کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج1، ص: 51
عن سلمان أنه قرأ هذه الآية فقال: لم يجيء أهل هذه الآية بعد. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد. انتهى. و يحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين، بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين؛ كالخوارج و سائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة.
[سورة البقرة (2): آية 13]
أي: و إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من المهاجرين و الأنصار أجابوا بأحمق جواب و أبعده عن الحقّ و الصواب، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاء و استخفافا، فتسبّبوا بذلك إلى تسجيل اللّه عليهم بالسفه بأبلغ عبارة و آكد قول. و حصر السفاهة و هي رقّة الحلوم و فساد البصائر و سخافة العقول فيهم، مع كونهم لا يعملون أنهم كذلك إما حقيقة أو مجازا، تنزيلا لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه، و أنهم متصفون به؛ و لما ذكر اللّه هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم لأنه لا يتسافه إلّا جاهل. و الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف: أي إيمانا كإيمان الناس.
و قد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ أي صدّقوا كما صدّق أصحاب محمد أنّه نبيّ و رسول، و أن ما أنزل عليه حق، قالُوا: أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يعنون أصحاب محمد أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ يقول: الجهّال وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ يقول: لا يعقلون.
و روي عن ابن عساكر في تاريخه بسند واه أنه قال: آمنوا كما آمن النّاس أبو بكر و عمر و عثمان و عليّ. و أخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: كَما آمَنَ السُّفَهاءُ قال: يعنون أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. و أخرج عن الربيع و ابن زيد مثله. و روى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود: أي إذا قيل لهم- يعني اليهود-: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ عبد اللّه بن سلام و أصحابه قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ .
[سورة البقرة (2): الآيات 14 الى 15]
لَقُوا أصله لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف و حذفت الياء لالتقاء الساكنين. و معنى لقيته و لاقيته:
استقبلته قريبا. و قرأ محمد بن السّميقع اليماني و أبو حنيفة: لاقوا: و أصله لاقيوا تحرّكت الياء و انفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. و خلوت بفلان و إليه: إذا انفردت به. و إنما عدّي بإلى
فتح القدير، ج1، ص: 52
و هو يتعدّى بالباء فيقال: خلوت به لا خلوت إليه، لتضمنه معنى ذهبوا و انصرفوا. و الشياطين جمع شيطان على التكسير. و قد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان فجعلها في موضع من كتابه أصلية و في آخر زائدة، فعلى الأوّل هو من شطن أي بعد عن الحق، و على الثاني من شطّ: أي بعد. أو شاط: أي بطل، و شاط:
أي احترق، و أشاط: إذا هلك قال:
و قد يشيط على أرماحنا البطل
أي يهلك. و قال آخر:
و أبيض ذي تاج أشاطت رماحنا
لمعترك بين الفوارس أقتما
أي أهلكت. و حكى سيبويه أن العرب تقول: تشيطن فلان: إذا فعل أفعال الشياطين. و لو كان من شاط لقالوا: تشيّط، و منه قول أمية بن أبي الصلت:
أيّما شاطن عصاه عكاه
ثم يلقى في السّجن و الأغلال
و قوله: إِنَّا مَعَكُمْ معناه مصاحبوكم في دينكم و موافقوكم عليه. و الهزء: السخرية و اللعب. قال الراجز:
قد هزئت منّي أمّ طيسله
قالت أراه معدما لا مال له
قال في الكشاف: و أصل الباب الخفة من الهزء و هو القتل السريع، و هزأ يهزأ: مات على المكان. عن بعض العرب: مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني، و ناقته تهزأ به: أي تسرع و تخفّ. انتهى. و قيل:
أصله الانتقام، قال الشاعر:
قد استهزءوا منهم بألفي مدجّج
سراتهم وسط الصّحاصح جثّم
فأفاد قولهم: إِنَّا مَعَكُمْ أنهم ثابتون على الكفر، و أفاد قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ردّهم للإسلام و دفعهم للحق، و كأنه جواب سؤال مقدّر ناشئ من قولهم إنا معكم: أي إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم؟ فقالوا: إنما نحن مستهزئون بهم في تلك الموافقة، و لم تكن بواطننا موافقة لهم و لا مائلة إليهم، فردّ اللّه ذلك عليهم بقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي ينزل بهم الهوان و الحقارة و ينتقم منهم و يستخفّ بهم انتصافا منهم لعباده المؤمنين، و إنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة و مكافأة مشاكلة. و قد كانت العرب إذا وضعت لفظا بإزاء لفظ جوابا و جزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ و إن كان مخالفا له في معناه. و ورد ذلك في القرآن كثيرا، و منه: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «2» و الجزاء لا يكون سيئة. و القصاص لا يكون اعتداء لأنه حق، و منه:
وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ «3» و إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ أَكِيدُ كَيْداً «4» يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا «5» يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ «6» تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «7» . و هو في السنة كثير كقوله
(1). الشورى: 40.
(2). البقرة: 194.
(3). آل عمران: 54.
(4). الطارق: 15- 16.
(5). البقرة: 9.
(6). النساء:
142.
(7). المائدة: 116.
فتح القدير، ج1، ص: 53
صلّى اللّه عليه و سلم: «إنّ اللّه لا يملّ حتى تملّوا».
و إنما قال: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ لأنه يفيد التجدّد وقتا بعد وقت، و هو أشدّ عليهم، و أنكأ لقلوبهم، و أوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الاسمية، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتا بعد وقت، و المتجددة حينا بعد حين، أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ لأنه يألفه و يوطّن نفسه عليه. و المدّ: الزيادة قال يونس بن حبيب: يقال مدّ في الشرّ و أمدّ في الخير، و منه: وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ «1» وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ «2» . و قال الأخفش: مددت له: إذا تركته، و أمددته: إذا أعطيته. و قال الفرّاء و اللحياني: مددت فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مدّ النهر، و منه: وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ «3» و أمددت فيما كانت زيادته من غيره، و منه: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ «4» و الطغيان مجاوزة الحدّ و الغلوّ في الكفر و منه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ «5» أي تجاوز المقدار الذي قدّرته الخزان. و قوله في فرعون: إِنَّهُ طَغى* «6» أي أسرف في الدعوى حيث قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «7» .
و العمه و العامة: الحائر المتردد، و ذهبت إبله العمّهى: إذا لم يدر أين ذهبت، و العمه في القلب كالعمى في العين. قال في الكشاف: العمه مثل العمى. إلا أن العمى في البصر و الرأي، و العمه في الرأي خاصة.
انتهى. و المراد أن اللّه سبحانه يطيل لهم المدّة و يمهلهم كما قال: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «8» . قال ابن جرير: فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ في ضلالهم و كفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلّالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا، لأن اللّه قد طبع على قلوبهم و ختم عليها، و أعمى أبصارهم عن الهدى و أغشاها، فلا يبصرون رشدا و لا يهتدون سبيلا.
و قد أخرج الواحدي و الثعلبي بسند واه- لأن فيه محمد بن مروان، و هو متروك- عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه، و ذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر و عمر و عليّ رضي اللّه عنهم. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عنه قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أو بعضهم قالوا: إنا على دينكم: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ و هم إخوانهم قالوا: إِنَّا مَعَكُمْ على مثل ما أنتم عليه: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بأصحاب محمد: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ قال: يسخر بهم للنقمة منهم: وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ قال: في كفرهم، يَعْمَهُونَ قال: يتردّدون. و أخرج البيهقي في الأسماء و الصفات عنه بمعناه و أطول منه. و أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم عنه بنحو الأوّل.
و أخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قال: رؤسائهم في الكفر. و أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: وَ إِذا خَلَوْا أي مضوا. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود. و أخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: وَ يَمُدُّهُمْ قال: يملي لهم. فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال: في كفرهم يتمادون. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون. و أخرج الفريابي و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن
(1). الإسراء: 6.
(2). الطور: 22.
(3). لقمان: 27.
(4). آل عمران: 125.
(5). الحاقة: 11.
(6). النازعات: 17.
(7). النازعات: 24.
(8). آل عمران: 178.
فتح القدير، ج1، ص: 54
المنذر عن مجاهد يَمُدُّهُمْ يزيدهم. فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال يلعبون و يتردّدون في الضّلالة.
و أخرج أحمد في المسند عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «نعوذ باللّه من شياطين الإنس و الجنّ، فقلت: يا رسول اللّه! و للإنس شياطين؟ قال: نعم».
[سورة البقرة (2): آية 16]
قال سيبويه: ضمّت الواو في: اشْتَرَوُا فرقا بينها و بين الواو الأصلية في نحو: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا «1» . و قال الزجّاج: حرّكت بالضم كما يفعل في نحن. و قرأ يحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. و قرأ أبو السّمّال العدوي بفتحها لخفة الفتحة. و أجاز الكسائيّ همز الواو. و الشراء هنا مستعار للاستبدال: أي استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «2» فأما أن يكون معنى الشراء المعاوضة كما هو أصله حقيقة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعوا إيمانهم، و العرب قد تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب:
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم
فإنّي شريت «3» الحلم بعدك بالجهل
و أصل الضلالة الحيرة و الجور عن القصد و فقد الاهتداء، و تطلق على النسيان، و منه قوله تعالى: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ «4» ، و على الهلاك كقوله: وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «5» و أصل الربح الفضل. و التجارة: صناعة التاجر، و أسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك و خسرت صفقتك، و هو من الإسناد المجازي، و هو إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل كما هو مقرّر في علم المعاني. و المراد:
ربحوا و خسروا. و الاهتداء قد سبق تحقيقه: أي و ما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة؛ و قيل في سابق علم اللّه. و قد أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي الكفر بالإيمان. و أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: أخذوا الضلالة و تركوا الهدى. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: آمنوا ثم كفروا. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة قال: استحبّوا الضلالة على الهدى، قد و اللّه رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، و من الجماعة إلى الفرقة، و من الأمن إلى الخوف، و من السّنّة إلى البدعة.
[سورة البقرة (2): الآيات 18 الى 17]
مَثَلُهُمْ مرتفع بالابتداء، و خبره إما الكاف في قوله: كَمَثَلِ لأنها اسم: أي مثل مثل كما في
(1). الجن: 16.
(2). فصلت: 17.
(3). و يروى «اشتريت» كما في ديوان أبي ذؤيب.
(4). الشعراء: 20.
(5). السجدة: 10.
فتح القدير، ج1، ص: 55
قول الأعشى:
أ تنتهون و لن ينهى ذوي شطط
كالطّعن يذهب فيه الزيت و الفتل
و قول امرئ القيس:
و رحنا بكابن الماء يجنب وسطنا
تصوّب فيه العين طورا و ترتقي
أراد مثل الطعن، و بمثل ابن الماء، و يجوز أن يكون الخبر محذوفا: أي مثلهم مستنير كمثل، فالكاف على هذا حرف. و المثل: الشبه، و المثلان: المتشابهان و الَّذِي موضوع موضع الذين: أي كمثل الذين، أي كمثل الذين استوقدوا، و ذلك موجود في كلام العرب كقول الشاعر:
و إنّ الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
و منه: وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «1» و منه: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «2» .
و وقود النار: سطوعها و ارتفاع لهبها، و اسْتَوْقَدَ بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين و التاء زائدتان، قاله الأخفش. و منه قول الشاعر:
و داع دعا يا من يجيب إلى النّدى
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي يجبه. و الإضاءة فرط الإنارة، و فعلها يكون لازما و متعديا. و ما حَوْلَهُ قيل ما زائدة، و قيل هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضاءت، و حوله منصوب على الظرفية، و ذَهَبَ من الذهاب، و هو زوال الشيء. و وَ تَرَكَهُمْ أي أبقاهم فِي ظُلُماتٍ جمع ظلمة. و قرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل. و قرأ أشهب العقيلي بفتح اللام، و هي عدم النور. و صُمٌ و ما بعده خبر مبتدأ محذوف: أي هم. و قرأ ابن مسعود: صما بكما عميا بالنصب على الذم، و يجوز أن ينتصب بقوله تركهم. و الصمم: الانسداد، يقال قناة صماء: إذا لم تكن مجوّفة، و صممت القارورة: إذا سددتها، و فلان أصمّ: إذا انسدت خروق مسامعه. و الأبكم: الذي لا ينطق و لا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس.
و قيل الأخرس و الأبكم واحد. و العمى: ذهاب البصر. و المراد بقوله: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي إلى الحق، و جواب لما في قوله فلما أضاءت، قيل هو: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ و قيل: محذوف تقديره: طفئت فبقوا حائرين. و على الثاني فيكون قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ كلاما مستأنفا أو بدلا من المقدر.
ضرب اللّه هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النّفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة و لا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته و تردده. و إنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. و منه قولهم: «للباطل صولة ثم يضمحل» و قد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأنا عظيما في إبراز خفيات المعاني،
(1). التوبة: 69.
(2). الزمر: 33.
فتح القدير، ج1، ص: 56
و رفع أستار محجبات الدقائق، و لهذا استكثر اللّه من ذلك في كتابه العزيز، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يكثر من ذلك في مخاطباته و مواعظه.
قال ابن جرير: إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، و احتج بقوله تعالى:
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «1» . و قال ابن كثير: إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم و كفرهم، و هذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه و طبع على قلوبهم كما يفيده قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ «2» . قال ابن جرير:
و صحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال: رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «3» أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، و قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «4» .
و قد أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً قال: هذا مثل ضربه اللّه للمنافقين، كانوا يعتزّون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون و يوارثونهم و يقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم اللّه العزّ كما سلب صاحب النار ضوءه: وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ يقول: في عذاب: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهم لا يسمعون الهدى و لا يبصرونه و لا يعقلونه.
و أخرج ابن جرير عن ابن مسعود و ناس من الصحابة في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً قالوا:
إن ناسا دخلوا في الإسلام عند مقدم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم المدينة ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى و أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام و الخير من الشرّ، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام و لا الخير من الشرّ. فهم صُمٌّ بُكْمٌ هم الخرس، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إلى الإسلام. و أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً قال: ضربه اللّه مثلا للمنافق، و قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، و أما الظلمة فهو ضلالهم. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن مجاهد نحوه. و أخرجا أيضا عن قتادة نحوه. و أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة و الحسن و السدي و الربيع بن أنس نحو ما تقدم.
[سورة البقرة (2): الآيات 19 الى 20]
عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين: أي مثلوهم بهذا أو هذا، و هي
(1). البقرة: 8.
(2). المنافقون: 3.
(3). الأحزاب: 19.
(4). الجمعة: 5.
فتح القدير، ج1، ص: 57
و إن كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرّد التساوي من غير شك، و قيل إنها بمعنى الواو، قاله الفراء و غيره، و أنشد:
و قد زعمت ليلى بأنّي فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
و قال آخر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى ربّه موسى على قدر
و المراد بالصيب: المطر، و اشتقاقه من صاب يصوب: إذا نزل. قال علقمة:
فلا تعدلي بيني و بين مغمّر
سقتك روايا المزن حيث تصوب
و أصله صيوب، اجتمعت الياء و الواو و سبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء و أدغمت، كما فعلوا في ميت و سيد. و السماء في الأصل: كل ما علاك فأظلك. و منه قيل لسقف البيت سماء. و السماء أيضا:
المطر سمي بها لنزوله منها، و فائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب، و إطلاق السماء على المطر واقع كثير في كلام العرب، فمنه قول حسان:
ديار من بني الحسحاس قفر
تعفّيها الرّوامس و السّماء
و قال آخر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
.....
و الظلمات قد تقدّم تفسيرها، و إنما جمعها إشارة إلى أنه انضمّ إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم. و الرعد: اسم لصوت الملك الذي يزجر السّحاب.
و قد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: «سألت اليهود النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن الرعد ما هو؟ قال:
ك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء اللّه، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسّحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر. قالت: صدقت» الحديث بطوله، و في إسناده مقال. قال القرطبي: و على هذا التفسير أكثر العلماء. و قيل: هو اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها، و إلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعا للفلاسفة و جهلة المتكلمين، و قيل غير ذلك، و البرق؛ مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب، و إليه ذهب كثير من الصحابة و جمهور علماء الشريعة للحديث السابق. و قال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة: إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك.