّ، و هي من الشواذ و ضعفت بالاتباع بعد القطع إلا أنه قيل إنّ زيدا قرأ بنصب الرحمن الرحيم أيضا فلا ضعف فيها، و قال أبو حيان قرئ بالنصب، و هي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها، لأنهم نصوا على أنّ الاتباع بعد القطع في النعوت غير جائز، إلا أن يقال الرحمن بدل لا نعت و هو مبنيّ على وجوب تقديم المتبع، و هو غير متفق عليه فإنّ صاحب البسيط جوّزه، و روى شواهد تدل عليه و نصبه على النداء ظاهر لكنه، كما في الدرّ المصون أضعف الوجوه لما فيه من اللبس و الفصل بين الصفة و الموصوف، و فيه أيضا التفات إلا أنه لا يجري فيه ما سيأتي. قوله: (أو بالفعل الذي دل عليه الحمد) فهو منصوب بفعل مقدّر هو أحمد أو نحمد لدلالة الحمد عليه، ليس على التوهم، فقول أبي حيان إنه ضعيف لأنه للتوهم، و هو من خصائص العطف توهم غير صحيح مع أنه لا يختص بالعطف أيضا كما بين في محله، و نصبه به صادق بأن يكون مفعوله أو صفة مفعوله، فإنّ صاحب الكشاف قدّره نحمد اللّه ربّ العالمين لأنّ ربّ صفة لا بدّ له من موصوف يجري عليه في الأفصح، و لم يجعل الحمد المذكور عاملا فيه لقلة أعماله محلى باللام، و لأنه يلزم الفصل بين العامل و معموله بالخبر، و هو أجنبيّ كما قيل و أورد عليه في بعض الحواشي أنّ الزمخشري ذكر في قوله تعالى‏ وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ‏ [سورة البقرة، الآية: 240] في قراءة أبيّ أنّ متاعا نصب بمتاع، لأنه في معنى التمتع كقولك الحمد للّه حمد الشاكرين فقال التفتازانيّ جاز نصب حمد الشاكرين بالحمد، و هو مصدر معرّف أيضا مع الفصل بالخبر لأنه في الأصل معمول للحمد في موضع المفعول كما تقول حمدا له فجاز لذلك، و كذا كل مصدر جعل متعلقه خبرا عنه، و يؤيده أنّ صاحب الكشاف و المصنف قالا في قوله تعالى‏ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي‏ [سورة مريم، الآية: 46] إنّ راغب خبر مقدّم مع تعلق عن آلهتي به، و في الكشف جاز هذا بناء على أنّ المبتدأ ليس أجنبيا من كل وجه فالمبتدأ و الخبر لاتحادهما معنى كشي‏ء واحد لا يعدّ الفصل بأحدهما من الفصل بالأجنبيّ، و هو قدّس سره عدّه منه.

و أنا أقول فيما ذكر اختلاف للنحاة، أمّا أعماله معرّفا ففيه أربعة مذاهب إجازته مطلقا و هو مذهب سيبويه، و منعه مطلقا و هو مذهب الكوفيين، و جوازه على قبح، و هو مذهب الفارسيّ، و بعض البصريين، و التفصيل بين أن يعاقب فيه أل الضمير فيجوز أولا فيمتنع، و كذا اعماله مع الفصل مطلقا سواء كان بأجنبيّ أو لا فمنعه بعض النحاة و أجازه بعضهم لقوله تعالى‏ إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [سورة الطارق، الآية: 8] لتعلق يوم برجعه، و من منعه قدّر عاملا على أنّ منهم من تساهل في الظروف، و قيل الأظهر في توجيه هذه القراءة أنه مفتوح فتحة بناء لأنه ماض يقال ربه يربه إذا ملكه، و لا يخفى بعده و تكلفه فإنّ هذه الجملة لا بدّ لها من موضع و لا يصح أن يكون هنا صفة، و الحالية غير مناسبة معنى مع أنه قرئ بنصب الرحمن الرحيم،

