کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج1، ص: 31
و أخرج البخاري و مسلم و أهل السنن و أحمد و ابن أبي شيبة و غيرهم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه». و أخرج أحمد و ابن ماجة و البيهقي بسند قال السيوطي: صحيح عن عائشة أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السّلام و التأمين». و أخرج ابن عديّ من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«إنّ اليهود قوم حسد، حسدوكم على ثلاثة: إفشاء السّلام، و إقامة الصّف، و آمين». و أخرج الطبراني في الأوسط من حديث معاذ مثله. و أخرج ابن ماجة بسند ضعيف عن ابن عباس قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين». و وجه ضعفه: أن في إسناده طلحة بن عمرو و هو ضعيف. و أخرج الديلمي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، ثم قرأ فاتحة الكتاب، ثم قال آمين، لم يبق ملك في السّماء مقرّب إلّا استغفر له». و أخرج أبو داود عن بلال أنه قال: «يا رسول اللّه! لا تسبقني بآمين» و معنى آمين: استجب. قال القرطبي في تفسيره: معنى آمين عند أكثر أهل العلم: اللّهم استجب لنا، وضع موضع الدعاء. و قال في الصحاح معنى آمين: كذلك فليكن. و أخرج جويبر في تفسيره عن الضّحاك عن ابن عباس قال: «قلت يا رسول اللّه! ما معنى آمين؟
قال: ربّ افعل». و أخرج الكلبي عن أبي صالح عن أبي عباس مثله. و أخرج وكيع و ابن أبي شيبة في المصنف عن هلال بن يساف و مجاهد قالا: آمين اسم من أسماء اللّه. و أخرج ابن أبي شيبة عن حكيم بن جبير مثله.
و قال الترمذي: معناه لا تخيّب رجاءنا. و فيه لغتان، المد على وزن فاعيل كياسين. و القصر على وزن يمين، قال الشاعر في المدّ:
يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا
و يرحم اللّه عبدا قال آمينا
و قال آخر:
آمين آمين لا أرضى بواحدة
حتّى أبلّغها ألفين آمينا
قال الجوهري: و تشديد الميم خطأ. و روي عن الحسن و جعفر الصادق و الحسين بن فضل التشديد، من أمّ إذا قصد: أي نحن قاصدون نحوك، حكى ذلك القرطبي. قال الجوهري: و هو مبني على الفتح مثل أين و كيف لاجتماع الساكنين، و تقول منه: أمّن فلان تأمينا. و قد اختلف أهل العلم في الجهر بها، و في أن الإمام يقولها أم لا؟ و ذلك مبيّن في مواطنه.
فتح القدير، ج1، ص: 32
سورة البقرة
ترتيبها 2 آياتها 286 قال القرطبي في تفسير سورة البقرة: مدنية نزلت في مدد شتى. و قيل هي أوّل سورة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «1» فإنها آخر آية نزلت من السماء، و نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، و آيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن انتهى. و أخرج أبو الضريس في فضائله، و أبو جعفر النّحاس في الناسخ و المنسوخ، و ابن مردويه و البيهقي في دلائل النبوة، من طرق عن ابن عباس قال:
نزلت بالمدينة سورة البقرة. و أخرج ابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير مثله. و أخرج أبو داود في الناسخ و المنسوخ، عن عكرمة قال: أوّل سورة أنزلت بالمدينة سورة البقرة.
و قد ورد في فضلها أحاديث، منها: ما أخرجه مسلم و الترمذي و أحمد و البخاري في تاريخه، و محمد بن نصر، عن النّواس بن سمعان قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «يؤتى بالقرآن و أهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة و آل عمران» قال: و ضرب لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: «كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما ظلتان سوداوان، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ، تحاجّان عن صاحبهما». و أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الدارمي و محمد بن نصر و الحاكم و صحّحه عن بريدة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «تعلّموا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا يستطيعها البطلة»، ثم سكت ساعة ثم قال: «تعلّموا سورة البقرة و آل عمران فإنهما الزهراوان تظلّان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صوافّ». قال ابن كثير: و إسناده حسن على شرط مسلم. و أخرج نحوه أبو عبيد و أحمد و حميد بن زنجويه و مسلم و ابن حبان و الطبراني و الحاكم و البيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعا. و أخرج نحوه أيضا الطبراني و أبو ذرّ الهروي بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا.
و أخرج نحوه أيضا البزار في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعا. و أخرج مسلم و الترمذي و أحمد عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة». و أخرج أبو عبيد عن أنس نحوه مرفوعا. و أخرج ابن عديّ في الكامل، و ابن عساكر في تاريخه، عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه. و أخرج الطبراني بسند ضعيف عن عبد اللّه بن مغفّل مرفوعا نحوه.
و أخرج النسائيّ و الطبراني و البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا نحوه، و سنده ضعيف. و أخرجه الدارمي و البيهقي و الحاكم و صحّحه من حديثه بنحوه. و أخرج أبو يعلى و ابن حبان و الطبراني و البيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن لكل شيء سناما، و سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام، و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال». و أخرج أحمد و محمد ابن نصر و الطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «البقرة سنام القرآن و ذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا و استخرجت- اللّه لا إله إلّا هو الحي القيوم- من تحت العرش فوصلت
(1). البقرة: 281.
فتح القدير، ج1، ص: 33
بها». و أخرج البغوي في معجم الصحابة و ابن عساكر في تاريخه عن ربيعة الجرشي قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أيّ القرآن أفضل؟ قال: «السورة التي يذكر فيها البقرة، قيل فأيّ البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسي و خواتيم سورة البقرة نزلت من تحت العرش». و أخرج أبو عبيد و أحمد و البخاري في صحيحه تعليقا و مسلم و النسائي عن أسيد بن حضير قال: «بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة و فرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت فانصرف إلى ابنه يحيى و كان قريبا منها فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدّث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بذلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أ تدري ما ذاك؟ قال: لا يا رسول اللّه، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، و لو قرأت لأصبحت تنظر إليها الناس لا تتوارى منهم» و لهذا الحديث ألفاظ. و أخرج الترمذي و حسّنه النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و الحاكم و صحّحه عن أبي هريرة قال: «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعثا فاستقرأ كل رجل منهم» يعني ما معه من القرآن «فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا و كذا و سورة البقرة، قال: أ معك سورة البقرة؟ قال: نعم، قال: اذهب فأنت أميرهم». و أخرج البيهقي في الدلائل عن عثمان بن أبي العاص قال: «استعملني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أنا أصغر القوم الذين و فدوا عليه من ثقيف، و ذلك أني كنت قرأت سورة البقرة». و أخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح، عن الصلصال بن الدلهمس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم و لا تجعلوها قبورا» قال:
«و من قرأ سورة البقرة في ليلة توّج بتاج في الجنة». و أخرج أبو عبيد عن عبّاد بن عبّاد عن جرير بن حازم، عن عمه جرير بن يزيد؛ أن أشياخ أهل المدينة حدثوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «قيل له: ألم تر إلى ثابت بن قيس بن شمّاس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح، قال: فلعلّه قرأ سورة البقرة، قال: فسئل ثابت فقال:
قرأت سورة البقرة». قال ابن كثير: و هذا إسناد جيد، إلّا أن فيه إبهاما ثم هو مرسل.
و قد روى أئمة الحديث في فضائلها أحاديث كثيرة و آثارا عن الصحابة واسعة، و من فضائلها ما هو خاص بآية الكرسي، و ما هو خاص بخواتم هذه السورة، و قد سبق بعض ذلك، و ما هو في فضلها و فضل آل عمران، و قد سبق أيضا بعض من ذلك و ما هو في فضل السبع الطوال، كما أخرج أبو عبيد عن واثلة ابن الأسقع عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أعطيت السبع مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزبور، و فضلت بالمفصل» و في إسناده سعيد بن بشير و فيه لين، و قد رواه بسند آخر عن سعيد بن أبي هلال.
