کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج1، ص: 20
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
اختلف أهل العلم هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها؟ أو هي بعض آية من أول كل سورة، أو هي كذلك في الفاتحة فقط دون غيرها، أو أنها ليست بآية في الجميع و إنما كتبت للفصل؟ و الأقوال و أدلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك. و قد اتفقوا على أنها بعض آية في سورة النمل. و قد جزم قرّاء مكة و الكوفة بأنها آية من الفاتحة و من كل سورة. و خالفهم قرّاء المدينة و البصرة و الشام فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة و لا من غيرها من السور، قالوا: و إنما كتبت للفصل و التبرّك. و قد أخرج أبو داود بإسناد صحيح، عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. و أخرجه الحاكم في المستدرك. و أخرج ابن خزيمة في صحيحه، عن أم سلمة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة و غيرها آية. و في إسناده عمرو بن هارون البلخي و فيه ضعف، و روى نحوه الدارقطني مرفوعا عن أبي هريرة.
و كما وقع الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة. و قد أخرج النسائي في سننه، و ابن خزيمة و ابن حبان في صحيحيهما، و الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أنه صلّى فجهر في قراءته بالبسملة، و قال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. و صحّحه الدارقطني و الخطيب و البيهقي و غيرهم.
و روى أبو داود و الترمذي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يفتتح الصلاة ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم.
قال الترمذي: و ليس إسناده بذاك. و قد أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس بلفظ: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يجهر ب: بسم اللّه الرحمن الرحيم. ثم قال: صحيح. و أخرج البخاري في صحيحه، عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: كانت قراءته مدّا، ثم قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، يمدّ بسم اللّه، و يمدّ الرحمن، و يمدّ الرحيم. و أخرج أحمد في المسند و أبو داود في السنن و ابن خزيمة في صحيحه، و الحاكم في مستدركه، عن أمّ سلمة أنها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقطع قراءته: بسم اللّه الرحمن الرحيم. الحمد للّه رب العالمين.
الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. و قال الدارقطني: إسناده صحيح.
و احتجّ من قال بأنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة بما في صحيح مسلم، عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يفتتح الصلاة بالتكبير، و القراءة ب: الحمد للّه رب العالمين. و في الصحيحين عن أنس قال: صليت خلف النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أبي بكر و عمر و عثمان، فكانوا يستفتحون ب: الحمد للّه ربّ العالمين. و لمسلم: لا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم في أول قراءة و لا في آخرها. و أخرج أهل السنن نحوه عن عبد اللّه بن مغفّل.
و إلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة و جماعة من الصحابة. و أحاديث الترك و إن كانت أصحّ و لكن الإثبات أرجح، مع كونه خارجا من مخرج صحيح، فالأخذ به أولى و لا سيما مع إمكان تأويل الترك، و هذا يقتضي الإثبات
فتح القدير، ج1، ص: 21
الذاتي، أعني: كونها قرآنا؛ و الوصفي أعني: الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة.
و لتنقيح البحث و الكلام على أطرافه استدلالا و ردّا و تعقبا و دفعا و رواية و دراية، موضع غير هذا. و متعلّق الباء محذوف و هو أقرأ أو أتلو لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له؛ فمن قدّره متقدما كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل، و من قدّره متأخرا كان غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم، و الإشارة إلى أن البداية به أهمّ لكون التبرك حصل به، و بهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخرا في مثل هذا المقام، و لا يعارضه قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «1» لأن ذلك المقام مقام القراءة، فكان الأمر بها أهمّ، و أما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسما أو فعلا فلا يتعلق بذلك كثير فائدة. و الباء للاستعانة أو المصاحبة، و رجّح الثاني الزمخشري. و اسم أصله سمو حذفت لامه، و لما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوّله الهمزة إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن، و هو اللفظ الدالّ على المسمى؛ و من زعم أن الاسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة و سيبويه و الباقلاني و ابن فورك، و حكاه الرازي عن الحشوية و الكرامية و الأشعرية فقد غلط غلطا بينا، و جاء بما لا يعقل، مع عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب و لا من السنة و لا من لغة العرب، بل العلم الضروري حاصل بأن الاسم الذي هو أصوات مقطعة و حروف مؤلفة غير المسمى الذي هو مدلوله، و البحث مبسوط في علم الكلام. و قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «إن للّه تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة».
و قال اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «2» و قال تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى . و اللّه علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره، و أصله إله حذفت الهمزة و عوّضت عنها أداة التعريف فلزمت. و كان قبل الحذف من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كالنجم و الصعق، فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة، و بعده من الأعلام المختصة. و الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة، و رحمن أشد مبالغة من رحيم. و في كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا، و لذلك قالوا: رحمن الدنيا و الآخرة، و رحيم الدنيا. و قد تقرّر أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى. و قال ابن الأنباري و الزجاج: إن الرحمن عبراني و الرحيم عربي و خالفهما غيرهما. و الرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير اللّه عزّ و جلّ. و أما قول بني حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، فقال في الكشاف: إنه باب من تعنتهم في كفرهم. قال أبو عليّ الفارسيّ: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به اللّه تعالى، و الرحيم إنما هو في جهة المؤمنين، قال اللّه تعالى وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «3» و قد ورد في فضلها أحاديث. منها ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه و ابن خزيمة في كتاب البسملة و البيهقي عن ابن عباس قال: استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن: بسم اللّه الرحمن الرحيم. و أخرج نحوه أبو عبيد و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا. و أخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كان جبريل إذا جاءني بالوحي أوّل ما يلقي عليّ بسم اللّه الرحمن الرحيم». و أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره و الحاكم في المستدرك، و صحّحه البيهقي في شعب الإيمان
(1). العلق: 1.
(2). الأعراف: 180.
(3). الإسراء: 110.
فتح القدير، ج1، ص: 22
عن ابن عباس: أن عثمان بن عفان سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم عن بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال: «هو اسم من أسماء اللّه، و ما بينه و بين اسم اللّه الأكبر إلّا كما بين سواد العين و بياضها من القرب». و أخرج ابن جرير و ابن عديّ في الكامل و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية و ابن عساكر في تاريخ دمشق، و الثعلبي بسند ضعيف جدا، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب لتعلّمه، فقال له المعلم: اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال له عيسى: و ما بسم اللّه الرحمن الرحيم؟ قال المعلم:
لا أدري، فقال له عيسى: الباء بهاء اللّه، و السين سناه، و الميم مملكته، و اللّه إله الآلهة، و الرحمن رحمن الدنيا و الآخرة، و الرحيم رحيم الآخرة» و في إسناده إسماعيل بن يحيى و هو كذّاب. و قد أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات. و أخرج ابن مردويه و الثعلبي عن جابر قال: لما نزلت بسم اللّه الرحمن الرحيم:
هرب الغيم إلى المشرق، و سكنت الريح، و هاج البحر، و أصغت البهائم بآذانها، و رجمت الشياطين من السماء، و حلف اللّه بعزّته و جلاله أن لا تسمّى على شيء إلّا بارك فيه. و أخرج أبو نعيم و الديلمي عن عائشة قالت: لما نزلت بسم اللّه الرحمن الرحيم، ضجّت الجبال حتى سمع أهل مكة دويها، فقالوا: سحر محمد الجبال، فبعث اللّه دخانا حتى أظلّ على أهل مكة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم موقنا سبحت معه الجبال إلّا أنه لا يسمع ذلك منها». و أخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«من قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم كتب اللّه له بكل حرف أربعة آلاف حسنة، و محا عنه أربعة آلاف سيئة، و رفع له أربعة آلاف درجة». و أخرج الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «بسم اللّه الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب». و هذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها و الكلام عليها بما يتبيّن بعد البحث إن شاء اللّه. و قد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بيّنها الشارع منها: عند الوضوء، و عند الذبيحة، و عند الأكل، و عند الجماع، و غير ذلك.
فتح القدير، ج1، ص: 23
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، و بقيد الاختياري فارق المدح، فإنه يكون على الجميل و إن لم يكن الممدوح مختارا، كمدح الرجل على جماله و قوّته و شجاعته. و قال صاحب الكشاف: إنهما أخوان. و الحمد أخصّ من الشكر موردا و أعمّ منه متعلقا. فمورد الحمد اللسان فقط، و متعلقه النعمة و غيرها. و مورد الشكر اللسان و الجنان و الأركان، و متعلقه النعمة. و قيل إن مورد الحمد كمورد الشكر، لأن كل ثناء باللسان لا يكون من صميم القلب مع موافقة الجوارح ليس بحمد بل سخرية و استهزاء. و أجيب بأن اعتبار موافقة القلب و الجوارح في الحمد لا يستلزم أن يكون موردا له بل شرطا- و فرق بين الشرط و الشطر- و تعريفه: لاستغراق أفراد الحمد و أنها مختصة بالرّبّ سبحانه على معنى أن حمد غيره لا اعتداد به، لأن المنعم هو اللّه عزّ و جلّ، أو على أن حمده هو الفرد الكامل فيكون الحصر ادّعائيا.
و رجّح صاحب الكشاف أن التعريف هنا هو تعريف الجنس لا الاستغراق، و الصواب ما ذكرناه. و قد جاء في الحديث «اللهمّ لك الحمد كله» و هو مرتفع بالابتداء و خبره الظرف و هو للّه. و أصله النصب على المصدرية بإضمار فعله كسائر المصادر التي تنصبها العرب، فعدل عنه إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام و الثبات المستفاد من الجمل الاسمية دون الحدوث و التجدد اللذين تفيدهما الجمل الفعلية، و اللام الداخلة على الاسم الشريف هي لام الاختصاص. قال ابن جرير: الحمد ثناء أثنى به على نفسه، و في ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا الحمد للّه؛ ثم رجّح اتحاد الحمد و الشكر مستدلا على ذلك بما حاصله: إن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد و الشكر مكان الآخر. قال ابن كثير: و فيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة و المتعدية. و الشكر لا يكون إلا على المتعدية، و يكون بالجنان و اللسان و الأركان انتهى. و لا يخفى أن المرجع في مثل هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله جماعة من العلماء المتأخرين، فإن ذلك لا يرد على ابن جرير، و لا تقوم به الحجة؛ هذا إذا لم يثبت للحمد حقيقة شرعية، فإن ثبتت وجب تقديمها. و قد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عمر: قد علمنا سبحان اللّه و لا إله إلّا اللّه، فما الحمد للّه؟ فقال عليّ: كلمة رضيها لنفسه. و روى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس أنه قال: الحمد للّه كلمة الشكر، و إذا قال العبد: الحمد للّه قال: شكرني عبدي. و روى هو و ابن جرير عن ابن عباس أيضا أنه قال: الحمد للّه هو الشكر للّه و الاستخذاء له و الإقرار له بنعمه و هدايته و ابتدائه و غير ذلك. و روى ابن جرير عن الحكم بن عمير، و كانت له صحبة قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «إذا قلت: الحمد للّه ربّ العالمين؛ فقد شكرت اللّه فزادك». و أخرج عبد الرزاق في المصنف، و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، و الخطابي في الغريب، و البيهقيّ في الأدب، و الديلميّ في
فتح القدير، ج1، ص: 24
مسند الفردوس، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: «الحمد رأس الشكر، ما شكر اللّه عبد لا يحمده». و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحلبي قال: الصلاة شكر و الصيام شكر، و كل خير تفعله شكر، و أفضل الشكر الحمد. و أخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النّواس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال: «لئن ردّها اللّه عليّ لأشكرنّ ربي فرجعت، فلما رآها قال: الحمد للّه. فانتظروا هل يحدث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم صوما أو صلاة، فظنوا أنه نسي فقالوا:
يا رسول اللّه! قد كنت قلت: لئن ردّها اللّه عليّ لأشكرنّ ربي، قال: ألم أقل الحمد للّه؟».
و قد ورد في فضل الحمد أحاديث. منها ما أخرجه أحمد و النسائي و الحاكم و صحّحه، و البخاري في الأدب المفرد عن الأسود بن سريع قال: «قلت يا رسول اللّه! ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك و تعالى؟
فقال: أما إن ربك يحبّ الحمد». و أخرج الترمذي و حسنه و النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و البيهقي عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أفضل الذكر لا إله إلّا اللّه، و أفضل الدعاء الحمد للّه». و أخرج ابن ماجة و البيهقي بسند حسن عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «ما أنعم اللّه على عبد نعمة فقال: الحمد للّه إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ». و أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، و القرطبي في تفسيره، عن أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد للّه، لكان الحمد أفضل من ذلك» قال القرطبي: معناه لكان إلهامه الحمد أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا، لأن ثواب الحمد لا يفنى، و نعيم الدنيا لا يبقى. و أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «ما من عبد ينعم عليه بنعمة إلا كان الحمد أفضل منها». و أخرج عبد الرزاق في المصنف نحوه عن الحسن مرفوعا. و أخرج مسلم و النسائي و أحمد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«الطهور شطر الإيمان، و الحمد للّه تملأ الميزان» الحديث. و أخرج سعيد بن منصور و أحمد و الترمذي و حسّنه و ابن مردويه، عن رجل من بني سليم؛ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «سبحان اللّه نصف الميزان، و الحمد للّه تملأ الميزان، و اللّه أكبر تملأ ما بين السماء و الأرض، و الطهور نصف الإيمان، و الصوم نصف الصبر».
و أخرج الحكيم الترمذي عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «التسبيح نصف الميزان، و الحمد للّه تملؤه، و لا إله إلا اللّه ليس لها دون اللّه حجاب حتى تخلص إليه». و أخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «التأني من اللّه، و العجلة من الشيطان، و ما شيء أكثر معاذير من اللّه، و ما شيء أحب إلى اللّه من الحمد». و أخرج ابن شاهين في السنة و الديلمي عن أبان عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«التوحيد ثمن الجنة، و الحمد ثمن كل نعمة، و يتقاسمون الجنة بأعمالهم». و أخرج أهل السنن و ابن حبان و البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد اللّه فهو أقطع».
و أخرج ابن ماجة في سننه عن ابن عمر «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حدّثهم أن عبدا من عباد اللّه قال: يا ربّ! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك، فلم يدر الملكان كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء فقالا:
يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال اللّه- و هو أعلم بما قال عبده-: ما ذا قال عبدي؟
فتح القدير، ج1، ص: 25
قالا يا ربّ إنه قال: لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك، فقال اللّه لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني و أجزيه بها». و أخرج مسلم عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها».
رَبِّ الْعالَمِينَ قال في الصحاح: الربّ اسم من أسماء اللّه تعالى، و لا يقال في غيره إلا بالإضافة، و قد قالوه في الجاهلية للملك. و قال في الكشاف: الربّ المالك. و منه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن. ثم ذكر نحو كلام الصحاح. قال القرطبي في تفسيره:
و الربّ السيد، و منه قوله تعالى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ و في الحديث «أن تلد الأمة ربّها»، و الربّ:
المصلح و الجابر و القائم قال: و الربّ: المعبود. و منه قول الشاعر:
أ ربّ يبول الثّعلبان برأسه
لقد هان «1» من بالت عليه الثّعالب
و العالمين: جمع العالم، و هو كل موجود سوى اللّه تعالى؛ قاله قتادة. و قيل أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل. و قال ابن عباس: العالمون الجنّ و الإنس. و قال الفرّاء و أبو عبيد: العالم عبارة عمن يعقل و هم أربعة أمم: الإنس، و الجن، و الملائكة، و الشياطين. و لا يقال للبهائم عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل. حكى هذه الأقوال القرطبي في تفسيره و ذكر أدلتها و قال: إن القول الأول أصحّ هذه الأقوال لأنه شامل لكل مخلوق و موجود، دليله قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا «2» و هو مأخوذ من العلم و العلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجّاج. و قال: العالم: كل ما خلقه اللّه في الدنيا و الآخرة، انتهى. و على هذا يكون جمعه على هذه الصيغة المختصة بالعقلاء تغليبا للعقلاء على غيرهم. و قال في الكشاف: ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، و هي الدلالة على معنى العلم. و قد أخرج ما تقدم من قول ابن عباس عنه الفريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه.
و أخرجه عبد بن حميد و ابن جرير عن مجاهد. و أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير. و أخرج ابن جبير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال: إله الخلق كله، السموات كلهنّ و من فيهنّ.
و الأرضون كلهنّ و من فيهنّ، و من بينهنّ مما يعلم و مما لا يعلم.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قد تقدم تفسيرهما. قال القرطبي: وصف نفسه تعالى بعد ربّ العالمين بأنه الرحمن الرحيم، لأنه لما كان في اتصافه بربّ العالمين ترهيب؛ قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه و الرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته و أمنع، كما قال تعالى:
(1). في القرطبي «ذلّ».
(2). الشعراء: 23- 24.
فتح القدير، ج1، ص: 26
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «1» . و قال: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ «2» . و في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبة ما طمع في جنته أحد، و لو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرحمة ما قنط من جنته أحد» انتهى. و قد أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال: ما وصف من خلقه، و في قوله:
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، قال: مدح نفسه.
ثم ذكر بقية الفاتحة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قرئ ملك و مالك و ملك بسكون اللام، و ملك بصيغة الفعل.
و قد اختلف العلماء أيّهما أبلغ ملك أو مالك؟ فقيل إن ملك أعمّ و أبلغ من مالك، إذ كل ملك مالك، و ليس كل مالك ملكا، و لأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا بتدبير الملك، قاله أبو عبيد و المبرّد و رجّحه الزمخشري. و قيل مالك أبلغ لأنه يكون مالكا للناس و غيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا و أعظم.
و قال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك. و ملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، و إذا كان اللّه تعالى مالكا كان ملكا. و اختار هذا القاضي أبو بكر بن العربي.
و الحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر؛ فالمالك يقدر على ما يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع و الهبة و العتق و نحوها، و الملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك و حياطته و رعاية مصالح الرعية؛ فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور، و الملك أقوى من المالك في بعض الأمور. و الفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الربّ سبحانه أن الملك صفة لذاته، و المالك صفة لفعله. و يوم الدين: يوم الجزاء من الرب سبحانه لعباده كما قال: وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ- ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ- يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «3» و هذه الإضافة إلى الظرف على طريق الاتساع، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار؛ و يوم الدين و إن كان متأخرا فقد يضاف اسم الفاعل و ما في معناه إلى المستقبل، كقولك: هذا ضارب زيدا غدا. و قد أخرج الترمذي عن أمّ سلمة أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ ملك بغير ألف. و أخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس. و أخرج أحمد و الترمذي عن أنس أيضا أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر و عثمان كانوا يقرءون مالك بالألف. و أخرج نحوه سعيد بن منصور عن ابن عمر مرفوعا. و أخرج نحوه أيضا وكيع في تفسيره و عبد بن حميد و أبو داود عن الزهري يرفعه مرسلا. و أخرجه أيضا عبد الرزاق في تفسيره و عبد بن حميد و أبو داود عن ابن المسيب مرفوعا مرسلا. و قد روي هذا من طرق كثيرة، فهو أرجح من الأول. و أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ مالك يوم الدين، و كذا رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعا. و أخرج ابن جرير و الحاكم و صحّحه عن ابن مسعود و ناس من الصحابة أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب. و كذا رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة قال: يوم الدين: يوم يدين اللّه العباد بأعمالهم.
(1). الحجر: 49- 50.
(2). غافر: 3.