کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 209

...

ذاتها و يتوقف عليها الانتفاع بغيرها و الشي‏ء لا يكمل إلّا إذا أمكن الانتفاع به، و ما قيل نقلا عن التأويلات النهجة أنّ النعم.

إمّا ظاهرة كإرسال الرسل و إنزال الكتب و التوفيق لقبوله و إتيانه به و الثبات على قدم الصدق و لزوم العبودية.

و إمّا باطنة و هي ما أصاب الأرواح في عالم الذرّ من رشاش نور النور:

و أوّل الغيث قطر ثم ينسكب‏

فكان على المصنّف أن يدخله في تقسيمه ليس بشي‏ء لدخول ما ذكر في الروحاني، إذ نعمة العقل و الفهم إنما تعد نعمة إذا اهتدى بها للتصديق بما ذكر، و قيل: إنه لم يتعرّض لها لأنه لم يلتزم تعداد جزئيات النعم، و إنما حصر أجناسها و هذه داخلة في النعم الدنيوية الموهبية، و قد جعل أيضا قسمي الموهبية من الدنيوية نظرا إلى أنها موهبة في الدنيا حالا، و إن كانت من الأخروية مآلا، و الروحاني بضم الراء ما فيه الروح، و كذلك النسبة إلى الملك و الجنّ، و هي نسبة على خلاف القياس، و أراد به هنا ما يقابل الجسماني مما يتعلّق بالروح، و جسماني بالضم نسبة إلى الجسمان و هو الجسم، و الجثمان بالثاء المثلثة بمعناه أيضا، و لك أن تقول إنه الروح لمشاكلته الجسماني. قوله: (و إشراقه بالعقل) ضمير إشراقه للمنفوخ فيه المعلوم من النفخ، و قيل: هو للإنسان أو للبدن كضمير فيه لفهمه من السياق و أرجعه بعضهم للروح لتأويله بمذكر، فإنها مؤنث سماعيّ، و العقل قوّة للنفس تدرك بها الكليات و الجزئيات المجردة، و يتبعها ذلك الإدراك و يسمى نطقا و هو المراد بالناطق في تعريف الإنسان، و يكون بمعنى ما يعبر به عما في الضمير، و هذا معناه الحقيقي في اللغة و العرف العامّ، و الفكر ترتيب أمور معلومة لتؤدّي إلى مجهول، و الكلام عليه مفصل في محله و علم ما أدى إليه الفكر هو الفهم و هذه أمور كسبية، و القوى جمع قوّة و المراد بها النفسانية التي هي مبدأ النطق و أخويه قيل: و هي عين العقل و متحدة بقوّة الفهم و يتبعها أيضا سرعة الانتقال إلى المطالب، و يمكن أن يطلق عليه الفهم و الذكر، و هو العلم بالشي‏ء بعد ذهابه عن النفس و يطلق عليه الفكر و التعبير عما في النفس نطق، و الآخر كسبيّ، و الأولان قد يكونان فيما للاختيار دخل فيه، و مباديها قوى موهبية تابعة للعقل، فينبغي أن يحمل عليها إذا عرفت هذا، فالتمثيل بالنطق لا يخفى ما فيه لأنه بمعنى إدراك الكليات كسبيّ، كما برهن عليه في المنطق و القوّة التي هي مبدؤه عين العقل، و هو بمعنى التكلّم أو مبدئه جسمانيّ، و جعل للعقل إشراقا على طريق التمثيل لأنه نور إلهيّ، و قد عرّف بذلك و قيل القوى تعم الحواس الظاهرة و الباطنة لكن قوله كالفهم إلخ يقتضي تعميمه بحيث يشملهما، و إدراكهما و إدراك العقل و ما يترتب عليه، و الفهم المطلق بمعنى الإدراك، و الفكر ترتيب المعلومات و النطق إدراك الكليات أو ما يعبر به عنها و القوى البدنية

