کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج1، ص: 26
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «1» . و قال: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ «2» . و في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبة ما طمع في جنته أحد، و لو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرحمة ما قنط من جنته أحد» انتهى. و قد أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال: ما وصف من خلقه، و في قوله:
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، قال: مدح نفسه.
ثم ذكر بقية الفاتحة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قرئ ملك و مالك و ملك بسكون اللام، و ملك بصيغة الفعل.
و قد اختلف العلماء أيّهما أبلغ ملك أو مالك؟ فقيل إن ملك أعمّ و أبلغ من مالك، إذ كل ملك مالك، و ليس كل مالك ملكا، و لأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا بتدبير الملك، قاله أبو عبيد و المبرّد و رجّحه الزمخشري. و قيل مالك أبلغ لأنه يكون مالكا للناس و غيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا و أعظم.
و قال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك. و ملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، و إذا كان اللّه تعالى مالكا كان ملكا. و اختار هذا القاضي أبو بكر بن العربي.
و الحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر؛ فالمالك يقدر على ما يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع و الهبة و العتق و نحوها، و الملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك و حياطته و رعاية مصالح الرعية؛ فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور، و الملك أقوى من المالك في بعض الأمور. و الفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الربّ سبحانه أن الملك صفة لذاته، و المالك صفة لفعله. و يوم الدين: يوم الجزاء من الرب سبحانه لعباده كما قال: وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ- ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ- يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «3» و هذه الإضافة إلى الظرف على طريق الاتساع، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار؛ و يوم الدين و إن كان متأخرا فقد يضاف اسم الفاعل و ما في معناه إلى المستقبل، كقولك: هذا ضارب زيدا غدا. و قد أخرج الترمذي عن أمّ سلمة أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ ملك بغير ألف. و أخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس. و أخرج أحمد و الترمذي عن أنس أيضا أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر و عثمان كانوا يقرءون مالك بالألف. و أخرج نحوه سعيد بن منصور عن ابن عمر مرفوعا. و أخرج نحوه أيضا وكيع في تفسيره و عبد بن حميد و أبو داود عن الزهري يرفعه مرسلا. و أخرجه أيضا عبد الرزاق في تفسيره و عبد بن حميد و أبو داود عن ابن المسيب مرفوعا مرسلا. و قد روي هذا من طرق كثيرة، فهو أرجح من الأول. و أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ مالك يوم الدين، و كذا رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعا. و أخرج ابن جرير و الحاكم و صحّحه عن ابن مسعود و ناس من الصحابة أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب. و كذا رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة قال: يوم الدين: يوم يدين اللّه العباد بأعمالهم.
(1). الحجر: 49- 50.
(2). غافر: 3.
(3). الانفطار: 17- 19.
فتح القدير، ج1، ص: 27
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قراءة السبعة و غيرهم بتشديد الياء، و قرأ عمرو بن فائد بتخفيفها مع الكسر؛ و قرأ الفضل و الرقاشي بفتح الهمزة؛ و قرأ أبو السوار الغنوي «هياك» في الموضعين و هي لغة مشهورة.
و الضمير المنفصل هو «إيا» و ما يلحقه من الكاف و الهاء و الياء هي حروف لبيان الخطاب و الغيبة و التكلم، و لا محل لها من الإعراب كما ذهب إليه الجمهور، و تقديمه على الفعل لقصد الاختصاص، و قيل للاهتمام، و الصواب أنه لهما و لا تزاحم بين المقتضيات. و المعنى: نخصّك بالعبادة و نخصّك بالاستعانة، لا نعبد غيرك و لا نستعينه، و العبادة أقصى غايات الخضوع و التذلّل. قال ابن كثير: و في الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة و الخضوع و الخوف، و عدل عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الالتفات، لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تطرية لنشاط السامع، و أكثر إيقاظا له كما تقرر في علم المعاني. و المجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه و عن جنسه من العباد، و قيل: إن المقام لمّا كان عظيما لم يستقلّ به الواحد استقصارا لنفسه و استصغارا لها، فالمجيء بالنون لقصد التواضع لا لتعظيم النفس؛ و قدمت العبادة على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية، و تقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب، و إطلاق الاستعانة لقصد التعميم.
و قد أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: إياك نعبد: يعني إياك نوحد و نخاف يا ربنا لا غيرك، و إياك نستعين على طاعتك و على أمورنا كلها. و حكى ابن كثير عن قتادة أنه قال في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : يأمركم أن تخلصوا له العبادة و أن تستعينوه على أمركم. و في صحيح مسلم من حديث المعلّى ابن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «يقول اللّه تعالى: قسمت الصّلاة بيني و بين عبدي نصفين، فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل، إذا قال العبد: الحمد للّه رب العالمين قال: حمدني عبدي، و إذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجّدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد و إياك نستعين، قال: هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضّالّين، قال: هذا لعبدي، و لعبدي ما سأل». و أخرج أبو القاسم البغوي و الماوردي معا في معرفة الصحابة و الطبراني في الأوسط و أبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في غزاة فلقي العدوّ فسمعته يقول: «يا مالك يوم الدين إياك نعبد و إياك نستعين» قال: فلقد رأيت الرجال تصرع فتضربها الملائكة من بين يديها و من خلفها.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قرأه الجمهور بالصاد، و قرئ «السراط» بالسين، و «الزراط» بالزاي، و الهداية قد يتعدى فعلها بنفسه كما هنا، و كقوله: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» ، و قد يتعدى بإلى كقوله: اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2» فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «3» وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «4» و قد يتعدّى باللام كقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «5» إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «6» ، قال الزمخشري: أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى انتهى. و هي الإرشاد أو التوفيق أو الإلهام أو الدلالة. و فرّق كثير من المتأخرين بين معنى المتعدي بنفسه و غير المتعدي فقالوا: معنى الأوّل الدلالة، و الثاني
(1). البلد: 10.
(2). النحل: 121.
(3). الصافات: 23.
(4). الشورى: 52.
(5). الأعراف: 43.
(6). الإسراء: 9.
فتح القدير، ج1، ص: 28
الإيصال. و طلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «1» وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «2» . و الصراط: قال ابن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، و هو كذلك في لغة جميع العرب. قال:
ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم باستقامته و المعوجّ باعوجاجه. و قد أخرج الحاكم و صحّحه و تعقبه الذهبي، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قرأ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالصاد. و أخرج سعيد ابن منصور و عبد بن حميد و البخاري في تاريخه، عن ابن عباس أنه قرأ الصراط بالسين. و أخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ السراط بالسين. و أخرج أيضا عن حمزة أنه كان يقرأ الزراط بالزاي. قال الفرّاء:
و هي لغة لعذرة و كلب و بني القين. و أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يقول: ألهمنا دينك الحق. و أخرج ابن جرير عنه و ابن المنذر نحوه. و أخرج وكيع و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه عن جابر بن عبد اللّه أنه قال: هو دين الإسلام و هو أوسع مما بين السماء و الأرض.
و أخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس. و أخرج نحوه أيضا عن ابن مسعود و ناس من الصحابة. و أخرج أحمد و الترمذي و حسّنه، و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ و الحاكم و صحّحه، و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان، عن النّواس بن سمعان، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «ضرب اللّه مثلا صراطا مستقيما، و على جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، و على الأبواب ستور مرخاة، و على باب الصراط داع يقول:
يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا و لا تفرّقوا، و داع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: و يحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط: الإسلام، و السوران: حدود اللّه، و الأبواب المفتحة: محارم اللّه، و ذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب اللّه، و الداعي من فوق:
واعظ اللّه تعالى في قلب كل مسلم». قال ابن كثير بعد إخراجه: و هو إسناد حسن صحيح. و أخرج وكيع و عبد بن حميد و ابن المنذر و أبو بكر الأنباري و الحاكم و صحّحه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أنه قال «هو كتاب اللّه». و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن عدي و ابن عساكر عن أبي العالية قال: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و صاحباه من بعده. و أخرج الحاكم و صححه عن أبي العالية عن ابن عباس مثله. و روى القرطبي عن الفضيل بن عياض أنه قال: الصراط المستقيم طريق الحج، قال: و هذا خاص و العموم أولى انتهى. و جميع ما روي في تفسير هذه الآية ما عدا هذا المروي عن الفضيل يصدق بعضه على بعض، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبيّ قد اتبع الحق. و قد ذكر ابن جرير نحو هذا فقال و الذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنيا به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته، و وفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول و عمل، و ذلك هو الصراط المستقيم، لأن من وفق إليه ممن أنعم اللّه عليه من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين فقد وفق للإسلام و تصديق الرسل، و التمسك بالكتاب، و العمل بما أمره اللّه به و الانزجار عما زجره عنه، و اتباع منهاج النبي صلّى اللّه عليه و سلم و منهاج الخلفاء الأربعة و كل عبد صالح، و كل ذلك من الصراط المستقيم. انتهى.
(1). محمد: 17.
(2). العنكبوت: 69.
فتح القدير، ج1، ص: 29
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ انتصب صراط على أنه بدل من الأوّل، و فائدته التوكيد لما فيه من التثنية و التكرير، و يجوز أن يكون عطف بيان، و فائدته الإيضاح، و الذين أنعم اللّه عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً «1» و أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام؛ و غير المغضوب عليهم بدل من الذين أنعمت عليهم، على معنى:
أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب اللّه و الضلال، أو صفة له على معنى: أنهم جمعوا بين النعمتين نعمة الإيمان و السلامة من ذلك، و صحّ جعله صفة للمعرفة مع كون غير لا تتعرف بالإضافة إلى المعارف لما فيها من الإبهام، لأنها هنا غير مبهمة لاشتهار المغايرة بين الجنسين. و الغضب في اللغة قال القرطبي: الشدة، و رجل غضوب: أي شديد الخلق، و الغضوب: الحيّة الخبيثة لشدتها. قال: و معنى الغضب في صفة اللّه:
إرادة العقوبة فهو صفة ذاته، أو نفس العقوبة، و منه الحديث «إن الصدقة لتطفئ غضب الربّ» فهو صفة فعله. قال في الكشاف: هو إرادة الانتقام من العصاة و إنزال العقوبة بهم، و أن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده؛ و الفرق بين عليهم الأولى و عليهم الثانية، أن الأولى في محل نصب على المفعولية، و الثانية في محل رفع على النيابة عن الفاعل. و «لا» في قوله و لا الضّالّين تأكيد النفي المفهوم من غير؛ و الضّلال في لسان العرب قال القرطبي: هو الذهاب عن سنن القصد و طريق الحق، و منه ضلّ اللبن في الماء: أي غاب، و منه أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «2» أي غبنا بالموت و صرنا ترابا. و أخرج وكيع و أبو عبيد و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان يقرأ «صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و غير الضّالّين» و أخرج أبو عبيد و عبد بن حميد أن عبد اللّه بن الزبير قرأ كذلك. و أخرج ابن الأنباري، عن الحسن أنه كان يقرأ «عليهمي» بكسر الهاء و الميم و إثبات الياء. و أخرج ابن الأنباري عن الأعرج أنه كان يقرأ «عليهمو» بضم الهاء و الميم و إلحاق الواو. و أخرج أيضا عن ابن كثير أنه كان يقرأ «عليهمو» بكسر الهاء و ضم الميم مع إلحاق الواو. و أخرج أيضا عن أبي إسحاق أنه قرأ «عليهم» بضم الهاء و الميم من غير إلحاق واو. و أخرج ابن أبي داود عن عكرمة و الأسود أنهما كانا يقرءان كقراءة عمر السابقة. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يقول: طريق من أنعمت عليهم من الملائكة و النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين الذين أطاعوك و عبدوك. و أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنهم المؤمنون. و أخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قال: النبيون.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: اليهود. وَ لَا الضَّالِّينَ قال: النصارى. و أخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. و أخرج أيضا عن سعيد بن جبير مثله. و أخرج عبد الرزاق و أحمد في مسنده و عبد بن حميد و ابن جرير و البغوي و ابن المنذر و أبو الشيخ عن عبد اللّه بن شقيق قال: «أخبرني من سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو بوادي القرى على فرس له، و سأله رجل من بني القين فقال: من المغضوب عليهم يا رسول اللّه؟ قال:
اليهود، قال: فمن الضّالون؟ قال: النصارى». و أخرجه ابن مردويه عن عبد اللّه بن شقيق عن أبي ذرّ
(1). النساء: 69- 70.
(2). السجدة: 10.
فتح القدير، ج1، ص: 30
قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فذكره. و أخرجه وكيع و عبد بن حميد و ابن جرير عن عبد اللّه بن شقيق قال:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يحاصر أهل وادي القرى فقال له رجل .. إلى آخره، و لم يذكر فيه أخبرني من سمع النبي صلّى اللّه عليه و سلم كالأوّل. و أخرجه البيهقي في الشعب عن عبد اللّه بن شقيق عن رجل من بني القين عن ابن عم له أنه قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فذكره. و أخرجه سفيان بن عيينة في تفسيره، و سعيد بن المنصور عن إسماعيل بن أبي خالد أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «المغضوب عليهم: اليهود، و الضّالون: النصارى». و أخرجه أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و حسّنه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان في صحيحه عن عدي ابن حاتم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن المغضوب عليهم هم اليهود، و إن الضالين: النصارى». و أخرج أحمد و أبو داود و ابن حبان و الحاكم و صحّحه و الطبراني عن الشريد قال: «مرّ بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أنا جالس هكذا، و قد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري و اتكأت على ألية يدي فقال: أ تقعد قعدة المغضوب عليهم؟!» قال ابن كثير بعد ذكره لحديث عديّ بن حاتم: و قد روي حديث عديّ هذا من طرق، و له ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. انتهى. و المصير إلى هذا التفسير النبويّ متعين، و هو الذي أطبق عليه أئمة التفسير من السلف. قال ابن أبي حاتم: لا أعلم خلافا بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود، و الضّالين بالنصارى. و يشهد لهذا التفسير النبويّ آيات من القرآن، قال اللّه تعالى في خطابه لبني إسرائيل في سورة البقرة بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ «1» و قال في المائدة قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ «2» و في السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل؛ أنه لما خرج هو و جماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قال اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب اللّه، فقال:
أنا من غضب اللّه أفرّ، و قالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط اللّه، فقال: لا أستطيعه، فاستمرّ على فطرته و جانب عبادة الأوثان.
[فائدة في مشروعية التأمين بعد قراءة الفاتحة] اعلم أن السنة الصحيحة الصريحة الثابتة تواترا، قد دلت على ذلك، فمن ذلك ما أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذي عن وائل بن حجر قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قرأ: غير المغضوب عليهم و لا الضّالّين. فقال: آمين. مدّ بها صوته» و لأبي داود «رفع بها صوته» و قد حسّنه الترمذي. و أخرجه أيضا النسائي و ابن أبي شيبة و ابن ماجة و الحاكم و صحّحه، و في لفظ من حديثه أنه صلّى اللّه عليه و سلم قال «ربّ اغفر لي آمين» أخرجه الطبراني و البيهقي. و في لفظ أنه قال: «آمين ثلاث مرات» أخرجه الطبراني. و أخرج وكيع و ابن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال: «لما أقرأ جبريل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فاتحة الكتاب فبلغ و لا الضّالّين قال: قل آمين، فقال آمين». و أخرج ابن ماجة عن عليّ قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا قال و لا الضّالّين قال آمين». و أخرج مسلم و أبو داود و النسائيّ و ابن ماجة عن أبي موسى قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إذا قرأ» يعني الإمام «غير المغضوب عليهم و لا الضّالّين، فقولوا: آمين يحبّكم اللّه».
(1). البقرة: 90.
(2). المائدة: 60.
فتح القدير، ج1، ص: 31
و أخرج البخاري و مسلم و أهل السنن و أحمد و ابن أبي شيبة و غيرهم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه». و أخرج أحمد و ابن ماجة و البيهقي بسند قال السيوطي: صحيح عن عائشة أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السّلام و التأمين». و أخرج ابن عديّ من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«إنّ اليهود قوم حسد، حسدوكم على ثلاثة: إفشاء السّلام، و إقامة الصّف، و آمين». و أخرج الطبراني في الأوسط من حديث معاذ مثله. و أخرج ابن ماجة بسند ضعيف عن ابن عباس قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين». و وجه ضعفه: أن في إسناده طلحة بن عمرو و هو ضعيف. و أخرج الديلمي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، ثم قرأ فاتحة الكتاب، ثم قال آمين، لم يبق ملك في السّماء مقرّب إلّا استغفر له». و أخرج أبو داود عن بلال أنه قال: «يا رسول اللّه! لا تسبقني بآمين» و معنى آمين: استجب. قال القرطبي في تفسيره: معنى آمين عند أكثر أهل العلم: اللّهم استجب لنا، وضع موضع الدعاء. و قال في الصحاح معنى آمين: كذلك فليكن. و أخرج جويبر في تفسيره عن الضّحاك عن ابن عباس قال: «قلت يا رسول اللّه! ما معنى آمين؟
قال: ربّ افعل». و أخرج الكلبي عن أبي صالح عن أبي عباس مثله. و أخرج وكيع و ابن أبي شيبة في المصنف عن هلال بن يساف و مجاهد قالا: آمين اسم من أسماء اللّه. و أخرج ابن أبي شيبة عن حكيم بن جبير مثله.
و قال الترمذي: معناه لا تخيّب رجاءنا. و فيه لغتان، المد على وزن فاعيل كياسين. و القصر على وزن يمين، قال الشاعر في المدّ:
يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا
و يرحم اللّه عبدا قال آمينا
و قال آخر:
آمين آمين لا أرضى بواحدة
حتّى أبلّغها ألفين آمينا
قال الجوهري: و تشديد الميم خطأ. و روي عن الحسن و جعفر الصادق و الحسين بن فضل التشديد، من أمّ إذا قصد: أي نحن قاصدون نحوك، حكى ذلك القرطبي. قال الجوهري: و هو مبني على الفتح مثل أين و كيف لاجتماع الساكنين، و تقول منه: أمّن فلان تأمينا. و قد اختلف أهل العلم في الجهر بها، و في أن الإمام يقولها أم لا؟ و ذلك مبيّن في مواطنه.
فتح القدير، ج1، ص: 32
سورة البقرة
ترتيبها 2 آياتها 286 قال القرطبي في تفسير سورة البقرة: مدنية نزلت في مدد شتى. و قيل هي أوّل سورة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «1» فإنها آخر آية نزلت من السماء، و نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، و آيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن انتهى. و أخرج أبو الضريس في فضائله، و أبو جعفر النّحاس في الناسخ و المنسوخ، و ابن مردويه و البيهقي في دلائل النبوة، من طرق عن ابن عباس قال:
نزلت بالمدينة سورة البقرة. و أخرج ابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير مثله. و أخرج أبو داود في الناسخ و المنسوخ، عن عكرمة قال: أوّل سورة أنزلت بالمدينة سورة البقرة.
و قد ورد في فضلها أحاديث، منها: ما أخرجه مسلم و الترمذي و أحمد و البخاري في تاريخه، و محمد بن نصر، عن النّواس بن سمعان قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «يؤتى بالقرآن و أهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة و آل عمران» قال: و ضرب لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: «كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما ظلتان سوداوان، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ، تحاجّان عن صاحبهما». و أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الدارمي و محمد بن نصر و الحاكم و صحّحه عن بريدة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «تعلّموا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا يستطيعها البطلة»، ثم سكت ساعة ثم قال: «تعلّموا سورة البقرة و آل عمران فإنهما الزهراوان تظلّان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صوافّ». قال ابن كثير: و إسناده حسن على شرط مسلم. و أخرج نحوه أبو عبيد و أحمد و حميد بن زنجويه و مسلم و ابن حبان و الطبراني و الحاكم و البيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعا. و أخرج نحوه أيضا الطبراني و أبو ذرّ الهروي بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا.
و أخرج نحوه أيضا البزار في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعا. و أخرج مسلم و الترمذي و أحمد عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة». و أخرج أبو عبيد عن أنس نحوه مرفوعا. و أخرج ابن عديّ في الكامل، و ابن عساكر في تاريخه، عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه. و أخرج الطبراني بسند ضعيف عن عبد اللّه بن مغفّل مرفوعا نحوه.
و أخرج النسائيّ و الطبراني و البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا نحوه، و سنده ضعيف. و أخرجه الدارمي و البيهقي و الحاكم و صحّحه من حديثه بنحوه. و أخرج أبو يعلى و ابن حبان و الطبراني و البيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن لكل شيء سناما، و سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام، و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال». و أخرج أحمد و محمد ابن نصر و الطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «البقرة سنام القرآن و ذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا و استخرجت- اللّه لا إله إلّا هو الحي القيوم- من تحت العرش فوصلت