کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 203

و جمعه سرط ككتب، و هو كالطريق في التذكير و التأنيث و المستقيم المستوى و المراد به طريق الحق، و قيل ملة الإسلام‏

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ بدل من الأوّل بدل محتملة و لو كتب بالسين على الأصل فات وعدت قراءة غير السين مخالفة للرسم، فلا إشكال.

قوله: (و جمعه سرط إلخ) ظاهره أنّ هذا الجمع يكون له مطلقا سواء ذكر أم أنث و لذا قدّمه، و قد قيل إنه إن ذكر جمع على أفعلة في القلة و على فعل في الكثرة كحمار و حمر و أحمرة و إن أنث فقياسه أن يجمع على أفعل كذراع و أذرع، و فسر المستقيم و هو الذي لا اعوجاج فيه بالمستوى، و هو من قولهم سوّى الأرض و المكان فاستوى هو بأن لا يكون في سطحه و حدوده اختلاف، و منه قوله تعالى: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ‏ [سورة النساء، الآية: 42] أي يوضع عليهم ترابها و يسطح. و قيل: وصف الطريق به له معنيان: أحدهما أنه مستو بنفسه. و الآخر أنّ سالكه يستقيم فيه. و قوله: (كالطريق إلخ) هو مثله معنى و قيل: بينهما فرق، فإنّ الطريق ما يسلك مطلقا، و السبيل ما هو معتاد السلوك و السراط ما لا عوجاج فيه يمنة، و يسرة فهو أخصها، فإن قيل فما فائدة وصفه حينئذ بالمستقيم قيل: لأنّ الصراط يطلق على ما فيه صعود أو هبوط، و المستقيم ما لا ميل فيه إلى شي‏ء من الجوانب، و أصل الاستقامة في الشخص القائم. قوله:

(و المراد به طريق الحق إلخ) هذان التفسيران رواهما ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، و ذكرهما المصنّف و الزمخشريّ إلّا أنّ الزمخشريّ قال المراد به طريق الحق و هو ملة الإسلام فجعلهما متحدين و المصنّف رحمه اللّه تعالى أشار إلى الرد عليه و جعلهما متغايرين، و قد ذهب بعض أرباب الحواشي إلى أنّ الحق ما فهمه الزمخشريّ و قال ابن تيمية الخلاف بين السلف في التفسير قليل جدّا، و هو في الأحكام أكثر و غالب ما روي عنهم من الأوّل راجع إلى تنوّع العبارة و إليه أشار الزمخشريّ، و على ما فهمه المصنّف هما متغايران إمّا لأنّ ملة الإسلام تختص بالأصول و الاعتقاد، و طريق الحق أعمّ لشموله الفروع و الأصول سواء فسر الحق هنا بما يخالف الباطل أو بأنه اسم اللّه فإنه ورد إطلاقه عليه، و هو مخالف لقوله قدّس سرّه: إن ملة الإسلام تشمل الأحكام الأصلية و الفرعية، و إن قيل: إنه مبني على مسلك الزمخشريّ.

و قيل: طريق الحق مطلقا تتناول ملة الإسلام، و ما فيها من العبادة كما هو المناسب لتنوّع الهداية.

و قيل: طريق الحق أخص لشمول ملة الإسلام للفرق الضالة كالقدرية.

و قيل: الحق أعمية الحق لشموله السير في اللّه، و ما يترتب على الهداية من المراتب كما مرّ و قيل الطريق المستقيم هنا العبادة، لقوله تعالى: وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ‏ [سورة يس، الآية: 61] و القرآن يفسر بعضه بعضا و فيه نظر، و قول الفاضل الليثي: إنه ليس المراد تعلّق الهداية بجميع ملة الإسلام، بل ببعضها سواء أريد به التثبت أو الزيادة ناشئ من عدم النظر للوقوع، و عموم الطلب فتأمّل. قوله: (بدل من الأوّل إلخ) بدل خبر مبتدأ مقدر أي هذا بدل‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 204