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 148

حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ كرّره للتعليل على ما فالمناسب كون ما قبله منصوبا، فما ادّعى أظهريته ليس بظاهر. قوله: (و فيه دليل إلخ) أي في توصيف اللّه بربّ العالمين دليل على ما ذكر، و من حكم بأن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان قال: إنّ اتصاف الممكن بالوجود ليس من مقتضى ذاته حدوثا و بقاء، فهو في ابتداء وجوده، و استمراره محتاج إليه، و من قال بأنّ المحوج له هو الحدوث لزمه استغناؤه عنه حال بقائه، و دفع بأنّ شرط بقاء الجوهر العرض، و هو متجدّد محتاج إلى المؤثر في كل حين، فكان الجوهر محتاجا إليه حال بقائه بواسطة احتياج شرطه، فلا استغناء له أصلا فرجع إلى المذهب المنصور بلا اختلاف في احتياجه إليه في البقاء و إنما الخلاف في أنه بالذات أولا و هو سهل، و كذلك افتقاره إلى المبقي في كلام المصنف رحمه اللّه، و وجه الدلالة أنّ التربية تبليغ الأشياء إلى كمالها شيئا فشيئا إلى انقضائها فيلزم استنادها إليه بقاء و حدوثا، و أيضا العالم ما يعلم به الصانع و لا يكون ذلك إلّا بعد وجوده و هو ظاهر، و كذا الملك لما يلزم من الحفظ و الاستناد إلى المالك فسقط ما قيل من أنّ الدلالة فيها كلام، فإنّ التربية و المالكية تجامعان استغناء الممكنات عن المبقى، و إن دفعه القائل بأنه يمكن أن يقال إنّ الحفظ معتبر في معنى الربّ أو لازم له إذ معناه إدامة وجود الممكنات و إبقاؤها كما ذكره الغزاليّ، و أورد عليه أنّ الحفظ له معنيان كما صرّح به الإمام أحدهما ما ذكر، و الآخر صيانة المتعاديات و المتضادّات بعضها عن بعض، ففي كون المعتبر في مفهومه، أو لازمه هو الأوّل نظر إلا أن يراد بالمبقى أعمّ مما يديم الوجود أو يصونه، و ما قيل من أنّ بقاء الممكنات من جملة بلوغها إلى الكمال، و احتياجها في بلوغ الكمال إلى المؤثر يدل على احتياجها إليه مطلقا، فالرب من حيث تبليغها إلى البقاء مبق كما أنه من حيث إخراجها من العدم إلى الوجود مبدع لا محصل له، و قد عرفت ما يغنيك عن أمثاله، فإنّ البقاء ليس إلا وجودا مأخوذا بالإضافة إلى الزمان الثاني، و الوجود في الزمان الثاني متوقف على ما قبله و محتاج و المحتاج إلى المحتاج محتاج بديهة، فإنّ اتصافه بالوجود لما لم يكن ذاتيا أوّلا كان كذلك فيما بعده لاستواء نسبته إلى الوجود في سائر الأزمان و تجدّد الوجود له في كل حين هو التربية الإلهية و لا حاجة إلى أن يقال الدليل في كلامه ليس بمعنى البرهان القطعيّ بل ما يقتضيه الفحوي و يشهد به الذوق، و المصنف رحمه اللّه كثيرا ما يريد به هذا.

قوله: (كرّره إلخ) ما سيذكره هو قوله و إجراء إلخ. فإن ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فهذا تعليل لاستحقاقه للحمد و أنه لاتصافه تعالى بهما، كما أنّ ذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه و التبرّك به، و هذا بناء على مذهبه من أنّ البسملة من الفاتحة أو جواب عما قيل أنّ البسملة ليست من السورة، و إلا لزم تكرار الاسمين من غير فائدة و في التفسير الكبير الحكمة في تكريره أنه في التقدير، كأنه قيل اذكر أني إله ربّ مرة، و اذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر من سواها، ثم لما بين تضاعف الرحمة قال: لا تغترّ بذلك فإني مالك يوم الدين فهو كقوله‏ غافِرِ الذَّنْبِ‏ [سورة غافر، الآية: 3] إلخ و فيه أنّ‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 149

