کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج1، ص: 15
و الإعرابي و البياني بأوفر نصيب، و الحرص على إيراد ما ثبت من التفسير عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أو الصحابة أو التابعين أو تابعيهم، أو الأئمة المعتبرين. و قد أذكر ما في إسناده ضعف، إما لكونه في المقام ما يقوّيه، أو لموافقته للمعنى العربي، و قد أذكر الحديث معزوّا إلى راويه من غير بيان حال الإسناد، لأني أجده في الأصول التي نقلت عنها كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير و القرطبي و ابن كثير و السيوطي و غيرهم، و يبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفا و لا يبيّنونه، و لا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم قد علموا ثبوته، فإن من الجائز أن ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد، بل هذا هو الذي يغلب به الظن، لأنهم لو كشفوا عنه فثبتت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك، كما يقع منهم كثيرا التصريح بالصحة أو الحسن، فمن وجد الأصول التي يروون عنها و يعزون ما في تفاسيرهم إليها فلينظر في أسانيدها موفقا إن شاء اللّه.
و اعلم أن تفسير السيوطي المسمى ب «الدرّ المنثور» قد اشتمل على غالب ما في تفاسير السلف من التفاسير المرفوعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و تفاسير الصحابة و من بعدهم، و ما فاته إلا القليل النادر. و قد اشتمل هذا التفسير على جميع ما تدعو إليه الحاجة منه مما يتعلق بالتفسير، مع اختصار لما تكرّر لفظا و اتحد معنى بقولي: و مثله أو نحوه، و ضممت إلى ذلك فوائد لم يشتمل عليها وجدتها في غيره من تفاسير علماء الرواية، أو من الفوائد التي لاحت لي من تصحيح أو تحسين أو تضعيف، أو تعقب أو جمع أو ترجيح.
فهذا التفسير و إن كبر حجمه، فقد كثر علمه، و توفر من التحقيق قسمه، و أصاب غرض الحق سهمه، و اشتمل على ما في كتب التفاسير من بدائع الفوائد، مع زوائد فوائد و قواعد شوارد، فإن أحببت أن تعتبر صحة هذا فهذه كتب التفسير على ظهر البسيطة، انظر تفاسير المعتمدين على الرواية، ثم ارجع إلى تفاسير المعتمدين على الدراية، ثم انظر في هذا التفسير بعد النظرين، فعند ذلك يسفر الصبح لذي عينين، و يتبيّن لك أن هذا الكتاب هو لبّ اللباب، و عجب العجاب، و ذخيرة الطلاب، و نهاية مأرب الألباب. و قد سميته:
«فتح القدير» «الجامع بين فنّي الرواية و الدراية من علم التفسير»
مستمدا من اللّه سبحانه بلوغ الغاية، و الوصول بعد هذه البداية إلى النهاية، راجيا منه جلّ جلاله أن يديم به الانتفاع و يجعله من الذخائر التي ليس لها انقطاع.
و اعلم أن الأحاديث في فضائل القرآن كثيرة جدا، و لا يتم لصاحب القرآن ما يطلبه من الأجر الموعود به في الأحاديث الصحيحة حتى يفهم معانيه، فإن ذلك هو الثمرة من قراءته.
قال القرطبي: ينبغي له أن يتعلّم أحكام القرآن فيفهم عن اللّه مراده و ما فرض عليه، فينتفع بما يقرأ و يعمل بما يتلو؛ فما أقبح بحامل القرآن أن يتلو فرائضه و أحكامه عن ظهر قلب و هو لا يفهم معنى ما يتلوه، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه، و ما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه و لا يدريه! فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا. و ينبغي له أن يعرف المكّي من المدنيّ، ليفرّق بين ما خاطب اللّه به عباده في أوّل الإسلام،
فتح القدير، ج1، ص: 16
و ما ندبهم إليه في آخر الإسلام، و ما فرض في أوّل الإسلام و ما زاد عليهم من الفرائض في آخره، فالمدنيّ هو الناسخ للمكّي في أكثر القرآن:
و قال أيضا: قال علماؤنا: و أما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة و التابعين. فمن ذلك أن عليّ بن أبي طالب ذكر جابر بن عبد اللّه و وصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداك، تصف جابرا بالعلم و أنت أنت؟ فقال: إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85]. و قال مجاهد: أحبّ الخلق إلى اللّه أعلمهم بما أنزل اللّه. و قال الحسن: و اللّه ما أنزل اللّه آية إلا أحبّ أن يعلم فيمن نزلت و ما يعني بها. و قال الشعبي: رحل مسروق في تفسير آية إلى البصرة، فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام، فتجهّز و رحل إلى الشام حتى علم تفسيرها. و قال عكرمة في قوله عزّ و جلّ: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ [النساء: 100] طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته. قال ابن عبد البرّ: هو ضميرة بن حبيب. و قال ابن عباس: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ما يمنعني إلا مهابته، فسألته فقال: هي حفصة و عائشة. و قال إياس بن معاوية: مثل الذين يقرءون القرآن و هم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من عند مليكهم ليلا و ليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة و لا يدرون ما في الكتاب. و مثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب. و ذكر ابن أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم: لو طلبتم كتاب اللّه لوجدتم فيه شفاء لما تريدون، فقالوا: قد تعلّمنا القرآن، فقال: إن في تعلّمكم القرآن شغلا لأعماركم و أعمار أولادكم، فقالوا: كيف يا أبا عليّ؟ قال: لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه و محكمه و متشابهه و ناسخه من منسوخه، فإذا عرفتم استغنيتم عن كلام فضيل و ابن عيينة. و للسلف رحمهم اللّه من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر.
فتح القدير، ج1، ص: 17
سورة الفاتحة
معنى الفاتحة في الأصل أوّل ما من شأنه أن يفتتح به، ثم أطلقت على أوّل كل شيء كالكلام، و التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، فسميت هذه السورة «فاتحة الكتاب» لكونه افتتح بها، إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف، و أول ما يتلوه التالي من الكتاب العزيز، و إن لم تكن أول ما نزل من القرآن. و قد اشتهرت هذه السورة الشريفة بهذا الاسم في أيام النبوّة. قيل: هي مكية، و قيل: مدنية.
و قد أخرج الواحديّ في أسباب النزول، و الثعلبيّ في تفسيره عن عليّ رضي اللّه عنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش. و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في دلائل النبوّة، و الثعلبيّ و الواحديّ من حديث عمرو بن شرحبيل: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما شكا إلى خديجة ما يجده عند أوائل الوحي، فذهبت به إلى ورقة فأخبره فقال له: «إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد يا محمد! فأنطلق هاربا في الأرض، فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتّى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني؛ فلمّا خلا ناداه يا محمّد قل: بسم اللّه الرحمن الرحيم، حتّى بلغ و لا الضّالّين» الحديث. و أخرج أبو نعيم في الدلائل عن رجل من بني سلمة قال: لما أسلم فتيان بني سلمة و أسلم ولد عمرو بن الجموح قالت امرأة عمرو له: هل لك أن تسمع من ابنك ما روى عنه؟ فسأله فقرأ عليه: الحمد للّه رب العالمين، و كان ذلك قبل الهجرة. و أخرج أبو بكر بن الأنباري في المصاحف عن عبادة قال: فاتحة الكتاب نزلت بمكة.
فهذا جملة ما استدل به من قال إنها نزلت بمكة.
و استدلّ من قال إنها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، و أبو سعيد بن الأعرابي في معجمه، و الطبراني في الأوسط من طريق مجاهد عن أبي هريرة: رنّ «1» إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب. و أنزلت بالمدينة.
و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، و عبد بن حميد، و ابن المنذر، و أبو نعيم في الحلية و غيرهم من طرق عن مجاهد قال: نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة، و قيل إنها نزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة جمعا بين هذه الروايات.
و تسمّى «أمّ الكتاب» قال البخاري في أول التفسير: و سميت أمّ الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، و يبدأ بقراءتها في الصلاة. و أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن أيوب عن محمد بن سيرين كان يكره أن يقول أمّ الكتاب و يقول: قال اللّه تعالى: وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «2» و لكن يقول: فاتحة الكتاب. و يقال لها الفاتحة لأنها يفتتح بها القراءة، و افتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام. قال ابن كثير في تفسيره:
(1). رنّ: صاح.
(2). الرعد: 39.
فتح القدير، ج1، ص: 18
و صحّ تسميتها بالسبع المثاني، قالوا: لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة. و أخرج أحمد من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال في أمّ القرآن، و هي السّبع المثاني، و هي القرآن العظيم».
و أخرج ابن جرير في تفسيره عن أبي هريرة أيضا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «هي أمّ القرآن، و هي فاتحة الكتاب، و هي السّبع المثاني». و أخرج نحوه ابن مردويه في تفسيره و الدارقطني من حديثه، و قال كلهم ثقات. و روى البيهقيّ عن عليّ و ابن عباس و أبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «1» بالفاتحة.
و من جملة أسمائها كما حكاه في الكشاف سورة الكنز، و الوافية، و سورة الحمد، و سورة الصلاة. و قد أخرج الثعلبيّ أن سفيان بن عيينة كان يسمي فاتحة الكتاب: الوافية. و أخرج الثعلبيّ أيضا عن عبد اللّه بن يحيى بن أبي كثير أنه سأله سائل عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، فقال: عن الكافية تسأل؟ قال السائل: و ما الكافية؟ قال: الفاتحة، أما علمت أنها تكفي عن سواها و لا يكفي سواها عنها. و أخرج أيضا عن الشّعبيّ أن رجلا اشتكى إليه وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن، قال: و ما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب. و أخرج البيهقي في الشعب عن أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إنّ اللّه أعطاني فيما منّ به عليّ فاتحة الكتاب، و قال: هي من كنوز عرشي» و أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده عن عليّ نحوه مرفوعا. و قد ذكر القرطبي في تفسيره للفاتحة اثني عشر اسما.
و هي سبع آيات بلا خلاف كما حكاه ابن كثير في تفسيره. و قال القرطبيّ: أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلّا ما روي عن حسين الجعفي أنها ستّ، و هو شاذ. و إلّا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية، فهي عنده ثمان، و هو شاذ. انتهى. و إنما اختلفوا في البسملة كما سيأتي إن شاء اللّه.
و قد أخرج عبد بن حميد، و محمد بن نصر في كتاب الصلاة، و ابن الأنباري في المصاحف عن محمد بن سيرين أن أبيّ بن كعب و عثمان بن عفان كانا يكتبان فاتحة الكتاب و المعوّذتين، و لم يكتب ابن مسعود شيئا منهنّ.
و أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال: كان عبد اللّه بن مسعود لا يكتب فاتحة الكتاب في المصحف، و قال:
لو كتبتها لكتبت في أول كل شيء.
و قد ورد في فضل هذه السورة أحاديث، منها: ما أخرجه البخاري و أحمد و أبو داود و النسائيّ من حديث أبي سعيد بن المعلى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال له: «لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال: فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول اللّه! إنّك قلت: لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم- الحمد للّه ربّ العالمين- هي السّبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته». و أخرج أحمد و الترمذي و صححه، من حديث أبيّ بن كعب أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال له: «أ تحبّ أن أعلّمك سورة لم ينزل في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزّبور و لا في الفرقان مثلها؟ ثم أخبره أنّها الفاتحة».
و أخرجه النسائي و أخرج أحمد في المسند من حديث عبد اللّه بن جابر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال له: «أ لا أخبرك بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول اللّه! قال: اقرأ الحمد للّه رب العالمين حتى تختمها» و في إسناده ابن عقيل، و قد احتج به كبار الأئمة، و بقية رجاله ثقات. و عبد اللّه بن جابر هذا هو العبدي كما
(1). الحجر: 87.
فتح القدير، ج1، ص: 19
قال ابن الجوزي، و قيل الأنصاري البياضي كما قال ابن عساكر. و في الصحيحين و غيرهما من حديث أبي سعيد «أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال لمّا أخبروه بأن رجلا رقى سليما بفاتحة الكتاب: و ما كان يدريه أنها رقية؟» الحديث.
و أخرج مسلم في صحيحه، و النسائي في سننه من حديث ابن عباس قال: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قطّ، قال:
فنزل منه ملك فأتى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، و خواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منهما إلّا أوتيته» و أخرج مسلم و النسائي و الترمذي، و صحّحه من حديث أبي هريرة «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج- ثلاثا- غير تامة». و أخرج البزار في مسنده بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إذا وضعت جنبك على الفراش و قرأت فاتحة الكتاب و قل هو اللّه أحد فقد أمنت من كل شيء إلّا الموت» و أخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن أبي زيد- و كان له صحبة- قال: كنت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في بعض فجاج المدينة، فسمع رجلا يتهجد و يقرأ بأمّ القرآن، فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فاستمع حتى ختمها ثم قال: «ما في القرآن مثلها». و أخرج سعيد بن منصور في سننه، و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدريّ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم». و أخرج أبو الشيخ نحوه من حديثه، و حديث أبي هريرة مرفوعا. و أخرج الدارمي، و البيهقي في شعب الإيمان بسند رجاله ثقات عن عبد الملك بن عمير قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في فاتحة الكتاب «شفاء من كل داء». و أخرج أحمد و أبو داود و النسائي و ابن السني في عمل اليوم و الليلة، و ابن جرير و الحاكم، و صححه عن خارجة بن الصلت التميمي عن عمه: أنه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثم أقبل راجعا من عنده، فمرّ على قوم و عندهم رجل مجنون موثق بالحديد، فقال أهله: أ عندك ما تداوي به هذا؟ فإن صاحبكم قد جاء بخير، قال: فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام في كل يوم مرتين غدوة و عشية، أجمع بزاقي ثم أتفل فبرأ، فأعطاني مائة شاة، فأتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فذكرت ذلك له فقال: «كل، فلعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق». و أخرج الفريابي في تفسيره عن ابن عباس قال: «فاتحة الكتاب ثلث القرآن». و أخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ أمّ القرآن و قل هو اللّه أحد، فكأنّما قرأ ثلث القرآن». و أخرج عبد بن حميد في مسنده بسند ضعيف عن ابن عباس يرفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم: «فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن». و أخرج الحاكم و صححه، و أبو ذرّ الهروي في فضائله، و البيهقي في الشعب عن أنس قال: «كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في مسير له، فنزل فمشى رجل من أصحابه إلى جنبه، فالتفت إليه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «أ لا أخبرك بأفضل القرآن؟، فتلا عليه الحمد للّه رب العالمين». و أخرج أبو نعيم و الديلمي عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزي شيء من القرآن، و لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان، و جعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات». و أخرج أبو عبيد في فضائله عن الحسن مرسلا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان».
فتح القدير، ج1، ص: 20
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
اختلف أهل العلم هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها؟ أو هي بعض آية من أول كل سورة، أو هي كذلك في الفاتحة فقط دون غيرها، أو أنها ليست بآية في الجميع و إنما كتبت للفصل؟ و الأقوال و أدلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك. و قد اتفقوا على أنها بعض آية في سورة النمل. و قد جزم قرّاء مكة و الكوفة بأنها آية من الفاتحة و من كل سورة. و خالفهم قرّاء المدينة و البصرة و الشام فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة و لا من غيرها من السور، قالوا: و إنما كتبت للفصل و التبرّك. و قد أخرج أبو داود بإسناد صحيح، عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. و أخرجه الحاكم في المستدرك. و أخرج ابن خزيمة في صحيحه، عن أم سلمة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة و غيرها آية. و في إسناده عمرو بن هارون البلخي و فيه ضعف، و روى نحوه الدارقطني مرفوعا عن أبي هريرة.
و كما وقع الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة. و قد أخرج النسائي في سننه، و ابن خزيمة و ابن حبان في صحيحيهما، و الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أنه صلّى فجهر في قراءته بالبسملة، و قال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. و صحّحه الدارقطني و الخطيب و البيهقي و غيرهم.
و روى أبو داود و الترمذي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يفتتح الصلاة ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم.
قال الترمذي: و ليس إسناده بذاك. و قد أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس بلفظ: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يجهر ب: بسم اللّه الرحمن الرحيم. ثم قال: صحيح. و أخرج البخاري في صحيحه، عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: كانت قراءته مدّا، ثم قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، يمدّ بسم اللّه، و يمدّ الرحمن، و يمدّ الرحيم. و أخرج أحمد في المسند و أبو داود في السنن و ابن خزيمة في صحيحه، و الحاكم في مستدركه، عن أمّ سلمة أنها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقطع قراءته: بسم اللّه الرحمن الرحيم. الحمد للّه رب العالمين.
الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. و قال الدارقطني: إسناده صحيح.
و احتجّ من قال بأنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة بما في صحيح مسلم، عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يفتتح الصلاة بالتكبير، و القراءة ب: الحمد للّه رب العالمين. و في الصحيحين عن أنس قال: صليت خلف النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أبي بكر و عمر و عثمان، فكانوا يستفتحون ب: الحمد للّه ربّ العالمين. و لمسلم: لا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم في أول قراءة و لا في آخرها. و أخرج أهل السنن نحوه عن عبد اللّه بن مغفّل.
و إلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة و جماعة من الصحابة. و أحاديث الترك و إن كانت أصحّ و لكن الإثبات أرجح، مع كونه خارجا من مخرج صحيح، فالأخذ به أولى و لا سيما مع إمكان تأويل الترك، و هذا يقتضي الإثبات
فتح القدير، ج1، ص: 21
الذاتي، أعني: كونها قرآنا؛ و الوصفي أعني: الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة.
و لتنقيح البحث و الكلام على أطرافه استدلالا و ردّا و تعقبا و دفعا و رواية و دراية، موضع غير هذا. و متعلّق الباء محذوف و هو أقرأ أو أتلو لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له؛ فمن قدّره متقدما كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل، و من قدّره متأخرا كان غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم، و الإشارة إلى أن البداية به أهمّ لكون التبرك حصل به، و بهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخرا في مثل هذا المقام، و لا يعارضه قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «1» لأن ذلك المقام مقام القراءة، فكان الأمر بها أهمّ، و أما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسما أو فعلا فلا يتعلق بذلك كثير فائدة. و الباء للاستعانة أو المصاحبة، و رجّح الثاني الزمخشري. و اسم أصله سمو حذفت لامه، و لما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوّله الهمزة إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن، و هو اللفظ الدالّ على المسمى؛ و من زعم أن الاسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة و سيبويه و الباقلاني و ابن فورك، و حكاه الرازي عن الحشوية و الكرامية و الأشعرية فقد غلط غلطا بينا، و جاء بما لا يعقل، مع عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب و لا من السنة و لا من لغة العرب، بل العلم الضروري حاصل بأن الاسم الذي هو أصوات مقطعة و حروف مؤلفة غير المسمى الذي هو مدلوله، و البحث مبسوط في علم الكلام. و قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «إن للّه تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة».
و قال اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «2» و قال تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى . و اللّه علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره، و أصله إله حذفت الهمزة و عوّضت عنها أداة التعريف فلزمت. و كان قبل الحذف من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كالنجم و الصعق، فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة، و بعده من الأعلام المختصة. و الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة، و رحمن أشد مبالغة من رحيم. و في كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا، و لذلك قالوا: رحمن الدنيا و الآخرة، و رحيم الدنيا. و قد تقرّر أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى. و قال ابن الأنباري و الزجاج: إن الرحمن عبراني و الرحيم عربي و خالفهما غيرهما. و الرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير اللّه عزّ و جلّ. و أما قول بني حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، فقال في الكشاف: إنه باب من تعنتهم في كفرهم. قال أبو عليّ الفارسيّ: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به اللّه تعالى، و الرحيم إنما هو في جهة المؤمنين، قال اللّه تعالى وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «3» و قد ورد في فضلها أحاديث. منها ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه و ابن خزيمة في كتاب البسملة و البيهقي عن ابن عباس قال: استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن: بسم اللّه الرحمن الرحيم. و أخرج نحوه أبو عبيد و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا. و أخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كان جبريل إذا جاءني بالوحي أوّل ما يلقي عليّ بسم اللّه الرحمن الرحيم». و أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره و الحاكم في المستدرك، و صحّحه البيهقي في شعب الإيمان
(1). العلق: 1.
(2). الأعراف: 180.