الكل من الكل و هو في حكم تكرير العامل من حيث أنه المقصود بالنسبة، و فائدته التوكيد من الصراط الأوّل. و قوله: (بدل الكل من الكل) بدل من البدل، و هو من حسن الإتفاق الذي سماه المتأخرون في البديع تسمية النوع، و قد عاب ابن مالك رحمه اللّه في بعض كتبه هذه العبارة على النحويين لأنّ الكلية لا تصح في مثل‏ صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ‏ [سورة إبراهيم، الآية: 1- 2] فإنها إنما تقال فيما ينقسم و يتجزئ، و اللّه سبحانه و تعالى منزه عن ذلك، فالأولى أن يقال فيه البدل الموافق أو المطابق.

و الورع البارد في نحوه‏

يغنيك عنه النظر الحامي‏

و قوله: (و هو في حكم تكرير العامل) هذه عبارة مهذبة صادقة على مذهبي التقدير و عدمه فلا وجه لما قيل إنّ هذا مذهب الأخفش و الرمّاني و الفارسي و أكثر المتأخرين، و يدل عليه كلام صاحب الكشاف في بحث البدل من المفصل، لكن ذهب جماعة إلى أنّ العامل في البدل هو العامل في المبدل منه، و عدّ الرضي صاحب الكشف منهم. قوله: (من حيث إنه المقصود إلخ) قيل: إنه إشارة إلى ما استدل به الفريق الأوّل على تقدير عامل من جنس الأوّل لكونه مستقلا أو مقصودا بالذكر، و إذا لم يشترط مطابقته للمبدل منه تعريفا و تنكيرا.

و أجيب: بأنّ استقلال الثاني، و كونه مقصودا يوذنان بأنّ العامل هو الأوّل لا مقدّر آخر لأنّ المتبوع أذن كالساقط، فكأنّ العامل لم يعمل في الأوّل، و لم يباشره بل عمل في الثاني و المعنى أنه مقصود بالنسبة دون متبوعه، و بهذا فارق العطف، و أورد عليه أنّ صرف العامل عن المبدل منه إلى البدل ينافي تكريره.

و أجيب عنه بأنه في حكم تكريره مع كلمة بل، و أورد عليه أنه لا يفهم من التكرير إلّا تقرير الأوّل و كلمة بل إضراب عنه، و الحق أنّ الإضراب إنما هو من صرف خصوص نسبة العامل إلى خصوص آخر، فأصل النسبة باق، فإن قلت النسبة تتغير بتغير أحد طرفيها قلت: إذا لم يكن البدل أجنبيا عن المبدل منه لم تتغير بالكلية خصوصا في بدل الكل، فإنّ الإضراب فيه إنما هو باعتبار الوصف لا الذات، ثم إنما ذكر إنما يتأتى إذا كان للمبدل منه نسبة، فلا ينتقض بإبدال الجمل التي لا محل لها من الإعراب من مثلها، و قد جوّزه النحاة، و أهل المعاني، و ترك المصنّف رحمه اللّه ما استدل به في الكشاف لما فيه، كما لا يخفى على من له بصيرة نقادة. قوله: (و فائدته التأكيد إلخ) في الكشاف فائدة البدل التوكيد، لما فيه من التثنية و التكرير و الإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه، و تفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه، و آكده كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس و أفضلهم فلان، فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم و الفضل من قولك هل أدلّك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملا أوّلا، و مفصلا ثانيا و أوقعت فلانا تفسيرا، و إيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم و الفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 205

...

بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه من غير مدافع و لا منازع اه.