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 210

القوى كالفهم و الفكر و النطق و جسمانيّ كتخليق البدن و القوى الحالة فيه و الهيئات العارضة له من الصحة، و كمال الأعضاء، و الكسبيّ تزكية النفس عن الرذائل و تحليتها بالأخلاق السنية و الملكات الفاضلة، و تزيين البدن بالهيآت المطبوعة، و الحلى المستحسنة و حصول كالنامية و أخواتها، و يحتمل أن يراد بها ما يعم الحواس، و يراد بالأولى الإدراكات، فإنها يقوى بها العقل فتدبر. قوله: (كتخليق البدن إلخ) البدن و الجسد بمعنى، و قد يفرق بينهما و تخليقه إعطاؤه خلقه، و تكميل بنيته و القوى الحالة فيه معطوف على تخليق، و المراد بها القوى الطبيعية التي قسمها الحكماء و الأطباء إلى خادمة و مخدومة متصرّفة لأجل التشخص أو لأجل النوع كالنامية و الغاذية و الجاذبة و الدافعة، و الهيئات العارضة جمع هيئة، و هي عندهم مرادفة للعرض فقوله العارضة أي للبدن صفة مفسرة. و قوله: (من الصحة إلخ) بيان لها، فإنّ الصحة عندهم هيئة بدنية تكون الأفعال بها سليمة لذاتها و يقابلها المرض، و كمال الأعضاء ظاهر. قوله:

(و الكسبي إلخ) الظاهر أنّ الكسبي أعمّ من أن يكون روحانيا كتزكية النفس، أو جسمانيا كتزيين البدن، أو خارجا عنهما وسيلة إليهما كحصول المال، و قيل: إن الكسبيّ ينقسم أيضا إلى روحانيّ و جسمانيّ، و المصنّف رحمه اللّه أشار إلى الأوّل بتزكية النفس عن الرذائل و تحليتها بالأخلاق و الملكات الفاضلة، و إلى الثاني بتزيين البدن إلخ و أورد عليه أن جعل حصول المال و الجاه من الجسمانيّ تكلّف، و المراد بالكسبيّ ما للكسب مدخل فيه، و إن لم يستقلّ به، و لا يرد عليه الصحة لأنها قد تحصل بمعالجات طبية كما توهم لأنّ أصل الصحة لا دخل للكسب فيها و المعالجات إنما هي لدفع ما يضادّها كما صرّحوا به، و تزكية النفس تطهيرها من دنس النقائص، و في كلامه إشارة إلى أنّ التخلية بالإعجام مقدّمة على التحلية بالمهملة، و الملكات شاملة للصانع، و المطبوعة بمعنى المقبولة الراجحة في ميزان الطبيعة، و قد وقع هذا اللفظ بهذا المعنى في كلام من يوثق به كالثعالبي، و قال المرزوقي: الشعر منه مصنوع و مطبوع، فلا عبرة بإنكار بعضهم له. و قوله: إنه لم يوجد في اللغة، و في مفردات السمين، و من خطه نقلت طبعت المكيال ملأته لكون المل‏ء، كالعلامة المانعة عن تناول ما فيه، و الطبع المطبوع أي المملوء اه و كذا قال الراغب.

و في كلام علي رضي اللّه عنه العقل عقلان مطبوع و مسموع، و هو فيه بمعنى الجبليّ، و فسر هنا بالعارضة لنفس البدن كتطهيره من الأوساخ و قص الشارب و نحوه مما يورث البدن زينة و الحلي بكسر الحاء مقصور جمع حلية، و هي الزينة المجاورة للبدن كاللباس، و جوّز فيه ضم الحاء و كسر اللام و تشديد الياء. قوله: (أن يغفر إلخ) لم يتعرّض لتقسيمه، كما مرّ لعدم تعلّق الغرض به، و قد قسم إلى روحاني كعلم ما لهم من الرضوان و جسمانيّ، كنعيم الجنة المحسوس، و وهبي كمغفرة اللّه و عفوه، و كسبي كجزاء الأعمال، و قيل: ليس فيها كسبي لأنه لا يجب على اللّه شي‏ء و لكل وجهة، و يبوّئه مضارع بوّأه بباء موحدة، ثم واو مشدّدة و همزة من التبوئة، و هي الإسكان، و عليين أعلى الجنّة، أو موضع في السماء السابعة تصعد إليه أرواح‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 211

