کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج1، ص: 22
عن ابن عباس: أن عثمان بن عفان سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم عن بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال: «هو اسم من أسماء اللّه، و ما بينه و بين اسم اللّه الأكبر إلّا كما بين سواد العين و بياضها من القرب». و أخرج ابن جرير و ابن عديّ في الكامل و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية و ابن عساكر في تاريخ دمشق، و الثعلبي بسند ضعيف جدا، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب لتعلّمه، فقال له المعلم: اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال له عيسى: و ما بسم اللّه الرحمن الرحيم؟ قال المعلم:
لا أدري، فقال له عيسى: الباء بهاء اللّه، و السين سناه، و الميم مملكته، و اللّه إله الآلهة، و الرحمن رحمن الدنيا و الآخرة، و الرحيم رحيم الآخرة» و في إسناده إسماعيل بن يحيى و هو كذّاب. و قد أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات. و أخرج ابن مردويه و الثعلبي عن جابر قال: لما نزلت بسم اللّه الرحمن الرحيم:
هرب الغيم إلى المشرق، و سكنت الريح، و هاج البحر، و أصغت البهائم بآذانها، و رجمت الشياطين من السماء، و حلف اللّه بعزّته و جلاله أن لا تسمّى على شيء إلّا بارك فيه. و أخرج أبو نعيم و الديلمي عن عائشة قالت: لما نزلت بسم اللّه الرحمن الرحيم، ضجّت الجبال حتى سمع أهل مكة دويها، فقالوا: سحر محمد الجبال، فبعث اللّه دخانا حتى أظلّ على أهل مكة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم موقنا سبحت معه الجبال إلّا أنه لا يسمع ذلك منها». و أخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«من قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم كتب اللّه له بكل حرف أربعة آلاف حسنة، و محا عنه أربعة آلاف سيئة، و رفع له أربعة آلاف درجة». و أخرج الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «بسم اللّه الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب». و هذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها و الكلام عليها بما يتبيّن بعد البحث إن شاء اللّه. و قد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بيّنها الشارع منها: عند الوضوء، و عند الذبيحة، و عند الأكل، و عند الجماع، و غير ذلك.
فتح القدير، ج1، ص: 23
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، و بقيد الاختياري فارق المدح، فإنه يكون على الجميل و إن لم يكن الممدوح مختارا، كمدح الرجل على جماله و قوّته و شجاعته. و قال صاحب الكشاف: إنهما أخوان. و الحمد أخصّ من الشكر موردا و أعمّ منه متعلقا. فمورد الحمد اللسان فقط، و متعلقه النعمة و غيرها. و مورد الشكر اللسان و الجنان و الأركان، و متعلقه النعمة. و قيل إن مورد الحمد كمورد الشكر، لأن كل ثناء باللسان لا يكون من صميم القلب مع موافقة الجوارح ليس بحمد بل سخرية و استهزاء. و أجيب بأن اعتبار موافقة القلب و الجوارح في الحمد لا يستلزم أن يكون موردا له بل شرطا- و فرق بين الشرط و الشطر- و تعريفه: لاستغراق أفراد الحمد و أنها مختصة بالرّبّ سبحانه على معنى أن حمد غيره لا اعتداد به، لأن المنعم هو اللّه عزّ و جلّ، أو على أن حمده هو الفرد الكامل فيكون الحصر ادّعائيا.
و رجّح صاحب الكشاف أن التعريف هنا هو تعريف الجنس لا الاستغراق، و الصواب ما ذكرناه. و قد جاء في الحديث «اللهمّ لك الحمد كله» و هو مرتفع بالابتداء و خبره الظرف و هو للّه. و أصله النصب على المصدرية بإضمار فعله كسائر المصادر التي تنصبها العرب، فعدل عنه إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام و الثبات المستفاد من الجمل الاسمية دون الحدوث و التجدد اللذين تفيدهما الجمل الفعلية، و اللام الداخلة على الاسم الشريف هي لام الاختصاص. قال ابن جرير: الحمد ثناء أثنى به على نفسه، و في ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا الحمد للّه؛ ثم رجّح اتحاد الحمد و الشكر مستدلا على ذلك بما حاصله: إن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد و الشكر مكان الآخر. قال ابن كثير: و فيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة و المتعدية. و الشكر لا يكون إلا على المتعدية، و يكون بالجنان و اللسان و الأركان انتهى. و لا يخفى أن المرجع في مثل هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله جماعة من العلماء المتأخرين، فإن ذلك لا يرد على ابن جرير، و لا تقوم به الحجة؛ هذا إذا لم يثبت للحمد حقيقة شرعية، فإن ثبتت وجب تقديمها. و قد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عمر: قد علمنا سبحان اللّه و لا إله إلّا اللّه، فما الحمد للّه؟ فقال عليّ: كلمة رضيها لنفسه. و روى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس أنه قال: الحمد للّه كلمة الشكر، و إذا قال العبد: الحمد للّه قال: شكرني عبدي. و روى هو و ابن جرير عن ابن عباس أيضا أنه قال: الحمد للّه هو الشكر للّه و الاستخذاء له و الإقرار له بنعمه و هدايته و ابتدائه و غير ذلك. و روى ابن جرير عن الحكم بن عمير، و كانت له صحبة قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «إذا قلت: الحمد للّه ربّ العالمين؛ فقد شكرت اللّه فزادك». و أخرج عبد الرزاق في المصنف، و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، و الخطابي في الغريب، و البيهقيّ في الأدب، و الديلميّ في
فتح القدير، ج1، ص: 24
مسند الفردوس، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: «الحمد رأس الشكر، ما شكر اللّه عبد لا يحمده». و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحلبي قال: الصلاة شكر و الصيام شكر، و كل خير تفعله شكر، و أفضل الشكر الحمد. و أخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النّواس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال: «لئن ردّها اللّه عليّ لأشكرنّ ربي فرجعت، فلما رآها قال: الحمد للّه. فانتظروا هل يحدث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم صوما أو صلاة، فظنوا أنه نسي فقالوا:
يا رسول اللّه! قد كنت قلت: لئن ردّها اللّه عليّ لأشكرنّ ربي، قال: ألم أقل الحمد للّه؟».
و قد ورد في فضل الحمد أحاديث. منها ما أخرجه أحمد و النسائي و الحاكم و صحّحه، و البخاري في الأدب المفرد عن الأسود بن سريع قال: «قلت يا رسول اللّه! ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك و تعالى؟
فقال: أما إن ربك يحبّ الحمد». و أخرج الترمذي و حسنه و النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و البيهقي عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أفضل الذكر لا إله إلّا اللّه، و أفضل الدعاء الحمد للّه». و أخرج ابن ماجة و البيهقي بسند حسن عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «ما أنعم اللّه على عبد نعمة فقال: الحمد للّه إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ». و أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، و القرطبي في تفسيره، عن أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد للّه، لكان الحمد أفضل من ذلك» قال القرطبي: معناه لكان إلهامه الحمد أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا، لأن ثواب الحمد لا يفنى، و نعيم الدنيا لا يبقى. و أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «ما من عبد ينعم عليه بنعمة إلا كان الحمد أفضل منها». و أخرج عبد الرزاق في المصنف نحوه عن الحسن مرفوعا. و أخرج مسلم و النسائي و أحمد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«الطهور شطر الإيمان، و الحمد للّه تملأ الميزان» الحديث. و أخرج سعيد بن منصور و أحمد و الترمذي و حسّنه و ابن مردويه، عن رجل من بني سليم؛ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «سبحان اللّه نصف الميزان، و الحمد للّه تملأ الميزان، و اللّه أكبر تملأ ما بين السماء و الأرض، و الطهور نصف الإيمان، و الصوم نصف الصبر».
و أخرج الحكيم الترمذي عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «التسبيح نصف الميزان، و الحمد للّه تملؤه، و لا إله إلا اللّه ليس لها دون اللّه حجاب حتى تخلص إليه». و أخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «التأني من اللّه، و العجلة من الشيطان، و ما شيء أكثر معاذير من اللّه، و ما شيء أحب إلى اللّه من الحمد». و أخرج ابن شاهين في السنة و الديلمي عن أبان عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«التوحيد ثمن الجنة، و الحمد ثمن كل نعمة، و يتقاسمون الجنة بأعمالهم». و أخرج أهل السنن و ابن حبان و البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد اللّه فهو أقطع».
و أخرج ابن ماجة في سننه عن ابن عمر «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حدّثهم أن عبدا من عباد اللّه قال: يا ربّ! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك، فلم يدر الملكان كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء فقالا:
يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال اللّه- و هو أعلم بما قال عبده-: ما ذا قال عبدي؟
فتح القدير، ج1، ص: 25
قالا يا ربّ إنه قال: لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك، فقال اللّه لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني و أجزيه بها». و أخرج مسلم عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها».
رَبِّ الْعالَمِينَ قال في الصحاح: الربّ اسم من أسماء اللّه تعالى، و لا يقال في غيره إلا بالإضافة، و قد قالوه في الجاهلية للملك. و قال في الكشاف: الربّ المالك. و منه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن. ثم ذكر نحو كلام الصحاح. قال القرطبي في تفسيره:
و الربّ السيد، و منه قوله تعالى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ و في الحديث «أن تلد الأمة ربّها»، و الربّ:
المصلح و الجابر و القائم قال: و الربّ: المعبود. و منه قول الشاعر:
أ ربّ يبول الثّعلبان برأسه
لقد هان «1» من بالت عليه الثّعالب
و العالمين: جمع العالم، و هو كل موجود سوى اللّه تعالى؛ قاله قتادة. و قيل أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل. و قال ابن عباس: العالمون الجنّ و الإنس. و قال الفرّاء و أبو عبيد: العالم عبارة عمن يعقل و هم أربعة أمم: الإنس، و الجن، و الملائكة، و الشياطين. و لا يقال للبهائم عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل. حكى هذه الأقوال القرطبي في تفسيره و ذكر أدلتها و قال: إن القول الأول أصحّ هذه الأقوال لأنه شامل لكل مخلوق و موجود، دليله قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا «2» و هو مأخوذ من العلم و العلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجّاج. و قال: العالم: كل ما خلقه اللّه في الدنيا و الآخرة، انتهى. و على هذا يكون جمعه على هذه الصيغة المختصة بالعقلاء تغليبا للعقلاء على غيرهم. و قال في الكشاف: ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، و هي الدلالة على معنى العلم. و قد أخرج ما تقدم من قول ابن عباس عنه الفريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه.
و أخرجه عبد بن حميد و ابن جرير عن مجاهد. و أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير. و أخرج ابن جبير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال: إله الخلق كله، السموات كلهنّ و من فيهنّ.
و الأرضون كلهنّ و من فيهنّ، و من بينهنّ مما يعلم و مما لا يعلم.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قد تقدم تفسيرهما. قال القرطبي: وصف نفسه تعالى بعد ربّ العالمين بأنه الرحمن الرحيم، لأنه لما كان في اتصافه بربّ العالمين ترهيب؛ قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه و الرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته و أمنع، كما قال تعالى:
(1). في القرطبي «ذلّ».
(2). الشعراء: 23- 24.
فتح القدير، ج1، ص: 26
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «1» . و قال: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ «2» . و في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبة ما طمع في جنته أحد، و لو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرحمة ما قنط من جنته أحد» انتهى. و قد أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال: ما وصف من خلقه، و في قوله:
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، قال: مدح نفسه.
ثم ذكر بقية الفاتحة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قرئ ملك و مالك و ملك بسكون اللام، و ملك بصيغة الفعل.
و قد اختلف العلماء أيّهما أبلغ ملك أو مالك؟ فقيل إن ملك أعمّ و أبلغ من مالك، إذ كل ملك مالك، و ليس كل مالك ملكا، و لأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا بتدبير الملك، قاله أبو عبيد و المبرّد و رجّحه الزمخشري. و قيل مالك أبلغ لأنه يكون مالكا للناس و غيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا و أعظم.
و قال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك. و ملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، و إذا كان اللّه تعالى مالكا كان ملكا. و اختار هذا القاضي أبو بكر بن العربي.
و الحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر؛ فالمالك يقدر على ما يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع و الهبة و العتق و نحوها، و الملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك و حياطته و رعاية مصالح الرعية؛ فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور، و الملك أقوى من المالك في بعض الأمور. و الفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الربّ سبحانه أن الملك صفة لذاته، و المالك صفة لفعله. و يوم الدين: يوم الجزاء من الرب سبحانه لعباده كما قال: وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ- ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ- يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «3» و هذه الإضافة إلى الظرف على طريق الاتساع، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار؛ و يوم الدين و إن كان متأخرا فقد يضاف اسم الفاعل و ما في معناه إلى المستقبل، كقولك: هذا ضارب زيدا غدا. و قد أخرج الترمذي عن أمّ سلمة أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ ملك بغير ألف. و أخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس. و أخرج أحمد و الترمذي عن أنس أيضا أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر و عثمان كانوا يقرءون مالك بالألف. و أخرج نحوه سعيد بن منصور عن ابن عمر مرفوعا. و أخرج نحوه أيضا وكيع في تفسيره و عبد بن حميد و أبو داود عن الزهري يرفعه مرسلا. و أخرجه أيضا عبد الرزاق في تفسيره و عبد بن حميد و أبو داود عن ابن المسيب مرفوعا مرسلا. و قد روي هذا من طرق كثيرة، فهو أرجح من الأول. و أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ مالك يوم الدين، و كذا رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعا. و أخرج ابن جرير و الحاكم و صحّحه عن ابن مسعود و ناس من الصحابة أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب. و كذا رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة قال: يوم الدين: يوم يدين اللّه العباد بأعمالهم.
(1). الحجر: 49- 50.
(2). غافر: 3.
(3). الانفطار: 17- 19.
فتح القدير، ج1، ص: 27
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قراءة السبعة و غيرهم بتشديد الياء، و قرأ عمرو بن فائد بتخفيفها مع الكسر؛ و قرأ الفضل و الرقاشي بفتح الهمزة؛ و قرأ أبو السوار الغنوي «هياك» في الموضعين و هي لغة مشهورة.
و الضمير المنفصل هو «إيا» و ما يلحقه من الكاف و الهاء و الياء هي حروف لبيان الخطاب و الغيبة و التكلم، و لا محل لها من الإعراب كما ذهب إليه الجمهور، و تقديمه على الفعل لقصد الاختصاص، و قيل للاهتمام، و الصواب أنه لهما و لا تزاحم بين المقتضيات. و المعنى: نخصّك بالعبادة و نخصّك بالاستعانة، لا نعبد غيرك و لا نستعينه، و العبادة أقصى غايات الخضوع و التذلّل. قال ابن كثير: و في الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة و الخضوع و الخوف، و عدل عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الالتفات، لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تطرية لنشاط السامع، و أكثر إيقاظا له كما تقرر في علم المعاني. و المجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه و عن جنسه من العباد، و قيل: إن المقام لمّا كان عظيما لم يستقلّ به الواحد استقصارا لنفسه و استصغارا لها، فالمجيء بالنون لقصد التواضع لا لتعظيم النفس؛ و قدمت العبادة على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية، و تقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب، و إطلاق الاستعانة لقصد التعميم.
و قد أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: إياك نعبد: يعني إياك نوحد و نخاف يا ربنا لا غيرك، و إياك نستعين على طاعتك و على أمورنا كلها. و حكى ابن كثير عن قتادة أنه قال في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : يأمركم أن تخلصوا له العبادة و أن تستعينوه على أمركم. و في صحيح مسلم من حديث المعلّى ابن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «يقول اللّه تعالى: قسمت الصّلاة بيني و بين عبدي نصفين، فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل، إذا قال العبد: الحمد للّه رب العالمين قال: حمدني عبدي، و إذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجّدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد و إياك نستعين، قال: هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضّالّين، قال: هذا لعبدي، و لعبدي ما سأل». و أخرج أبو القاسم البغوي و الماوردي معا في معرفة الصحابة و الطبراني في الأوسط و أبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في غزاة فلقي العدوّ فسمعته يقول: «يا مالك يوم الدين إياك نعبد و إياك نستعين» قال: فلقد رأيت الرجال تصرع فتضربها الملائكة من بين يديها و من خلفها.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قرأه الجمهور بالصاد، و قرئ «السراط» بالسين، و «الزراط» بالزاي، و الهداية قد يتعدى فعلها بنفسه كما هنا، و كقوله: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» ، و قد يتعدى بإلى كقوله: اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2» فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «3» وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «4» و قد يتعدّى باللام كقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «5» إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «6» ، قال الزمخشري: أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى انتهى. و هي الإرشاد أو التوفيق أو الإلهام أو الدلالة. و فرّق كثير من المتأخرين بين معنى المتعدي بنفسه و غير المتعدي فقالوا: معنى الأوّل الدلالة، و الثاني
(1). البلد: 10.
(2). النحل: 121.
(3). الصافات: 23.
(4). الشورى: 52.
(5). الأعراف: 43.
(6). الإسراء: 9.
فتح القدير، ج1، ص: 28
الإيصال. و طلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «1» وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «2» . و الصراط: قال ابن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، و هو كذلك في لغة جميع العرب. قال:
ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم باستقامته و المعوجّ باعوجاجه. و قد أخرج الحاكم و صحّحه و تعقبه الذهبي، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قرأ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالصاد. و أخرج سعيد ابن منصور و عبد بن حميد و البخاري في تاريخه، عن ابن عباس أنه قرأ الصراط بالسين. و أخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ السراط بالسين. و أخرج أيضا عن حمزة أنه كان يقرأ الزراط بالزاي. قال الفرّاء:
و هي لغة لعذرة و كلب و بني القين. و أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يقول: ألهمنا دينك الحق. و أخرج ابن جرير عنه و ابن المنذر نحوه. و أخرج وكيع و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه عن جابر بن عبد اللّه أنه قال: هو دين الإسلام و هو أوسع مما بين السماء و الأرض.
و أخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس. و أخرج نحوه أيضا عن ابن مسعود و ناس من الصحابة. و أخرج أحمد و الترمذي و حسّنه، و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ و الحاكم و صحّحه، و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان، عن النّواس بن سمعان، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «ضرب اللّه مثلا صراطا مستقيما، و على جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، و على الأبواب ستور مرخاة، و على باب الصراط داع يقول:
يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا و لا تفرّقوا، و داع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: و يحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط: الإسلام، و السوران: حدود اللّه، و الأبواب المفتحة: محارم اللّه، و ذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب اللّه، و الداعي من فوق:
واعظ اللّه تعالى في قلب كل مسلم». قال ابن كثير بعد إخراجه: و هو إسناد حسن صحيح. و أخرج وكيع و عبد بن حميد و ابن المنذر و أبو بكر الأنباري و الحاكم و صحّحه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أنه قال «هو كتاب اللّه». و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن عدي و ابن عساكر عن أبي العالية قال: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و صاحباه من بعده. و أخرج الحاكم و صححه عن أبي العالية عن ابن عباس مثله. و روى القرطبي عن الفضيل بن عياض أنه قال: الصراط المستقيم طريق الحج، قال: و هذا خاص و العموم أولى انتهى. و جميع ما روي في تفسير هذه الآية ما عدا هذا المروي عن الفضيل يصدق بعضه على بعض، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبيّ قد اتبع الحق. و قد ذكر ابن جرير نحو هذا فقال و الذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنيا به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته، و وفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول و عمل، و ذلك هو الصراط المستقيم، لأن من وفق إليه ممن أنعم اللّه عليه من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين فقد وفق للإسلام و تصديق الرسل، و التمسك بالكتاب، و العمل بما أمره اللّه به و الانزجار عما زجره عنه، و اتباع منهاج النبي صلّى اللّه عليه و سلم و منهاج الخلفاء الأربعة و كل عبد صالح، و كل ذلك من الصراط المستقيم. انتهى.
(1). محمد: 17.