و هو جواب عن نكتة التكرار و العدول عن الاختصار بأنه لفائدتين إحداهما قصده بالنسبة، و تكرير العامل حكما، و الثانية تفسيره و بيانه به، و هذه مشتركة بينه و بين عطف البيان أو هي أظهر في الثاني، و من دأب المصنّف رحمه اللّه أنه إذا غير عبارة الكشاف، أو أسقط منها شيئا أنه يشير بذلك إلى ردّ ضمني أو أنه غير مرضيّ، فلذا أسقط هنا تمثيله للبدل بالمنعوت المتقدّم عليه نعته نحو أدلك على أكرم الناس زيد لأنه غير مسلم عند علماء المعاني، و في المطوّل كل صفة أجرى عليها الموصوف نحو جاءني الفاضل الكامل زيد، فالأحسن أنّ الموصوف فيه عطف بيان لما فيه من إيضاح الصفة المبهمة، و فيه إشعار بكونه علما في هذه الصفة، و في الحواشي الشريفية أنه أشار إلى أن جعله عطف بيان أحسن من جعله بدلا من وجهين: أحدهما أنه يوضح تلك الصفة المبهمة، و الإيضاح من شأن عطف البيان دون البدل و الثاني أنّ الإستعانة بكونه علما فيما ذكر إنما تتفرّع من جعل فلان تفسيرا للأكرم الأفضل، و إيضاحا له فجعلته علما في الكرم و الفضل، و لا شك أنّ إيضاح المتبوع و تفسيره فائدة عطف البيان دون البدل، و لك أن تقول أنه اختار البدل في الآية و ذكر له فائدتين الأولى تأكيد النسبة بناء على أنّ البدل في حكم تكرير العامل و الثانية الإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه و تفسيره صراط المسلمين فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة على أبلغ وجه و آكده، و لا خفاء في أنّ هاتين الفائدتين مطلوبتان في الآية الكريمة، فوجب أن يختار فيها البدل لأنّ الفائدة الأولى مختصة به، و أمّا الثانية فتحصل منه أيضا إذ قد يقصد ببدل الكل تفسير المتبوع، و إيضاحه كما سيأتي إلّا أن ذلك لا يكون مقصودا أصليا منه كما في عطف البيان، و إنما شبهه بقولك: هل أدلك إلخ إذا ورد في مقام يقصد فيه تكرير النسبة، و إيضاح المتبوع معا لا مطلقا، و هناك يتعين البدل و لا يجوز عطف البيان فضلا عن أن يكون أحسن، و لا بدّ من اعتبار هذا التقييد في التشبيه به ليوافق المشبه، و يتحصل به غرضه اه. و الحاصل أنّ المبدل منه إذا كان وصفا لفظا أو تقديرا أثر في العناية بالبدل و القصد إليه فجعله في نية الطرح و جعل اسم الذات تابعا له يومئ إلى أنّ تلك الصفات كمشخصاته التي يدل عليها اسمه، و إنّ ثبوتها له أمر ظاهر مسلّم و هي نكتة بديعة يشعر بها الكلام.

و بالغ المصنّف رحمه اللّه في ذلك فجعله نصا فيها إلّا أنهم اختلفوا فيها، و في منشئها فمنهم من جعله توضيح الموصوف باسم الذات، و جعله مشتركا بين البدل و عطف البيان، و المرجح للبدلية أمر خارج، و هو الفائدة الأولى المخصوصة به، و جعله قدّس سرّه مجموع الفائدتين، فيختص بالبدل لأنّ الثانية متفرّعة على التأكيد بالوجهين، و الإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه، و تفسيره صراط المسلمين، كما أوضحوه و التفصيل بعد الإجمال أبين و أقوى في الشهادة، و تكرير العامل يوذن بالقصد فيجب أن يكون علما في الصفة المذكورة ليكون،

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 206

و التنصيص على أنّ طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه، و أبلغه لأنه جعل كالتفسير و البيان له، فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أنّ (الطريق المستقيم) ما يكون طريق المؤمنين، و قيل: (الذين أنعمت عليهم) الأنبياء، و قيل أصحاب موسى و عيسى أو فى بتأدية ما قصد من اتصافه بالصفة المذكورة، فيستحق أن يستأنف القصد إليه، و لذا رجح المدقق في الكشف كونه بدلا في الآية، و المثال مطلقا على كونه عطف بيان، لأنّ استئناف القصد يدل على أنه أوضح من الأوّل في إفادة المقصود، فيلزم أن يكون هو الشخص غير مدافع و لا منازع اه.