الجاه و المال، و الثاني أن يغفر ما فرط منه، و يرضى عنه و يبوّئه في أعلى عليين مع الملائكة المقرّبين أبد الآبدين، و المراد هو القسم الأخير، و ما يكون وصله إلى نيله من القسم الآخر المؤمنين، و هو في الأصل جمع علية أو عليّ بمعنى الغرفة أو لا واحد له، و جمعه جمع سلامة على خلاف القياس، و أبد الآبدين كدهر الداهرين يستعمل للتأبيد و الخلود.

و في القاموس: الأبد محركة الدهر و الجمع آباد و أبود، و الدائم و القديم الأزليّ، و الولد الذي أتت عليه سنة، و لا آتيه أبد الأبدية، و أبد الآبدين و أبد الآبدين، كأرضين، و أبد الأبد محرّكة، و أبد الأبيد و أبد الآباد و أبد الدهر، و أبيد الأبيد بمعنى اه فالآبدين جمع آبد و هو مبالغة الأبد كما أنّ الداهر مبالغة الدهر لزيادة المبالغة بالياء و النون على خلاف القياس أو المراد بالآبد الدائم جمع بهما تغليبا للعقلاء كالعالمين و إضافة الأبد للمبالغة. و قوله: (فرط منه) بالفاء و تخفيف الراء يقال فرط من باب قتل إذا تقدّم، و المراد ما فعله قبل من الذنوب، و هو إشارة إلى ما فيه من التخلية و التحلية. قوله: (و المراد هو القسم الأخير إلخ) أي المراد بالإنعام المدلول عليه بقوله: أنعمت النعم الأخروية، و ما يتوصل بها إليها من الدنيوية، كتزكية النفس و ما معها لا ما قبله لأنه لا يخص المؤمن، فلا وجه لإدراجه في الدعاء بنيله و لا يرد عليه أنه داخل في الوصلة، و إن لم يختص، فلا حاجة إلى حمل الوصلة على ما يشمل القريبة و البعيدة و يتكلف تأويله و التعبير بالماضي لتغليب ما مضى منه لتوقف النعم الأخروية عليه، و إن كانت أجلّ، و قيل: إنه لتحققه أو لأن المراد أنعمت عليهم في علمك ففيه استعارة تبعية، و الأوّل أحسن و أولى، و في كلامه إشارة إلى ما ارتضاه من تفسير الذين أنعمت عليهم بالمؤمنين لا أنه شامل لجميع المكلفين كما توهم، و قيل: إنه يلزمه جعل ترك الأولى من الأولياء و الأنبياء عليهم الصلاة و السلام من الزلات المغتفرة إلّا أن يجعل الأوّل للمذنب و الأخيران للمعصوم مع أنه، و إن خالف صريح كلامه غير محتاج إليه رأسا و لا مخالفة بين المصنّف و الزمخشريّ، كما توهمه السيوطي، و عبارته في الكشاف: الذين أنعمت عليهم هم المؤمنون، و أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم اللّه عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلّا أصابته و اشتملت عليه، و إنما عدل عنه المصنّف رحمه اللّه إلى ما هو أخصر و أظهر لما يوهم من مخالفة ما تقرّر في الأصول، إذ لم يفرق فيه بين المطلق و العامّ مع ظهور الفرق بينهما، و هذا إنما نشأ من عدم الفرق بين المطلق اللغوي و الأصولي، و المراد الأوّل كما أشار إليه في الكشف، و أوضحه قدّس سرّه فقال: المراد أنه لم يقيده بشي‏ء معين مما يتعدّى إليه بالباء ليستغرق بمعونة المقام كل إنعام بنعمة و لما كان هذا الشمول ادّعائيا قال: لأنّ من أنعم إلخ و من لم يفهم ما قالوه هنا قال بعدما أورد من كلامهم أقول ينافي هذا التأويل إسناد العموم إلى الإطلاق إذ لو قيد و قيل:

أنعمت عليهم بنعمة الإسلام، أو الذين أنعمته عليهم يستفاد منه العموم، و لا دخل للإطلاق في إفادة العموم فحينئذ يكون الحذف للاختصار، و يمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد أنّ مفعول أنعمت المحذوف هو نعمة الإسلام حتى يرد عليه ما ذكر بل هو عام، و جعل المطلوب باهدنا

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 212

فإن ما عادا ذلك يشترك فيه المؤمن و الكافر غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ‏ يدل من الذي هو سلوك طريق الإسلام عامّا إنما استفيد من تقييد الطلب بصراط من أنعمت، و تعليقه به على ادّعاء إنّ الإسلام كل نعمة، و قد خبط خبط عشواء، و لم يهتد للصراط المستقيم و هو أظهر من أن يخفى. قوله: (يشترك إلخ) في بدائع ابن القيم اختلف السلف هل للّه على كافر نعمة فقيل: لا نعمة له عليه لظاهر قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ‏ [سورة مريم، الآية: 58] الآية و قيل: قد يكون منعما عليه، و الصواب إنّ مطلق النعم يعم البرّ و الفاجر و النعم التامّة مختصة بالمؤمنين لاتصالها بسعادة الأبد و هو الحق اه و هو ملخص كلام الإمام هنا. قوله: (بدل من الذين أو صفة إلخ) قدّم البدلية إشارة لترجيحها لما فيها من وجوه المبالغة و النكت السالفة، و هو بدل كلّ من كلّ و لم يجعله بدلا من ضمير عليهم لا لأنه يلزم خلو الصلة عن الضمير لأنّ المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة، كما يتوهم بل لأنه لا يخلو من الركاكة بحسب المعنى، و هذا مختار أبي عليّ، و قول أبي حيان: إنه ضعيف لأنّ غير في أصل وضعه صفة بمعنى مغاير و البدل بالوصف ضعيف و لذا أعربه سيبويه صفة غير متجه لأنّ غير أغلبت عليه الإسمية، و لذا كان في الأكثر غير مجرى و قدّم الصفة المبينة، و هي الكاشفة المنزلة منزلة التعريف كما صرّحوا به، لأنّ المنعم عليهم بالإسلام المهتدين لطريق الاستقامة لا يكونون من أهل الغضب، و إذا أريد بهم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام فالأمر ظاهر، و لذا لم يبيّنه صريحا لأنّ قوله على إلخ يحتمل رجوعه إلى الوجوه الثلاثة أمّا الأوّل فلكونه عينه و لأنّ الصفة و الموصوف كشي‏ء واحد لما مرّ، و منهم من أرجعه إلى الأوّل فقط و جعل قوله هم الذين سلموا نظير ما مرّ من قوله فهو المشخص المعين، و هذا بناء على ما وقع في بعض النسخ، و هو بدل من الذين على معنى أنّ المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب و الضلال، أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، و هي نعمة الإيمان و بين السلامة من الغضب و الضلال اه و هذه عبارة الكشاف بعينها و في بعض الحواشي هنا تصحيح هذا الوجه أيضا فيتجه حينئذ و قال قدّس سرّه: إذا جعل غير المغضوب بدلا من الذين أريد بالثاني الذات مع قصد تكرير العامل و تفسير المبهم، فيؤخذ منه تلك المبالغات، فقوله: هم الذين سلموا نظير لقوله: فهو المشخص المعين، و بذلك يظهر أن الإبدال أوقع، و إن جعل صفة كان المعنى أنهم جمعوا بين النعم المطلقة التي أثبتت لهم بطريق الصلة و بين السلامة التي أثبتت لهم بطريق الصفة، و في قوله: ههنا نعمة الإيمان إشارة إلى أنّ الإيمان متحد بالإسلام و مشتمل على الأعمال كما هو مذهبه، و حينئذ يكون الوصف بالسلامة من الغضب و الضلال بعد إثبات الإيمان تأكيدا لا تقييدا و تخصيصا، و هو المراد بالصفة المقيدة إلّا إذا حمل الإيمان على التصديق وحده أو مع الإقرار كما ذهب إليه غيره اه. و مما مرّ علم معنى المبينة و المقيدة و أنّ الإيمان إن شمل الأعمال فالصفة مبينة و إلّا فهي مقيّدة، و قد أورد على ما في الحواشي الشريفية أنّ قوله، فهو المشخص المعين حكم على البدل بالتشخص‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 213