و أخرج أيضا عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «من أخذ السبع فهو خير». و قد رواه عنها أحمد في المسند باللفظ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «من أخذ السبع الأول من القرآن فهو خير». و أخرج أبو عبيد عن سعيد ابن جبير في قوله تعالى وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «1» قال: هي السبع الطوال البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و يونس، و بذلك قال مجاهد و مكحول و عطية بن قيس و أبو محمد القاري شدّاد ابن عبد اللّه و يحيى بن الحارث الذماري.
(1). الحجر: 87.
فتح القدير، ج1، ص: 34
و قد ورد ما يدل على كراهة أن يقول القائل سورة البقرة و لا سورة آل عمران و لا سورة النساء و كذا القرآن كله. فأخرج ابن الضريس، و الطبراني في الأوسط، و ابن مردويه و البيهقي في الشعب، بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لا تقولوا سورة البقرة و لا سورة آل عمران و لا سورة النساء و كذا القرآن كله، و لكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة، و السورة التي يذكر فيها آل عمران، و كذا القرآن كله» قال ابن كثير: هذا حديث غريب لا يصح رفعه، و في إسناده يحيى بن ميمون الخوّاص و هو ضعيف الرواية لا يحتج به. و أخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح عن ابن عمر قال: «لا تقولوا سورة البقرة، و لكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة». و قد روي عن جماعة من الصحابة خلاف هذا. فثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره و منى عن يمينه ثم قال:
هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. و أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم و أهل السنن و الحاكم و صحّحه عن حذيفة، قال: صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ليلة من رمضان فافتتح البقرة، فقلت يصلي بها في ركعة، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا. الحديث. و أخرج أحمد و ابن الضريس و البيهقي عن عائشة قالت: «كنت أقوم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في الليل فيقرأ بالبقرة و آل عمران و النساء». و أخرج أبو داود و الترمذي في الشمائل و النسائي و البيهقي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: «قمت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ليلة، فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلّا وقف» الحديث.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم قال القرطبي في تفسيره: اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال الشعبي و سفيان الثوري و جماعة من المحدثين: هي سرّ اللّه في القرآن، و للّه في كل كتاب من كتبه سرّ، فهي من المتشابه الذي انفرد اللّه بعلمه و لا نحبّ أن نتكلم فيها و لكن نؤمن بها، و تمدّ كما جاءت. و روي هذا القول عن أبي بكر الصديق و عليّ بن أبي طالب. قال: و ذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر و عثمان و ابن مسعود أنهم قالوا:
الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسّر. و قال أبو حاتم: لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور، و لا ندري ما أراد اللّه عزّ و جلّ. قال: و قال جمع من العلماء كثير: بل نحبّ أن نتكلم فيها و نلتمس الفوائد التي تحتها، و المعاني التي تتخرج عليها. و اختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس و عليّ أيضا عن الحروف المقطعة في القرآن: اسم اللّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. و قال قطرب و الفرّاء و غيرهما:
هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم اللّه بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي بناء كلامهم عليها ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما نزل الم و المص استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلّى اللّه عليه و سلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم و آذانهم و يقيم الحجة عليهم. و قال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن القرآن بمكة و قالوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ «1» فأنزلها استغربوها، فيفتحون أسماعهم،
(1). فصلت: 26.
فتح القدير، ج1، ص: 35
فيسمعون بالقرآن بعدها، فتجب عليهم الحجة. و قال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها و حذفت بقيتها، كقول ابن عباس و غيره: الألف من اللّه و اللام من جبريل و الميم من محمد. و ذهب إلى هذا الزجّاج فقال: أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى. و قد تكلمت العرب بالحروف المقطعة كقوله:
فقلت لها قفي، فقالت قاف
أي: وقفت. و في الحديث: «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» قال شقيق: هو أن يقول في اقتل اق كما قال صلّى اللّه عليه و سلم: «كفى بالسّيف شا» أي شافيا، و في نسخة شاهدا. و قال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور. و قال الكلبي: هي أقسام أقسم اللّه بها لشرفها و فضلها و هي من أسمائه.
و من أدقّ ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف فإنه قال: و اعلم أنك إذا تأملت ما أورده اللّه عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء، وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء: و هي الألف و اللام و الميم و الصاد و الراء و الكاف و الهاء و الياء و العين و الطاء و السين و الحاء و القاف و النون في تسع و عشرين سورة على عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف. بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها الصاد و الكاف و الهاء و السين و الحاء، و من الجهورة نصفها الألف و اللام و الميم و الراء و العين و الطاء و القاف و الياء و النون، و من الشديدة نصفها الألف و الكاف و الطاء و القاف، و من الرخوة نصفها اللام و الميم و الراء و الصاد و الهاء و العين و السين و الحاء و الياء و النون، و من المطبقة نصفها الصاد و الطاء، و من المنفتحة نصفها الألف و اللام و الميم و الراء و الكاف و الهاء و العين و السين و الحاء و القاف و الياء و النون، و من المستعلية نصفها القاف و الصاد و الطاء، و من المنخفضة نصفها الألف و اللام و الميم و الراء و الكاف و الهاء و التاء و العين و السين و الحاء و النون، و من حروف القلقلة نصفها القاف و الطاء. ثم إذا استقريت الكلم و تراكيبها رأيت الحروف التي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقّت في كل شيء حكمته، و قد علمت أن معظم الشيء و جلّه ينزل منزلة كله، و هو المطابق للطائف التنزيل و اختصاراته، فكأن اللّه عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم و إلزام الحجة إياهم، و ما يدل على أنه تعمّد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم، أن الألف و اللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين، و هي فواتح سورة البقرة و آل عمران و الروم و العنكبوت و لقمان و السجدة و الأعراف و الرعد و يونس و إبراهيم و هود و يوسف و الحجر انتهى. و أقول: هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتدّ بها، و بيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة و التبكيت كما قال، فهذا متيسر بأن يقال لهم: هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها ليس هو من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتا و إلزاما يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز و تعمية و تفريق لهذه الحروف في فواتح تسع و عشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح، هو أيضا مما لا يفهمه أحد من السامعين و لا يتعقل شيئا منه، فضلا عن أن يكون تبكيتا له و إلزاما للحجة أيا كان، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم، مترتب عليه و لم يفهم السامع هذا، و لا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه بلغ
فتح القدير، ج1، ص: 36
فهمه إلى بعض هذا فضلا عن كله. ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، و ذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهليّ و لا إسلاميّ و لا مقرّ و لا منكر و لا مسلم و لا معارض، و لا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الربّ سبحانه، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه و الهداية به. و هب أن هذه صناعة عجيبة و نكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة و لا بلاغة حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح، و ذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين، و غاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم و لا مدخل لذلك فيما ذكر. و أيضا لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك، لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز و التعمية، و ليس ذلك من الفصاحة و البلاغة في ورد و لا صدر، بل من عكسهما و ضد رسمهما، و إذا عرفت هذا فاعلم أن من تكلّم في بيان معاني هذه الحروف جازما بأن ذلك هو ما أراده اللّه عزّ و جلّ، فقد غلط أقبح الغلط، و ركب في فهمه و دعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسّرها به راجعا إلى لغة العرب و علومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك، و إذا سمعه السامع منهم كان معدودا عنده من الرطانة، و لا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدّمه ما يدل عليه و يفيد معناه، بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدّم ذكره. و من هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم، و أين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا؟ و إذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب و علومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين: الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه و الوعيد عليه، و أهل العلم أحق الناس بتجنبه و الصدّ عنه و التنكّب عن طريقه، و هم أتقى للّه سبحانه من أن يجعلوا كتاب اللّه سبحانه ملعبة لهم يتلاعبون به و يضعون حماقات أنظارهم و خزعبلات أفكارهم عليه. الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع، و هذا هو المهيع «1» الواضح و السبيل القويم، بل الجادة التي ما سواها مردوم، و الطريقة العامرة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئا من هذا فغير ملوم أن يقول بملء فيه و يتكلم بما وصل إليه علمه، و من لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري، أو اللّه أعلم بمراده، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه و محاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظا عربية و تراكيب مفهومة، و قد جعل اللّه تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلا، و لكلام العرب فيه مدخلا، فكيف و هو خارج عن ذلك على كل تقدير. و انظر كيف فهم اليهود عند سماع الم فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها، كما أخرج ابن إسحاق و البخاري في تاريخه، و ابن جرير بسند ضعيف، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد اللّه قال: «مرّ أبو ياسر ابن أخطب في رجال من يهود برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يتلو فاتحة سورة البقرة: الم- ذلِكَ الْكِتابُ لا
(1). المهيع: الطريق الواسع البيّن.