و ما أورد على الشريف من أنه يأباه عدم تعرّض الزمخشريّ في بيانها لتكرير العامل و النسبة كما ترى ليس بشي‏ء، فإنه قدّس سرّه إنما جزم بما ذكره لقوله في الكشاف لما فيه من التثنية و التكرير لأن جعلهما بمعنى قليل الجدوى، فحمل التثنية على تكرير لفظه لتبادره منه و حمل التكرير على تكرير العامل و النسبة، و قرينة الأوّل ظاهرة، و قرينة الثاني اشتهاره في البدل. و قوله: (المشهود عليه) عدّاه بعلى لتضمنه معنى المحكوم أو المجمع، و في الكشاف المشهود له قيل: و تعبيره أوّلا بالمسلمين، و ثانيا بالمؤمنين إيماء لترادف الإيمان و الإسلام و قيل: لاتحادهما صدقا فلا ينافيه تصريحه في شرح المصابيح بتباينهما و أنّ‏ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ المؤمنون، و أن النعمة الإيمان إذ لا نعمة أعظم منه، و لذا أطلق لأنّ المنعم عليه بها كأنه منعم عليه بجميع النعم. و قوله: (لأنه جعل إلخ) تعليل للتنصيص. و قيل: إنه تعليل لقوله على آكد وجه. قوله: (من البين الذي لا خفاء فيه إلخ) قيل: عليه جعله بيانا، و تفسيرا للطريق المستقيم يقتضي أن لا يكون كون الطريق المستقيم طريق المؤمنين كالبين الذي لا خفاء فيه بل إنما يقتضي كون طريق المؤمنين علما في الاستقامة متعينا ليصح تفسير المبهم به، و قيل: إنه إنما يرد إذا كان المقصود من التفسير دفع الإبهام، و أمّا إذا لم يقصد منه ذلك، و قصد كون المذكور في معرض التفسير علما بينا متعينا على ما ذكره بقرينة كمال ظهوره فلا يرد ذلك، فإن قلت: سلمنا أنّ التفسير حينئذ لا يقتضي ذلك لكن كونه من البين الذي لا خفاء فيه من أين يفهم قلت: إذا تقرّر كون طريق المؤمنين كالعلم المتعين في الاستقامة مع ادّعائه أنّ هذه العلمية و التعين مشهود عليه معلوم عند كل أحد يفهم منه ذلك بلا شبهة. قوله: (و قيل الذين أنعمت عليهم الأنبياء إلخ) عطف على ما فهم مما سبق من أنه طريق المؤمنين مطلقا و هو المنقول عن السدّي و قتادة، و صراطهم المطلوب هدايتنا إليه ما توافقوا عليه من التوحيد، و أصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست صراطا مضافا للكل، أو ما اشتمل على التوحيد و العبادة و العدل و اجتناب المعاصي و العمليات التي لم تنسخ، و النبوّة أجل النعم على الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و الأمم، و في الدر المنثور عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه فسره بطريق من أنعمت عليهم من الملائكة و النبيين و الشهداء و الصالحين، و من أطاعه و عبده، و هو يشمل الأقوال الثلاثة، و يوافق قوله تعالى‏ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ‏ [سورة مريم، الآية:

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 207

عليهما الصلاة و السلام قبل التحريف و النسخ و قرئ (صراط من أنعمت عليهم) و الإنعام إيصال النعمة، و هي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان، فأطلقت لما يستلذه من 58] الآية. قوله: (و قيل أصحاب موسى إلخ) أي المصدّقون بهما و بما جاءا به قبل ما صدر من بعضهم من التحريف و قبل نسخ شي‏ء مما جاءا به و هذا منقول عن ابن عباس رضي اللّه عنهما و خصوا لشهرة أمرهم و كثرتهم و وجودهم في عصر نبينا عليه أفضل الصلاة و السلام و التحريف تغيير ما في الكتابين كذكر نبيّنا صلى اللّه عليه و سلم حيث أرادوا إخفاءه و يأبى اللّه إلّا أن يتم نوره، و لو كره الكافرون، و النسخ رفع بعض الأحكام من شريعتهم و انتهاؤها، قيل: و فيه لف و نشر مرتب، فالأوّل بالنسبة لأصحاب موسى عليه الصلاة و السلام، و الثاني بالنسبة لأصحاب عيسى عليه الصلاة و السلام، و الظاهر أن كلا منهما بالنسبة إلى كل منهما و قيل: هم مؤمنو الأمم السابقة و قيل: هم المؤمنون مطلقا، و هو الأولى و الأنسب، و ليس بزائد على ما مرّ كما توهم.

و اعلم أنّ التوراة و الإنجيل اللذين عند اليهود و النصارى الآن اختلف فيهما هل هما مبدّلان و محرّفان لفظا أو تأويلا، فأمّا التوراة فأفرط فيها قوم و قالوا كلها أو جلها مبدل حتى جوّزوا الاستنجاء بها، فليست المنزلة على موسى عليه الصلاة و السلام، و ذهبت طائفة من الفقهاء و المحدّثين إلى أنّ ذلك إنما وقع في التأويل فقط كما صرّح به البخاري، و اختاره الفخر الرازي و غيره لقوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏ [سورة آل عمران، الآية:

93] و هو أمر للنبيّ عليه الصلاة و السلام بالاحتجاج بها و المبدّل لا يحتج به، و لما اختلفوا في الرجم لم يمكنهم تغيير آيته منها، و توسطت طائفة و هو الحق فقالوا: بدل بعض منها و حرف لفظه، و أوّل بعض منها بغير المراد منه، و إنه لم يعط منها موسى عليه الصلاة و السلام لبني إسرائيل غير سورة واحدة، و جعل ما عداها عند أولاد هارون، فلم تزل عندهم حتى قتلوا عن آخرهم في وقعة بختنصر، و بعد ذلك جمع عزير بعضا منها ممن حفظها، فهو الذي عندهم اليوم و ليس أصلها و فيه زيادة و نقص، و اختلاف ترجمة و تأويل، و أمّا الإنجيل ففيه تبديل و تحريف في بعض ألفاظه و معانيه، و هو مختلف النسخ، و الأناجيل أربعة كما فصله بعضهم في كتاب عقده لذلك سماه المفيد في التوحيد. قوله: (صراط من أنعمت) فيه دليل على جواز إطلاق الأسماء المبهمة كمن على اللّه كما ورد في الأحاديث المشهورة يا من بيده الخير و نحوه، فلا يغرنك ما نقله الحفيد عن صاحب المتوسط من منعه. قوله: (و الإنعام إيصال النعمة إلخ) قال الراغب: النعمة الحالة الحسنة، لأنّ بناء الفعلة بالكسر للهيئة كالجلسة و الركبة و النعمة بالفتح للمرّة كالضربة، و هو بمعنى التنعم، و لذا قيل كم ذي نعمة لا نعمة له أي لا يتنعم بما رزقه اللّه، و الإنعام إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء كما قاله الراغب فلا يقال:

أنعم على فرسه، و لذا قيل إنّ النعمة نفع الإنسان من هو دونه لغير عوض، و النعماء إزالة الضراء، و النعمى ضد البؤسى و نعمه بالتشديد جعله في نعيم، و لين عيش و ناعم و ناعمة من‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 208

النعمة، و هي اللين و نعم اللّه و إن كانت لا تحصى كما قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة النحل، الآية: 18] تنحصر في جنسين دنيوي و أخروي، و الأوّل قسمان موهبيّ و كسبيّ و الموهبي قسمان: روحانيّ كنفخ الروح فيه و إشراقه بالعقل، و ما يتبعه من نعومة المسلمين، و أصل معناه لغة من النعمة بالفتح، و أصله في المستلذات الحسية، ثم أطلقت على المعنوية، كنعمة الإسلام لأنّ اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته، و لذا خصها بعضهم بالمعارف، و قيل: لا نعمة للّه على كافر، و لما فيها من الإيصال و الإنهاء كان حقها أن تعدّى بإلى لكنها عديت بعلى إشارة لعلو المنعم، و لذا قيل اليد العليا خير من اليد السفلى فقوله: من النعمة بالفتح، و هي اللين ظاهر، و في نسخة من نعمة الإسلام، و هي الدين و هي صحيحة أيضا، و ليست تحريفا لأنّ إضافته بيانية قال تعالى: وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ‏ [سورة البقرة، الآية: 211] و كذا ما في بعضها من النعمة، و هي الدين مع ما فيه من الركاكة، و لا ينافي تخصيصها بنعمة الإسلام الإطلاق المستفاد من ظاهره لشمول الإسلام لكل نعمة، و يستلذه بمعنى يجده لذيذا و قد يعدّى بالباء، و عدّى الإطلاق باللام، و هو معدّى بعلى لكونه بمعنى الاستعمال أي استعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة، فهو من إطلاق المسبب على السبب. و قوله: (لا تحصى) أي لا تعد أنواعها فضلا عن أفرادها قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة النحل، الآية: 18] أي نعمه تعالى، لأنّ الإضافة تفيد ما تفيده اللام قيل: و فيه نكتة حيث قال: نعمة دون نعم مع أنّ عدّ الواحد هين بل ليس هو بعدد لاشتمال كل فرد منها على نعم لا تحصى كنعمة الصحة مثلا، لو أريد تفصيلها جزءا جزءا ظاهرا و باطنا أعجزت العادّ، و فسّرها بعض الفضلاء بقوله: إن تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعمه لا تطيقوه فتدبر. قوله: (روحانيّ كنفخ الروح إلخ) تحقيق التسوية و نفخ الروح على ما نقله في كتاب الروح عن حجة الإسلام أنّ التسوية تهيئة المحل القابل للروح، كطينة آدم عليه الصلاة و السلام و نطفة بنيه، لأن يقبلها كالفتيلة التي تتقد بشرب الدهن لتعلق النار بها، و أصل النفخ إخراج هواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ، و هو غير متصوّر في حقه تعالى، إلّا أنّ النفخ لما كان سببا لاشتعال النار في بعض الأجساد، و يعدّ ذلك نتيجة له عبر عن نتيجة النفخ بالنفخ و إن لم يكن على صورة النفخ، و السبب الذي اشتعل به نور الروح في فتيلة النطفة صفة في الفاعل و صفة في المحل القابل، فالأوّل الجود الإلهيّ الذي هو ينبوع الوجود على ما يقبله و صفة القابل هو الاعتدال الحاصل بالتسوية، كما قال تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي‏ [سورة الحجر، الآية: 29] و هو في الأصل استعارة تمثيلية أو تصريحية أو مجاز مرسل، ثم صار حقيقة شرعية في فيض الأرواح على ذويها، و سيأتي إن شاء اللّه تعالى تفصيله في سورة الحجر و ما قاله المصنّف فيه، ثم إنّ المصنّف رحمه اللّه قسم و مثل بالأنعام تسمحا، أو المراد الحاصل بالمصدر و تقسيمه على سبيل منع الخلو، فلا يرد عليه أنّ معرفة اللّه تعالى دنيوية و أخروية، و لا حاجة إلى ادّعاء تغايرهما و نحوه، و بدؤه بما ذكر إشارة إلى أنّ الحياة أصل النعم و أنها نعمة في‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 209

...

ذاتها و يتوقف عليها الانتفاع بغيرها و الشي‏ء لا يكمل إلّا إذا أمكن الانتفاع به، و ما قيل نقلا عن التأويلات النهجة أنّ النعم.

إمّا ظاهرة كإرسال الرسل و إنزال الكتب و التوفيق لقبوله و إتيانه به و الثبات على قدم الصدق و لزوم العبودية.

و إمّا باطنة و هي ما أصاب الأرواح في عالم الذرّ من رشاش نور النور:

و أوّل الغيث قطر ثم ينسكب‏

صفحه بعد