الذين على معنى أنّ المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب و الضلال، أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، و هي نعمة الإيمان و بين السلامة من و التعين بما يشتمل عليه المبدل منه من الصفة الذي هو كالعلم فيها، و قوله: هم الذين سلموا حكم على المبدل منه بالبدل و انحصار الأوّل في الثاني، أو عكسه بل هو حكم بالاتحاد، و هو المناسب لكون الثاني تفسيرا للأوّل فكيف يكون نظيرا له، و يمكن أن يقال إذا أريد به قصر المسند إليه على المسند أفاد ما يفيده. قوله: فهو المشخص المعين إلخ من الحصر. و هذه العبارة في كلام المصنّف رحمه اللّه نظير قوله الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين لا نظير قوله: طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، ثم جعله بدلا على تقدير كون الموصول عبارة عن كمل المؤمنين المشتمل إيمانهم على الأعمال و المراد بالمغضوب عليهم و الضالين مطلقهما كما يشعر به قوله سلموا من الغضب و الضلال، ليكون ذات البدل عين ذات المبدل منه، و إن اكتفى في اتحادهما ذاتا بمجرد صدق أحدهما على ما صدق عليه الآخر، فلا يخفى أن ما ذكر من الفائدة يتوقف على ما ذكرنا و تعقب هذا بأنه صح عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم، كما في الدرّ المنثور و غيره أن المغضوب عليهم اليهود و الضالين النصارى، فلو كان الموصول عبارة عن مطلق المؤمنين و أبدل منه غير الفريقين كان حسنا بلا محذور و حينئذ يفسر قول المصنّف رحمه اللّه سلموا إلخ بالسلامة عن مثل الغضب و الضلال الكائن فيهما، و منهم من قال في تفسيره: إنه قد سبق أنّ المراد بالموصول المؤمنون، و قيل الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و قيل أصحاب موسى و عيسى إلخ فإن كان الأوّل، فالمراد بالمغضوب عليهم و الضالين إن كان الذين أريد الانتقام منهم و العادلين عن الطريق السويّ، أو العصاة و الجاهلين باللّه فالصفة مقيدة إلّا أن يراد المؤمنون إيمانا كاملا كما يدلّ عليه قوله فيما سيأتي لأنّ المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته و الخير للعمل به، و إن كان اليهود و النصارى فمبينة بل مؤكدة و إن كان الثاني فمبينة على أي تفسير فسر المغضوب عليهم و الضالين، و إن كان الثالث فكالأوّل، ثم إنّ قوله فيما سبق و المراد هو القسم الأخير إلخ يشير إلى وجه آخر، و هو أنّ المراد بالموصول المنعم عليهم بالنعم الأخروية، و ما يتوصل به إليها من الدنيوية فإن حمل على المنعم عليه بجميع ذلك فالصفة مبينة، و إن حمل على المنعم عليه في الجملة فمقيدة على المعنى الأوّل و الثاني للمغضوب عليهم و الضالين، و مبينة على المعنى الثالث. قوله: (على معنى أنّ المنعم إلخ) قيل فيما مرّ دلالة على أنّ الإيمان ينافي العصيان. و قوله: (على معنى إلخ) إنما يلائم الابدال و الوصف الكاشف لا الوصف المقيد المخصص لأنّ المنعم عليه على هذا التقدير يكون أعمّ، فلا يصح الحمل هو هو إذ لا يقال الحيوان هو الإنسان، فكان عليه أن يؤخر قوله أو مقيدة عن هذا التفسير لئلا يقع الفصل بالأجنبي بين المفسّر و المفسر، و هذا مع أنه غير مسلم إنما يرد على غير ما في النسخة الأولى، و قيل إنه إشارة إلى حمل الموصول على المؤمنين و النعمة على الإيمان و المغضوب عليهم و الضالين على الأوّل أو الثاني، و يجوز أن‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 214

الغضب و الضلال، و ذلك إنما يصح بأحد تأويلين إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله:

يراد أيضا أنها مبينة بحسب الظاهر، و مقيدة بحسب العاقبة و النظر إلى الموافاة، ثم إنّ لفظ الذين يقع صفة و موصوفا بخلاف من و ما من الموصولات فإنهما لا يوصف بهما كما في الرضى و غيره من كتب العربية، و في نسخة بين النعم المطلقة التي أثبتت لهم بطريق الصلة، و بين السلامة من الغضب و الضلالة التي أثبتت لهم بطريق الصفة و سمي الإيمان نعمة مطلقة لاشتماله على سعادة النشأتين، فكأنه مشتمل على جميع النعم فينصرف المطلق إليه. قوله:

(و ذلك إنما يصح إلخ) إشارة إلى الوصفية أو لما سبق، و هو جواب عن سؤال مقدّر و هو أن غير أو مثلا و نحوهما من الأسماء المتوغلة في الإبهام قال النحاة: إنها لا تتعرّف بالإضافة، فلا يوصف بها المعرفة و لا يبدل على المشهور من منع إبدال النكرة من المعرفة كما سيأتي، فما وجه ما مرّ من تجويز ما ينافيه فأجاب بوجهين إمّا من جانب الموصوف أو من جانب الصفة، فالأوّل أنّ الموصوف هنا معنى كالنكرة، فيصح أن يوصف بها لأنه لم يرد بالذين أنعمت عليهم قوم بأعيانهم و لا جميعهم، فهو عهد ذهني و حكمه حكم النكرة و إن جاز مراعاة لفظه، و ظاهره بمعاملته معاملة المعرفة و الموصول حكمه حكم المعرف باللام، فتجري فيه أقسامه و أحكامه هذا محصل ما قرّروه هنا، و لما ورد عليه أنّ الموصول حمل أوّلا على المؤمنين أو أصحاب موسى و عيسى أو الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، فهو معهود خارجيّ و لو سلم عدم العهدية في الأوّل، فلا ينبغي سلبها على الإطلاق لعدم جريه على جميع الوجوه أشار الشارح المحقق إلى دفعه بأنه جواب جدليّ أي لا نسلم أنّ غير المغضوب على تقدير الوصفية صفة للمعرفة، و لو سلم فلا نسلم أنه نكرة و معوّل الزمخشريّ على تعريف غير، و لذا أخره و قال قدّس سرّه:

يجوز أن يريد بما ذكره أو لا طائفة من المؤمنين لا بأعيانهم و إذا حمل على الاستغراق المتبادر من العبارة تعين أن يكون ما ذكر في الجواب وجها رابعا لتلك الثلاثة، و هو العهد الذهني كما يشهد له تشبيهه بقول الشاعر، و ذكر بعضهم أنّ المستغرق لا يحيط العلم بحصره لكثرته فأشبه النكرة، و عومل معاملتها، و هذا مع عدم اشتهاره في الاستعمال يدفعه ذلك التشبيه دفعا ظاهرا، و اعترض عليه بأنه تعسف يأباه النظر الصحيح، و حمل الموصول على ما ذكر مع بعده غير مناسب لجعل طريقهم مشهودا عليه بالاستقامة علما فيها مع أنه يؤل بالآخرة لذلك، و لا فرق بين كونه جدليا، و كونه وجها آخر غير ما قدّمه (بقي ههنا بحيث ينبغي التنبيه له): فإنّ أهل الأصول جعلوا الموصول من صيغ العموم. و النحويون و أهل المعاني، جعلوه معرفة، و قالوا تعريفه بالعهد الذي في الصلة على ما حقق في شرح الرسالة الوضعية و كلامهم هنا على أنّ المقصود من الموصول أما المعهود الذي هو حصة معينة من الجنس أو الجنس من حيث تحققه في ضمن فرد مّا، و هذه مسالك متباعدة أو متنافية متنافرة، و قول المحقق هنا بعدما قرّر الجواب نعم يتجه أن يقال: جواز الوصف بالنكرة إنما يكون إذا أريد البعض المبهم كاللئيم و لا

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 215

* و لقد أمرّ على اللئيم يسبني *

و قولهم: إني لأمرّ على الرجل مثلك، فيكرمني أو جعل غير معرفة بالإضافة، لأنه أضيف إلى ما له ضدّ واحد، و هو المنعم عليهم فيتعين تعين الحركة غير السكون، كذلك الموصول ههنا فكأنه مال إلى تعريف غير و عول عليه، و لذا أخره ليس بشاف فليحرّر و قوله كالمحلي باللام هذه عبارة مشهورة لأهل العربية، فيقولون للمعرف باللام محلي جعلوا التعريف حلة للنكرة، فهو استعارة صار حقيقة اصطلاحية فيما ذكر، و قيل إن التعبير إشارة إلى أن اللام لمجرّد تزيين اللفظ من غير زيادة معنى فيه. و فيه نظر. قوله: (و لقد أمرّ على اللئيم إلخ) هذا الشعر لرجل من بني سلول و هو هكذا:

و لقد أمرّ على اللئيم يسبني‏

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني‏

غضبان ممتلئا عليّ إهابه‏

إني و ربك سخطه يرضيني‏

و روى فأعف ثم أقول و كون جملة يسبني صفة أظهر دلالة على المعنى المقصود منه، و هو التمدّح بالوقار لأنّ المعنى على لئيم عادته المستمرّة سبه لي، و هو اقعد و أدل على ما أراد و لا شك أنه لم يرد كل لئيم و لا لئيما معينا و أمرّ بمعنى مررت، و عبر بالمضارع حكاية للحال الماضية كما في خصائص ابن جني أو للاستمرار التجدّدي و هذا أولى من جعل قوله: فمضيت قرينة على أنّ المراد بأمر مررت فمضيت بمعنى أمضي، و عبر به للدّلالة على تحقق إعراضه عنه، و لم يرتضوا الحالية في جملة يسبني لأنّ المعنى ليس على تقييد المرور بحال السب بل على أنّ مرورا مستمرّا في أوقات متعاقبة على لئيم مّا من اللئام اتخذ سبه دأبا له، و هو يضرب عنه صفحا لاغضائه عن السفهاء و قد قالوا ما تسابّ اثنان إلّا غلب ألا مهما فالسكوت أجمل، و قال بعض الأعراب:

لا يغضب الحرّ على سفلة

و الحرّ لا يغضبه النذل‏

إذا لئيم سبني جهده‏

أقول زدني فلي الفضل‏

صفحه بعد