سنذكره‏

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ قرأه عاصم و الكسائي و يعقوب، و يعضدة قوله‏ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏ [سورة الإنفطار، الآية: 19] و قرأ الباقون ملك، و هو الألوهية مكرّرة أيضا فتدبر. قوله: (قرأه عاصم إلخ) ضمير قرأه راجع إلى مالك بالألف لأنه معلوم من تقدّم ذكره، و يعضده بمعنى يؤيده و يقوّيه، يقال عضده إذا صار له عضدا أي معينا و ناصرا، و أصل العضد في اليد من المرفق إلى الكتف فاستعير للمعنى المذكور ثم شاع حتى صار حقيقة فيه و جعل هذه الآية مؤيدة لهذه القراءة لأنها مأخوذة من الملك بالكسر، و سيأتي الفرق بينه و بين الملك بالضم، فإنّ المراد باليوم فيها يوم القيامة، و هو يوم الدين أيضا، و نفى المالكية عما سواه يقتضي إثباتها له إذ السياق لبيان عظمته تعالى، و مجرّد نفي المالكية عن غيره لا يقتضيها بشهادة الفحوى و الذوق، و تنكير الأسماء الثلاثة للتعميم، و تعميم الأخير لشموله الضرّ و النفع و القليل و الكثير، و أورد عليه أنّ قوله‏ وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏ [سورة الانفطار، الآية: 19] ظاهره يعضد قراءة ملك لمناسبته للأمر مناسبة تامّة، و قد فسّره في التيسير و غيره بأنّ الحكم حكمه و لا قاضي سواه، و هو صريح في إثبات الملك بالضم له، و لذا قيل إنه يؤيد خلاقه و قيل إنها مقوّية، و مؤيدة لا نص موجب لمدّعاه فيكفي موافقة معناه لأوّلها مع أنّ آخرها موافق له أيضا فإنّ المراد بالأمر المالكية فلما نفاها أوّلا عن غيره صرّح بعده بإثباتها على العموم له كما هو المعروف في أمثاله من التذييل، نعم هو على هذا بمنطوقه مؤكد لمفهوم ما قبله، و لو فسر الأمر بالملك بالضم كما مرّ أو بالأعمّ منه كان تأسيسا متضمنا للتأكيد على وجه أبلغ، و من هنا ظهر ضعف ما قيل أنه تعالى لما نفى مالكية أحد لشي‏ء على العموم أثبت بعده أنّ جميع الأمور مملوكة له تعالى في ذلك اليوم، فلا يشاركه أحد في مالكية شي‏ء منها، و هو معنى مالك يوم الدين و لا وجه لكونه مشتقا من الملك بالضم، لأنّ المقام يقتضي نفي التصرّف مطلقا لا نفي التصرّف بطريق التكليف فقط، و القرآن يفسر بعضه بعضا، و يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري هو التاسع من القرّاء العشرة. قوله: (و قرأ الباقون ملك) أورد عليه أنّ قراءة خلف بن هشام توافق القراءة الأولى، و ردّ بأنّ المراد بالباقين هنا باقي الثمانية الذين قدّم المصنف ذكرهم بقوله الأئمة الثمانية المشهورون، و قوله و هو المختار قيل عليه قد رجح كل فريق إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحا يكاد يسقط مقابلتها و هو غير مرضيّ لتواترهما، و قد روي عن ثعلب أنه قال: إذا اختلف إعراب القراءات السبعة لا أفضل إعرابا على إعراب في القرآن بخلاف ما إذا وقع في كلام الناس، و قريب منه ما قيل لو أبدل المختار بالأبلغ، كان أولى لتواترهما و وصف إحداهما بالمختار يوهم أنّ الأخرى بخلافه.

و أنا أقول في الفقه الأكبر أنّ الآيات لا يكون بعضها أفضل من بعض باعتبار التلاوة إنما يكون باعتبار المعنى، فسورة الإخلاص مثلا أفضل معنى من سورة تبت لأنّ معنى الأولى توحيد و هذه في صفة بعض الكفار، و الأوّل أفضل من هذه الجهة كآية الكرسي، و لا شبهة أيضا في أنّ بعض القراءات أفصح من بعض كقراءة ابن عامر قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ‏ [سورة

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 150

المختار لأنه قراءة أهل الحرمين و لقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ‏ [سورة غافر، الآية: 16] و لما فيه من التعظيم و المالك هو المتصرّف في الأعيان المملوكة كيف شاء من الملك، الأنعام، الآية: 137] لا يخفى على ذي تمييز أنّ قراءة الجمهور أفصح منها و أنّ بعض القراءات أشهر من الأخرى، كالقراءة المتفرّد بها راو و غيرها المتفق عليها الباقي و كبعض القراءات الجارية على مقتضى الظاهر، و مقابلها الجاري على خلافه لنكتة، فعلى هذا ما المانع من أن يقال أنّ بعضها مختار لبعض العلماء أو الرواة، و لا يلزم من كونه مختارا نقص مقابله، و القرّاء يقولونه من غير إنكار فهذا الإمام الجعبري يقول دائما و مختاري، كذا من غير تردّد منه. قوله:

(لأنه قراءة أهل الحرمين) قيل عليه أنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لا نسلم ذلك في عهد القرّاء المشهورين ألا ترى صحيح البخاري يقدّم على موطأ مالك، و هو عالم المدينة على أنّ القراءات المشهورة كلها متواترة، و بعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أحوال الرواة، اللهمّ إلا أن يريد زيادة الفصاحة فإنّ لغتهم أفصح، و قد وافقهم قرّاء البصرة، و الشأم و حمزة من الكوفيين أيضا، و لذا قيل هم أولى الناس بأن يقرؤا القرآن غضا طريا ما أنزل و هم الأعلون فصاحة و رواية و عليه أرباب الحواشي بأسرهم، و المصنف رحمه اللّه تبع الزمخشريّ في ذلك، و لم يعترضوا عليه بل أوردوه مسلما، و قال الفاضل لعلوّ رتبة القاري رواية و فصاحة.

قلت: لا يخفى أنّ أهل الحرمين قديما و حديثا أعلم بالقرآن و الأحكام، و لذا استدل بعض الفقهاء بعمل أهل المدينة، و أمّا مجرّد فصاحتهم التي توكأ عليها ذلك القائل، فلا يجد به نفعا لأنّ القراءة سماعية لا دخل للراوي، و الفصاحة في روايتها أصلا. قوله: (و لقوله تعالى إلخ) فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة، و هو يوم الدين و القرآن يفسر بعضه بعضا، و الآية السابقة لا تعارضه لأنها ليست نصا في المالكية كما مرّ، و كلّ منها مقوّ لا دليل قاطع، و لم يذكر قوله تعالى‏ مَلِكِ النَّاسِ‏ [سورة الناس، الآية: 2] مؤيدا كما في الكشاف لمغايرة معناها لما هنا لئلا يتكرّر مع قوله رب الناس، و أمّا رب العالمين، فلا تكرار فيه لأنه فسر بما يدل على صانعه، فيختص بالدنيا و ما بعده في الآخرة، و لو فسر بالأعمّ أيضا يكون ذكر الخاص بعده اعتناء بشأنه غير مكرّر، و لو سلم فمثله كثير و باب التأكيد مشهور. قوله: (و لما فيه من التعظيم) فإنّ لفظ الملك كالسلطان فيه دلالة على العظمة، لأنّ الناس قلما يخلو أحد منهم من كونه مالكا، و لا يكون الملك إلا أعلاهم، فهو ما بينهم عزيز قليل، و تصرّفه عام قويّ كما سيأتي، فلذا أردفه المصنف رحمه اللّه ببيانه فقال: و المالك هو المتصرّف إلخ، و في الكشاف أنّ الملك بالضم يعمّ و بالكسر يخص فقال المدقق في الكشف لم يرد به العموم و الخصوص المصطلحين لأنّ أحدهما لا يدخل في مفهوم الآخر، فلا يفرص شاملا له، و هذا بحسب العرف الطارئ في الملك بالكسر، و في التحقيق الملك بالكسر جنس للملك بالضم، و المراد أنّ ما تحت حياطة الملك من حيث كونه ملكا و العموم و الخصوص لغة يقع على مثل هذا، و جاز أن يراد أنّ شمول سياسته فوق سياسة المالك، و التحقيق أنّ الملك بالضم نسبة بين من‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 151

...

قام به و من تعلق، و إن شئت قلت صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف، و افتقار المتصرف فيه، و لذا لم يصح على الإطلاق إلا للّه و هو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق الاستيلاء مع ضبط، و تمكن من التصرّف في الموضوع اللغويّ، و بزيادة كونه حقا في الشرع من غير نظر إلى استغناء و افتقار، و إنّ ما يملكه الملك من المتملك عليه أعنى سياسته الخاصة ملكه فيه أتمّ مما ملكه المالك أمّا ما لا يملكه الملك و يملكه المالك، فليس مورد البحث كعكسه، فقد لاح أنّ ما يتوهمه بعض العامّة من أنّ تصرّف المالك في الملوك أتمّ من تصرّف الملك في الرعايا منشؤه من عدم فرض اتحاد المورد و النظر إلى العرف الفقهيّ، و الكلام في الموضوع اللغويّ بل المعنى الأصليّ المشترك بين اللغات كلها، و قولهم الملك بالضم التصرّف بالأمر و النهي في الجمهور، و يختص بسياسة الناطقين، و الملك بالكسر ضبط الشي‏ء المتصرّف فيه بالحكم بناء على العرف العامي، و لذا قلنا لا يدخل أحدهما في مفهوم الآخر، و يرجح هذه القراءة تكرار الربّ بمعنى المالك، و وصفه تعالى ذاته بالملكية عند المبالغة دون المالكية في قوله تعالى‏ مالِكَ الْمُلْكِ‏ [سورة آل عمران، الآية: 26] انتهى.

أقول هذا مما تلقوه بالقبول و لخصه قدّس سره من غير تصرّف فيه، و هو مأخوذ من كلام الراغب، و قد قال السمين في مفرداته أنه مخصوص بصفات الآدميين، و أمّا في صفته تعالى فالمالك و الملك بمعنى واحد، و الظاهر أنّ بين المالك و الملك عموما و خصوصا وجهيا لغة و عرفا، فيوسف الصدّيق عليه الصلاة و السلام بناء على أنه ملك رقاب أهل مصر في القحط بناء على شرعهم ملك و مالك، و التاجر مالك غيره ملك و السلطان على بلد لا ملك له فيها ملك غير مالك و أمّا ما مرّ ففيه نظر من وجوه:

الأوّل أنّ قوله إنّ أحدهما لا يدخل في مفهوم الآخر غير مسلم لأنّ الظاهر أنّ الملك بالضم هو التصرّف في كل ما في مملكته كما يرى و بالكسر تصرّف خاص فيما تحت يده فالأول أعمّ و كذا الملك و المالك و ما ذكره من معنى العموم و الخصوص اللغويّ خلاف المتبادر و لا يذهب لمثله من غير داع و إن صح في نفسه .. قوله: (و التحقيق إلخ) مؤيد لما قلنا.

و الثاني أنّ قوله من غير نظر إلى استغناء و افتقار فيه نظر لأنّ ذلك من شأن المالك و المملوك فلو نظر إلى ما يخالفه نادرا كان الأوّل كذلك من غير فرق.

صفحه بعد