فتح القدير، ج1، ص: 37
فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون و اللّه لقد سمعت محمدا يتلوا فيما أنزل عليه الم ذلك الكتاب، فقال: أنت سمعته؟ فقال نعم، فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا:
يا محمد! ألم تذكر أنك تتلوا فيما أنزل عليك الم- ذلِكَ الْكِتابُ قال: بلى، قالوا: أ جاءك بهذا جبريل من عند اللّه؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث اللّه قبلك الأنبياء ما نعلمه بين لنبيّ منهم ما مدّة ملكه و ما أجل أمته غيرك، فقال حيي بن أخطب: و أقبل على من كان معه: الألف واحد و اللام ثلاثون و الميم أربعون، فهذه إحدى و سبعون سنة، أ فتدخلون في دين نبيّ إنما مدّة ملكه و أجل أمته إحدى و سبعون سنة؟
ثم أقبل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: و ما ذاك؟ قال: المص، قال: هذه أثقل و أطول الألف واحدة و اللام ثلاثون و الميم أربعون و الصاد تسعون، فهذا إحدى و ستون و مائة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم، قال: و ما ذلك؟ قال- الر- قال: هذه أثقل و أطول الألف واحدة و اللام ثلاثون و الراء مائتان، هذه إحدى و ثلاثون سنة و مائتان، فهل مع هذا غيره؟ قال نعم- المر- قال: فهذه أثقل و أطول الألف واحدة و ثلاثون و الميم أربعون و الراء مائتان، فهذه إحدى و سبعون سنة و مائتان، ثم قال: فقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري قليلا أعطيت أم كثيرا ثم قاموا، فقال أبو ياسر لأخيه حيي و من معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله: إحدى و سبعون، و إحدى و ستون و مائة، و إحدى و ثلاثون و مائتان، و إحدى و سبعون و مائتان، فذلك سبعمائة و أربع و ثلاثون سنة، فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «1» » فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، و تأمل أيّ موضع أحق بالبيان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع الم- ذلِكَ الْكِتابُ من ذلك العدد موجبا للتثبيط عن الإجابة له و الدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل و مدلول يفهم، لدفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ما ظنوه بادئ بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم.
فإن قلت: هل ثبت عن رسول اللّه في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به؟ قلت: لا أعلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تكلم في شيء من معانيها، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها، فأخرج البخاري في تاريخه، و الترمذي و صحّحه، و الحاكم و صحّحه، عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله به حسنة، و الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، و لكن ألف حرف و لام حرف و ميم حرف» و له طرق عن ابن مسعود. و أخرج ابن أبي شيبة و البزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه مرفوعا. فإن قلت: هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس و علي؟ قلت: قد روى ابن جرير و البيهقي في كتاب الأسماء و الصفات عن ابن مسعود أنه قال: الم أحرف اشتقت من حروف اسم اللّه. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه