کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏4، ص: 443

يهاب النوم أن يغشى عيونا

تهابك فهو نفار شرود

و قرى‏ء أمنة كرحمة و هي لغة وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ‏ من الحدث، و الجنابة وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ‏ يعني الجنابة لأنها من تخييله أو وسوسته، و تخويفه إياهم من العطش، روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، و ناموا فاحتلم أكثرهم و قد غلب المشركون على الماء فوسوس إليهم الشيطان، و قال كيف تمثيلا و تخييلا للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس، فإن قلت: كيف يكون إسنادا مجازيا كما في الكشاف، و شروحه و إسناد يغشاكم إلى النعاس لا شبهة في كونه حقيقة على كل حال و الأمن لم يذكر له فاعل حتى يكون الإسناد فيه مجازيا و المصدر لا يضمر فيه فهل مراده بالإسناد النسبة التي بين الفعل و المفعول له، قلت المراد الإسناد المقدّر في الأمن لأنه لما جعل صفة للنعاس فكأنه قيل أمن النعاس فغشيهم، و منه تعلم أنّ الإسناد المجازي قد يكون مذكورا، و قد يكون مقدّرا و هو شبيه بالاستعارة المكنية، فتنبه له، ثم إن الوجه الأوّل هو الذي ذكروه في قوله تعالى: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً [سورة الرعد، الآية: 12] لأنه تعالى إذا أراهم البرق رأوه فكانوا فاعلين معنى و سيأتي تحقيقه إلا أنه قيل إنّ فاعل تغشية النعاس، هو اللّه تعالى، و هو فاعل الأمنة أيضا لأنه خالقها، و حينئذ يتحد فاعل الفعل و العلة و يندفع السؤال على قواعد أهل السنة، و لا يخفى أنّ المعتبر الفاعل اللغوي، و هو المتصل بالفعل، و هو تعالى غير متصف بالأمن و لا يقال له آمن و العبد هو الفاعل لغة و إن كان تعالى هو الفاعل حقيقة، و حينئذ يفتقر السؤال إلى دفعه بما مرّ، فإن قلت لم اقتصر على أنه مفعول له هنا و جعله في آل عمران تارة حالا و أخرى مفعولا به و مفعولا له، قلت قالوا إنّ ذلك المقام اقتضى الاهتمام بشأن الأمن، و لذلك قدّمه و بسط الكلام في الأمن و إزالة الخوف، ألا ترى إلى سياق الآية و هو قوله:

فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا [سورة آل عمران، الآية: 153] و سباقها و هو قوله يغشى طائفة الخ حيث جعله صفة لنعاسا و ختم الكلام بقوله لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم كيف جعل الكلام كله في الأمن و الخوف بخلافه هنا لأنه مقام تعداد النعم فجي‏ء بالقصة مختصرة بالرمز. قوله: (يهاب النوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفار شرود) هذا من قصيدة للزمخشريّ في ديوانه و تهاب بمعنى تخاف، و نفار صيغة مبالغة كنفور من النفور و الشرود و هما بمعنى، و قراءة أمنة بالسكون لغة فيه. قوله: (من الحديث و الجنابة الخ) على هذا يصير تفسير الرجز بالجنابة مكرّرا فالتفسير هو الثاني كما قيل و قد أشار المصنف رحمه اللّه إلى دفع التكرار بأنّ الجملة الثانية تعليل للأولى و المعنى طهركم منها لأنها من رجز الشيطان، و تخييله و الكثيب ما اجتمع من الرمل، و إلا عفر بعين مهملة وفاء وراء مهملة رمل أبيض يخالطه حمرة، و تسوخ‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏4، ص: 444

تنصرون و قد غلبتم على الماء و أنتم تصلون محدثين مجنبين و تزعمون أنكم أولياء اللّه و فيكم رسوله فأشفقوا فأنزل اللّه المطر فمطروا ليلا حتى جرى الوادي فاتخذوا الحياض على عدوته و سقوا الركاب و اغتسلوا و توضؤوا و تلبد الرمل الذي بينهم و بين العدوّ حتى ثبتت عليه الأقدام و زالت الوسوسة وَ لِيَرْبِطَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ‏ بالوثوق على لطف اللّه بهم‏ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ‏ أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ‏ بدل ثالث أو متعلق بيثبت‏ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ‏ في إعانتهم و تثبيتهم و هو مفعول يوحى، و قرى‏ء بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه‏ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالبشارة أو بتكثير سوادهم أو بمحاربة أعدائهم فيكون قوله:

سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ‏ كالتفسير لقوله: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا [سورة فيه أي تغوص و تنزل فيه الإقدام للينه و هذا الحديث أخرجه‏ «1» أبو نعيم في الدلائل، و ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما و ليس فيه فاحتلم أكثرهم، و قوله: (على عدوته) بضم العين أي جانبه و الركاب الإبل اسم جمع لا واحد له من لفظه أو واحده ركوبة، و قوله:

(تلبد) أي التصق بعضه ببعض، و ذهب تخلخه فسهل المشي عليه، و قوله و زالت الوسوسة أي بسبب زوال ما وسوس به، و أشفقوا بمعنى حزنوا. قوله: (بالوثوق على لطف اللّه تعالى لخ) يقال رابط القلب و رابط الجأش للصبور الجري‏ء و كل من صبر على أمر فقد ربط قلبه عليه و الأصل ليربط قلوبكم، ثم على قلوبكم فعند الاستعلاء كأنّ قلوبهم امتلأت منه حتى علا عليها فأفاد التمكن فيه، و قوله حتى تثبت في المعركة أي حتى تثبت القلوب في المعركة و لا تجبن فيفرّوا أو حتى تثبت الإقدام لأنّ ثباتها تابع لقوّة القلوب، لا بالمطر لتقدّم زمان المطر على زمان الوحي لأنه وقت القتال و ذلك قبله لأنّ التثبت بالمطر باق إلى زمانه أو يعتبر زمان الأول متسعا قد وقعا فيه كما مرّ، و قوله في إعانتهم و تثبيتهم أي إعانة المؤمنين و تثبيتهم، ذكره لأنّ قوله أني معكم لإزالة الخوف كما في قوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [سورة التوبة، الآية: 40] و لما ورد عليه أنّ الملائكة، لا يخافون من الكفرة فما وجه خطابهم به دفعه بأنّ المراد أني معكم أي معينكم على تثبيت المؤمنين و الكسر على تقدير القول أي قائلا إني معكم، أو لكونه متضمنا لمعنى القول حكيت به الجمل على المذهبين في أمثاله، و إجراء بالجرّ عطفا على إرادة و جوّز نصبه عطفا على محله و لا حاجة إليه. قوله: (بالبشارة أو بتكثير سوادهم الخ) البشارة إمّا بأن يخبروا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أو بأن يلهموا قلوب المؤمنين ذلك، أو بأن يظهروا لهم في صورة بشرية يعرفونها، و يعدونهم النصر و التمكن كما روي أنّ تكثير السواد كان كذلك. قوله: (فيكون قوله سألقي الخ) أي على الاحتمال الأخير و هو المحاربة يعني الخطاب مع الملائكة عليهم الصلاة و السّلام، و الجملتان مفسرتان الخبرية للخبرية و الطلبية للطلبية فسألقي الخ تفسير لأني معكم في إعانتهم بإلقاء الرعب و اضربوا، تفسير لثبتوا و يكون تثبيتهم قولهم لهم أبشروا بالنصر و نحوه، و إلقاء الرعب بقولهم للمشركين إنهم إن حملوا عليكم انهزمتم و نحوه، و وجه الاستدلال به على تسليم التفسير ظاهر

(1) أخرجه الطبري 15786 و ابن المنذر و أبو الشيخ كما في الدر 2/ 311 من طريق ابن جريج عن ابن عباس به.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏4، ص: 445

الأنفال، الآية: 12] و فيه دليل على أنهم قاتلوا و من منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين إما على تغيير الخطاب، أو على أنّ قوله سألقي إلى قوله كل بنان تلقين للملائكة ما يثبتون به المؤمنين كأنه قال لهم قولوا لهم قولي هذا فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ‏ أعاليها التي هي المذابح أو الرؤوس‏ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ‏ أصابع أي حزوا رقابهم، و اقطعوا أطرافهم‏

ذلِكَ‏ إشارة إلى الضرب أو الأمر به و الخطاب للرسول أو لكل أحد من المخاطبين قبل‏ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ بسبب مشاقتهم لهما و اشتقاقه من الشق لأنّ كلا من المتعاندين في شق خلاف شق الآخر كالمعاداة من العدوة و المخاصمة من الخصم، و هو الجانب‏ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ تقرير للتعليل أو وعيد بما أعدّ لهم في و لأنّ خطاب ثبتوا للملائكة فالظاهر أن اضربوا كذلك، و هو أحد قولين للمفسرين كما مرّ. قوله:

(و من منع ذلك جعل الخطاب الخ) أي من منع قتال الملائكة، جعل الخطاب أي المخاطبة فيه أي في فاضربوا، أو الكلام المخاطب به في هذا النظم مع المؤمنين إما على التلوين و تغيير الخطاب من خطاب الملائكة إلى خطاب المؤمنين، أو يكون كلاما تلقينيا للملائكة بتقدير القول لكنه حكى فيه ما قاله اللّه بلفظه و إلا فكان الظاهر سيلقي اللّه الرعب فاضربوا الخ و إليه أشار المصنف رحمه اللّه بقوله قولي هذا. قوله: (أعاليها التي هي المذابح) يعني فوق الإعناق إما على ظاهره، و المراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق فالمراد اضربوا رؤوسهم كقوله:

و أضرب هامة البطل المشيح‏

أو المراد أعالي الإعناق التي هي نحرها و مقطعها الذي تطير بضربه الرؤوس و فوق باقية على ظرفيتها لأنها لا تتصرّف، و قيل إنه إذا كان عبارة عن الرأس فهو مفعول به قيل و تفسيره بالأعالي ناظر إليه، و قيل فوق هنا بمعنى على، و المفعول محذوف أي اضربوهم على الأعناق و قيل زائدة. قوله: (أصابع أي حزوا رقابهم الخ) اختلف أهل اللغة في البنان فقيل هو الأصابع واحده بنانة، و قيل إطلاقه عليها مجاز من تسمية الكل بالجزء، و قيل هي المفاصل، و قيل هي مخصوصة باليد و قيل نعم اليد و الرجل، و يقال بنام بالميم و أشار المصنف رحمه اللّه بقوله اقطعوا أطرافهم إلى أنّ المراد بالبنان مجازا مطلق الأطراف لوقوعه في مقابلة الأعناق، و المقاتل إذ المراد اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل و غيرها و إنما خصت لأنّ بها المدافعة. قوله: (إشارة إلى الضرب الخ) أو الإشارة إلى جميع ما مرّ و الخطاب لأفراده أو لكل من ذكر قبل من الملائكة و المؤمنين على البدل أو لأنّ الكاف تفرد مع تعدّد من خوطب بها، و ليست كالضمير كما صرّحوا به. قوله: (بسبب مشاقتهم لهما) أي عداوتهم و إنما سميت العداوة مشاقة من شق العصا، و هي المخالفة أو لأنّ كلا من المتعادين يكون في شق غير شق الآخر كما أنّ العداوة سميت عداوة لأنّ كلا منهما في عدوة بالضم أي جانب، و كما أنّ المخاصمة من الخصم بالضم و هو الجانب كما بينه أهل الاشتقاق، و قوله: (هو الجانب) تفسير للخصم أوله و لما

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏4، ص: 446

الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا

ذلِكُمْ‏ الخطاب فيه مع الكفرة على طريق الالتفات، و محله الرفع أي الأمر ذلكم أو ذلكم واقع أو نصب بفعل دل عليه‏ فَذُوقُوهُ‏ أو غيره مثل باشروا أو عليكم لتكون الفاء عاطفة وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ عطف على ذلك أو نصب على المفعول معه و المعنى ذوقوا ما عجل لكم مع ما أجل لكم في الآخرة و وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على أنّ الكفر سبب العذاب الآجل أو الجمع بينهما، و قرى‏ء و إنّ بالكسر على الاستئناف‏

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً كثيرا قبله. قوله: (تقرير للتعليل الخ) أراد بالتعليل السببية في قوله بأنهم شاقوا اللّه الخ و هذا بيان له بطريق البرهان أي ما أصابهم بسبب المشاقة للّه و رسوله، و من يشاقق اللّه و رسوله فهو مستحق للعقاب، و لذا قال تقرير و لم يقل تأكيد، و يحتمل أن يريد التأكيد هذا إن أريد بالعقاب ما وقع في الدنيا فإن كان الأخروي فهو وعيد و بيان لخسرانهم في الدارين، و يحتمل أن يريد أنّ هذا تقرير لما قبله لأجل ما فيه من بيان العلة و المعنى استحقوا ما ذكر بسبب تلك المشاقة لأنهم شاقوا من هو شديد العقاب سريع الانتقام، و قوله: حاقَ بِهِمْ‏ [سورة هود، الآية: 8] أي أصابهم و أحاط بهم. قوله: (الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات الخ) و الالتفات من الغيبة في شاقوا إلى الخطاب، قال النحرير: إشارة إلى أنّ الخطاب المعتبر في الالتفات أعمّ من أن يكون بالاسم كما هو المشهور نحو: إِيَّاكَ نَعْبُدُ أو بالحرف كما في ذلك بشرط أن يكون خطابا لمن وقع الغائب عبارة عنه، و فيه بحث، و أشار في الرفع إلى وجهين أن يكون مبتدأ أو خبرا. قوله: (أو نصب بفعل دل عليه فذوقوه) أي من باب الاشتغال، و قيل عليه إنه لا يجوز لأنّ الاشتغال إنما يصح لو جوّزنا صحة الابتداء في ذلكم، و ما بعده الفاء لا يكون خبرا إلا إذا كان المبتدأ موصولا أو نكرة موصوفة، و ردّ بأنه ليس متفقا عليه فإنّ الأخفش جوّزه مطلقا، و قوله: (أو غيره) بالجرّ عطف على فعل، و قوله: (لتكون الفاء عاطفة) إشارة إلى أنها زائدة على الأوّل أو جزائية، كما في زيدا فأضربه على كلام فيه، و قوله أو عليكم أي اسم فعل بمعنى ألزموا، قال النحرير: و مرجعه إلى ذوقوا العذاب إلا أنه عدل في المقدر عن المجاز، و قال أبو حيان: إنه لا يجوز هذا التقدير لأنّ عليكم من أسماء الأفعال و أسماء الأفعال لا يجوز حذفها، و عملها محذوفة و ليس ما قاله بمسلم فإنّ من النحاة من أجازه، و أما كونه عدل عن تقدير المجاز فمع كونه لا وجه له، و إن تبع فيه الفاضل اليمني لا يصلح جوابا عن اعتراض أبي حيان: كما توهم لأنه ينبغي أن يقدّر الزموا. قوله: (عطف على ذلكم) ظاهره و إن كان مطلقا إلا أن يريد إذا كان مرفوعا كما قيده به الزمخشريّ، و تركه لظهوره، و في بعض الحواشي أنه جعله خبر مبتدأ محذوف أو عكسه، و لذا لما ذكر نصبه جعله مفعولا معه لأنه لا يخفى ما في تقدير باشروا أو عليكم أو ذوقوا أنّ للكافرين عذاب النار مما يأباه للذوق، و لذا قال العلامة:

إنه لا معنى له، و أما المعية فلا يرد عليها شي‏ء لأنّ تقديره ذوقوا ذلك مع أنّ لكم زيادة عليه عذاب النار، و لا ركاكة فيه كما توهم، و ليس على أنه فاعل فعل مقدّر أي وقع إذ لا دلالة في‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏4، ص: 447

بحيث يرى لكثرتهم كأنهم يزحفون، و هو مصدر زحف الصبيّ إذا دبّ على مقعده قليلا قليلا سمي به و جمع على زحوف و انتصابه على الحال‏ فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ بالانهزام فضلا عن أن يكونوا مثلكم أو أقلّ منكم، و الإظهر أنها محكمة مخصوصة بقوله: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ‏ [سورة الأنفال، الآية: 65] الآية و يجوز أن ينتصب زحفا على الحال من الفاعل و المفعول أي إذا لقيتموهم متزاحفين يدبون إليكم و تدبون إليهم فلا تنهزموا أو من الفاعل وحده و يكون إشعارا لما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا و هم اثنا عشر ألفا

وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ‏ يريد الكرّ بعد الفرّ و تغرير العدوّ فإنه من مكايد الحرب‏ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ أو منحازا إلى فئة أخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم، و منهم من لم يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي اللّه عنه أنه كان في سرية بعثهم كلامه عليه لكن في جواز نصب المصدر المؤوّل على أنه مفعول معه نظر، و الظاهر هو للكافرين وضع موضع لكم، و قوله للدلالة الخ لأنه يقتضي علية مأخذ الاشتقاق كما مرّ تحقيقه، و قوله: أو الجمع إشارة إلى كونه مفعولا معه و له إعراب آخر و هو نصبه باعلموا أو جعله خبر مبتدأ محذوف، و على قراءة الكسرة فالجملة تذييل و اللام للجنس و الواو للاستئناف.

قوله: (كثيرا بحيث يرى لكثرتهم الخ) يعني أنّ الزحف مصدر زحف على عجزه، ثم أطلق على الكثير لأنه يشبه بالزاحف لما ذكر، و قال الراغب: الزحف إنبعاث مع جرّ الرجل كإنبعاث الصبي قبل أن يمشي، و البعير المعي و العسكر إذا كثر تعسر إنبعاثه، و جمع على زحوف لأنه خرج عن المصدرية و هو حال إما من الفاعل أو المفعول أو منهما، و قيل إنه مصدر لفعل وقع حالا. قوله: (بالانهزام فضلا الخ) هذا بناء على المتبادر من أنّ زحفا حال من المفعول و أنه بمعنى كثير، و كثرتهم بالنسبة إليهم فإذا نهوا عن الإنهزام ممن هو أكثر منهم ففي غيره بطريق الأولى، و قيد بالإنهزام و إن شمل غيره لأنه المتبادر منه عند الإطلاق، و لقوله: (فقد باء بغضب) الخ. قوله: (و الأظهر أنها محكمة) أي ليست منسوخة بآية التخفيف كما سيأتي، و قيل إنها منسوخة بها، و هذا بناء على أنّ التخصيص بمنفصل ليس بنسخ عند الشافعية فلا يرد عليه، أنّ المحكم ما ليس بمنسوخ و لا مخصص، و قوله و يجوز الخ فيكونون موصوفين بالكثرة فلا يحتاج إلى تخصيص، و لما ورد عليهم أنهم لم يكونوا ببدر كذلك قال: إنه عبارة عما وقع لهم يوم حنين، و الرمي المذكور إنما كان فيه على ما عليه المحدثون و سيأتي ما فيه و عدل عن لفظ الظهور إلى الإدبار تقبيحا للإنهزام و تنفيرا عنه.

قوله: (يريد الكرّ بعد الفرّ الخ) الكرّ من كرّ على العدوّ إذا حمل عليه و الفرّ الرجوع، قال:

امرؤ القيس:

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

قوله: (فإنه من مكايد الحرب) لأنه يغرّه بصورة انهزامه، و قوله: منحاز أي منضما و ملحقا بهم و كونه على القرب يفهم منه بناء على المتعارف، و قيل إنه لا يختص به بناء على‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏4، ص: 448

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ففروا إلى المدينة فقلت يا رسول اللّه نحن الفرّارون فقال: «بل أنتم العكارون و أنا فئتكم» و انتصاب متحرّفا، و متحيزا على الحال و إلا لغو لا عمل له أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلا متحرّفا أو متحيزا و وزن متحيز متفيعل لا متفعل، و إلا لكان متحوّزا لأنه من حاز يحوز.

فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ هذا إذا لم يزد العدد على الضعف لقوله الآن خفف اللّه عنكم الآية، و قيل الآية مخصوصة بأهل بيته و الحاضرين مفهومه اللغوي. قوله: (روي الخ) «1» السرية عسكر دون الجيش، و هذا الحديث رواه أبو داود الترمذيّ و حسنه لكن بمعناه مع مخالفة في بعض ألفاظه، و العكار الذي يفرّ إلى من هو أمامه ليستعين به، و لا يقصد الفرار، و في النهاية العكارون الكرّارون إلى الحرب و العطافون نحوها يقال للرجل الذي يفرّ عن الحرب ثم يكرّ راجعا إليها عكر و اعتكر، و يحتمل أن تسميتهم عكارين تسلية لهم و تطييبا لقلوبهم. قوله: (و إلا لغو لا عمل له) لا عمل تفسير للغو و أنه المراد به لا الزائد و لم يعمل لأنه استثناء مفرغ من أعمّ الأحوال، و لو لا التفريغ لكانت عاملة أو واسطة في العمل على ما ذكر في النحو، و الاستثناء المفرغ شرطه أن يكون في النفي أو صحة عموم المستثنى منه نحو قرأت إلا يوم كذا الصحة أن تقرأ في جميع الأيام، و من هذا القبيل ما نحن فيه، و يصح أن يكون من الأوّل لأن يولي يمعنى لا يقبل على القتال، و على الاستثناء من المولين المعنى المولون إلا المنحرفين و المتحيزين لهم ما ذكر من الغضب، و قوله رجلا بيان للمعنى لا تقدير إذ لا حاجة له لكن الأصل في الصفة أن تجرى على موصوف. قوله: (و وزن متحيز متفيعل الخ) قال النحرير:

جعل في المفصل تدبرا من باب التفعل فاعترض عليه بأنّ حقه تدور لأنه واويّ فهو تفعيل، و قد ذكره له بعض تلامذته فأذعن له، و ذكر الإمام المرزوقي أنّ تديرا تفعل نظرا إلى شيوع ديار بالياء و على هذا يجوز أن يكون تحيز تفعل نظرا إلى شيوع الحيز بالياء فلهذا لم يجى‏ء تدوّر و لا تحوّز (قلت) ما ذكره الإمام المرزوقي أيده بعض النحاة و ذكر ابن جني في إعراب الحماسة إنه هو الحق و أنهم قد يعدون المنقلب كالأصلي، و يجرون عليه أحكامه كثيرا، و في قوله إنهم لم يقولوا تحوّز نظر فإنّ أهل اللغة قالوا تحوّز و تحيز كما نقله في القاموس، و قال: ابن تيمية تحوّز تفعل و تحيز تفيعل، و هذه المادّة معناها في كلام العرب يتضمن العدول من جهة إلى أخرى من الحيز و هو فناء الدار و مرافقها، ثم قيل لكل ناحية فالمستقرّ في موضعه كالجبل لا يقال له متحيز، و يراد بالمتحيز عند العرب ما يحيط به حيز موجود، و هو أعمّ من هذا و المتكلمون يريدون به الأعمّ، و هو كل ما أشير إليه فالعالم كله متحيز. قوله: (هذا إذا لم يزد العدد على الضعف الخ) كما مرّ أنها مخصوصة

(1) أخرجه أبو داود 2647 و الترمذي 1716 و أحمد 2/ 70 و 86 و 111 و أبو يعلى 5596 و البيهقي 7/ 101 من حديث ابن عمر بأتم منه.

و قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد اه.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏4، ص: 449

معه في الحرب‏

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ‏ بقوّتكم‏ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ‏ بنصركم و تسليطكم عليهم و القاء الرعب في قلوبهم، روي أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة و السّلام:

«هذه قريش جاءت بخيلائها و فخرها يكذبون رسولك اللهمّ إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبريك و قال له: «خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها في وجوههم و قال: «شاهدت الوجوه» فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم» ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل: بما في غيرها من الآيات، و أما تخصيصها بأهل بدر و بجيش فيه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فلأنّ الواقعة المذكورة في النظم تخصص بالمعونة، و هذا منقول عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه أما أهل بدر فإنه أوّل جهاد وقع في الإصلام، و لذا تهيبوه و لو لم يثبتوا فيه لزم مفاسد عظيمة و لا ينافيه أنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها لأن النظم لا يوجب وجودها، و أما إذا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم معهم فإنّ اللّه قد وعده بالنصر، كذا قيل و قال الجصاص: إنه غير سديد لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يخرجوا لأنهم لم يعلموا بالنفير و ظنوها العير فقط، و الإنحياز عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم غير جائز لعصمته و لأنّ اللّه نصره فكان فئة لهم و قيل عليه إنّ الإشارة بيومئذ إلى يوم بدر و لا تكاد تصح لأنه في سياق الشرط، و هو مستقبل فالآية إن كانت نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فيوم بدر فرد من أفراد أيام اللقاء فيكون عامّا فيه لا خاصا به، و إن نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم بعده، و يومئذ إشارة إلى يوم اللقاء، و يدفع بأنّ المراد أنها نزلت يوم بدر، و قد قامت قرينة على تخصيصها كما مرّ و لا بعد فيه، و باء بمعنى رجع و ضمير معه للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و قوله: (ينصركم) إشارة إلى أنّ إسناد القتل إلى اللّه مجاز، و الفرار عن الزحف بغير نية الكرّ، و الإنحياز إلى فئة المسلمين كبيرة ما لم يكن الجيش قليلا لا يقدر على المقاومة، و لذا قال محمد بن الحسن رحمه اللّه إذا كانوا اثني عشر ألفا لم يجز لأنهم لا يغلبون عن قلة كما في الحديث. قوله: (روي أنه لما طلعت قريش الخ) «1» قال السيوطي: هذا الحديث أخرجه ابن جرير بن عروة و مرسلا، و ليس فيه أمر جبريل عليه الصلاة و السّلام بذلك، و روى ابن جرير و ابن مردوية أمر جبريل له بذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما و لم يقف عليه الطيبي فقال: لم يذكر أحد من أئمة الحديث أنّ هذه الرمية كانت يوم بدر إنما هي يوم حنين و اغتر به من قال: المحدّثون على أنّ الرمية لم تكن إلا يوم حنين و ليس كما قالا و الطيبي رحمه اللّه لم يبلغ درجة الحفاظ، و منتهى نظره الكتب الستة و كثيرا ما يقصر في التخريج اه و قد سبقه الحافظ بن حجر إلى هذا و خرج الرمي في بدر من طرق عديدة و ذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جدّا و العقنقل بعين مهملة مفتوحة و قاف مفتوح و نون ساكنة و قاف و لام، و وزنه فعنعل الكثيب العظيم من الرمل و المراد به محل مخصوص، و شاهت الوجوه بمعنى صارت مشوهة أي قبيحة، و الخيلاء بوزن العلماء بمعنى الكبر، و تناول كفا

صفحه بعد