کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج1، ص: 84
تضع إلا كرها، و أدميتها في كل شهر مرتين «1» . و أخرج البخاري و الحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
«لو لا بنو إسرائيل لم يحنز اللحم، و لو لا حوّاء لم تخن أنثى زوجها» «2» . و قد ثبتت أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين و غيرهما في محاجّة آدم و موسى، و حجّ آدم موسى بقوله: أ تلومني على أمر قدّره اللّه عليّ قبل أن أخلق؟. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ قال: آدم و حواء و إبليس و الحية وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ قال: القبور وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ قال: الحياة. و روي نحو ذلك عن مجاهد و أبي صالح و قتادة، كما أخرجه عن الأول و الثاني أبو الشيخ، و عن الثالث عبد بن حميد. و أخرج أبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ قال: القبور وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ قال: إلى يوم القيامة. و أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا و حوّاء بالمروة. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه، عن ابن عباس، قال: «أوّل ما أهبط اللّه آدم إلى أرض الهند» و في لفظ: «بدجناء أرض بالهند». و أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه: أهبط إلى أرض بين مكة و الطائف. و أخرج ابن جرير و الحاكم و صحّحه و البيهقي عنه قال: قال عليّ ابن أبي طالب: أطيب ريح الأرض الهند، هبط بها آدم فعلق شجرها من ريح الجنة. و أخرج ابن سعد و ابن عساكر عن ابن عباس قال: أهبط آدم بالهند و حواء بجدة، فجاء في طلبها حتى أتى جمعا، فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، و اجتمعا بجمع. و أخرج الطبراني و أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أنزل آدم عليه السلام بالهند فاستوحش، فنزل جبريل فنادى بالأذان، فلما سمع ذكر محمّد قال له: و من محمّد هذا؟ قال: هذا آخر ولدك من الأنبياء». و قد روي عن جماعة من الصحابة أن آدم أهبط إلى أرض الهند، منهم جابر أخرجه ابن أبي الدنيا و ابن المنذر و ابن عساكر، و منهم ابن عمر أخرجه الطبراني.
و أخرج ابن عساكر عن عليّ قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «إن اللّه لمّا خلق الدنيا لم يخلق فيها ذهبا و لا فضة، فلما أهبط آدم و حواء أنزل معهما ذهبا و فضة، فسلكه ينابيع في الأرض منفعة لأولادهما من بعدهما، و جعل ذلك صداق آدم لحواء، فلا ينبغي لأحد أن يتزوّج إلّا بصداق». و أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «هبط آدم و حواء عريانين جميعا، عليهم ورق الجنة، فأصابه الحرّ حتى قعد يبكي و يقول لها: يا حوّاء! قد آذاني الحر، فجاءه جبريل بقطن و أمرها أن تغزل و علّمها، و أمر آدم بالحياكة و علّمه». و أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعا «أوّل من حاك آدم عليه السّلام». و قد روي عن جماعة من الصحابة و التابعين و من بعدهم حكايات في صفة هبوط آدم من الجنة و ما أهبط معه و ما صنع عند وصوله إلى الأرض، و لا حاجة لنا يبسط جميع ذلك. و أخرج الفريابي و عبد بن حميد و ابن أبي الدنيا و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه، و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ
(1). في تفسير القرطبي 1/ 313 دون كلمة «مرتين».
(2). الخنز: التغير و النتن. قيل: أصله أن بني إسرائيل ادخروا لحم السلوى فأنتن. و قوله: (لم تخن أنثى زوجها) ليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفاحشة بل المقصود إغراء الزوج بالمخالفة بوجه من الوجوه (فتح الباري 6/ 367- 368)
فتح القدير، ج1، ص: 85
قال: أي ربّ! ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي ربّ! ألم تنفخ في من روحك؟ قال:
بلى، قال: أي ربّ! ألم تسبق إليّ رحمتك قبل غضبك؟ قال: بلى، قال: أي ربّ! أ لم تسكني جنتك؟
قال: بلى، قال أي ربّ! أ رأيت إن تبت و أصلحت أ راجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. و أخرج الطبراني في الأوسط و ابن عساكر بسند ضعيف عن عائشة، عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم قال: «لمّا أهبط اللّه آدم إلى الأرض قام و جاء الكعبة فصلّى ركعتين» الحديث. و قد روي نحوه بإسناد لا بأس به أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة، و الطبراني في الأوسط، و البيهقي في الدعوات، و ابن عساكر من حديث بريدة مرفوعا. و أخرج الثعلبي عن ابن عباس في قوله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قال: قوله رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» و أخرج ابن المنذر من طريق ابن جرير عنه مثله. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان، عن محمد بن كعب القرظي، في قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ مثله. و أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. و أخرج عبد بن حميد عن الحسن و الضحّاك مثله. و أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قيل له: ما الكلمات التي تلقّى آدم من ربّه؟ قال: علّم شأن الحج فهي الكلمات. و أخرج عبد بن حميد عن عبد اللّه بن زيد في قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قال: لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك رب عملت سوءا و ظلمت نفسي، فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم. و أخرج نحوه البيهقي في شعب الإيمان، و ابن عساكر عن أنس. و أخرج نحوه هنا و في الزهد عن سعيد بن جبير. و أخرج نحوه ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. و أخرج نحوه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن عليّ مرفوعا. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً قال الهدى: الأنبياء و الرسل و البيان. و أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل قال: قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فمن تبع هدى بتثقيل الياء و فتحها. و أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني في الآخرة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني لا يحزنون للموت.
[سورة البقرة (2): الآيات 40 الى 42]
اعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، و خاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، و استغرقوا أوقاتهم في فنّ لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب اللّه سبحانه، و ذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاؤوا بتكلفات و تعسفات يتبرأ منها الإنصاف، و يتنزه عنها كلام البلغاء فضلا عن كلام الرب
(1). الأعراف: 23.
فتح القدير، ج1، ص: 86
سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، و جعلوه المقصد الأهمّ من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره و من تقدّمه حسبما ذكر في خطبته، و إن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرّقا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أن قبضه اللّه عزّ و جلّ إليه، و كل عاقل فضلا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالا، و تحليل أمر كان حراما، و إثبات أمر لشخص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، و تارة يكون الكلام مع المسلمين، و تارة مع الكافرين، و تارة مع من مضى، و تارة مع من حضر، و حينا في عبادة، و حينا في معاملة، و وقتا في ترغيب، و وقتا في ترهيب، و آونة في بشارة، و آونة في نذارة، و طورا في أمر دنيا، و طورا في أمر آخرة، و مرة في تكاليف آتية، و مرة في أقاصيص ماضية؛ و إذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف، و متباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب و النون و الماء و النار و الملّاح و الحادي، و هل هذا إلا من فتح أبواب الشك و توسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل و القصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن و يفردون ذلك بالتصنيف، تقرّر عنده أن هذا أمر لا بد منه، و أن لا يكون القرآن بليغا معجزا إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، و تبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفا محضا، و تعسفا بيّنا انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية و سلامة، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتبا على هذا الترتيب الكائن في المصحف؛ فكيف و كل من له أدنى علم بالكتاب، و أيسر حظ من معرفته يعلم علما يقينا أنه لم يكن كذلك، و من شك في هذا و إن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوّة، فإنه ينثلج صدره، و يزول عنه الريب، بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلا عن المطوّلة لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، و أوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها و ما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أوّل ما نزل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ و بعده يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ و ينظر أين موضع هذه الآيات و السور في ترتيب المصحف؟ و إذا كان الأمر هكذا، فأيّ معنى لطلب المناسب بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدّم في ترتيب المصحف ما أنزله اللّه متأخرا، و تأخر ما أنزله اللّه متقدما، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدّى لذلك من الصحابة، و ما أقل نفع مثل هذا و أنزر ثمرته، و أحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول و ما يقال له من تضييع الأوقات، و إنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله و لا على من يقف عليه من الناس، و أنت تعلم أنه لو تصدّى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه و رسائله و إنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحا و أخرى هجاء، و حينا نسيبا و حينا رثاء، و غير ذلك من الأنواع المتخالفة، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره و مقاطعه، ثم تكلف تكلفا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد
فتح القدير، ج1، ص: 87
و الخطبة التي خطبها في الحج و الخطبة التي خطبها في النكاح و نحو ذلك، و ناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء و الإنشاء الكائن في الهناء و ما يشابه ذلك، لعدّ هذا المتصدي لمثل هذا مصابا في عقله، متلاعبا بأوقاته، عابثا بعمره الذي هو رأس ماله؛ و إذا كان مثل هذا بهذه المنزلة، و هو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف نراه يكون في كلام اللّه سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، و أبكمت فصاحته فصحاء عدنان و قحطان. و قد علم كل مقصر و كامل أن اللّه سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربيّ، و أنزله بلغة العرب، و سلك فيه مسالكهم في الكلام، و جرى به مجاريهم في الخطاب. و قد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة، و طرائق متباينة فضلا عن المقامين، فضلا عن المقامات، فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا، و كذلك شاعرهم. و لنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين، و إنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام، فإذا قال متكلف: كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا: لا كيف.
فدع عنك نهبا صيح في حجراته
و هات حديثا ما حديث الرواحل
قوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام و معناه عبد اللّه، لأن إسرا في لغتهم: هو العبد و إيل هو اللّه، قيل: إن له اسمين، و قيل: إسرائيل لقب له، و هو اسم عجمي غير منصرف، و فيه سبع لغات: إسرائيل بزنة إبراهيم، و إسرائيل بمدّة مهموزة مختلسة رواها ابن شنبوذ عن ورش، و إسرائيل بمدّة بعد الياء من غير همز، و هي قراءة الأعمش و عيسى بن عمر، و قرأ الحسن من غير همز و لا مدّ و إسرائيل بهمزة مكسورة. و إسراءل بهمزة مفتوحة، و تميم يقولون إسرائين. و الذكر هو ضد الإنصات، و جعله بعض أهل اللغة مشتركا بين ذكر القلب و اللسان. و قال الكسائي: ما كان بالقلب فهو مضموم الذال، و ما كان باللسان فهو مكسور الذال. قال ابن الأنباري: و المعنى في الآية: اذكروا شكر نعمتي، فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة، و هي اسم جنس، و من جملتها أنه جعل منهم أنبياء و أنزل عليهم الكتب و المنّ و السلوى، و أخرج لهم الماء من الحجر، و نجّاهم من آل فرعون و غير ذلك. و العهد قد تقدم تفسيره. و اختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو؟ فقيل هو المذكور في قوله تعالى:
خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ* «1» و قيل: هو ما في قوله: وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «2» و قيل هو قوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «3» و قال الزجّاج: هو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد صلّى اللّه عليه و سلم؛ و قيل: هو أداء الفرائض، و لا مانع من حمله على جميع ذلك. و معنى قوله: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أي بما ضمنت لكم من الجزاء. و الرهب و الرهبة: الخوف، و يتضمن الأمر به معنى التهديد، و تقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدّم في إِيَّاكَ نَعْبُدُ «4» و إذا كان التقديم على طريقة الإضمار و التفسير مثل زيدا ضربته وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ كان أوكد في إفادة الاختصاص، و لهذا قال صاحب الكشاف: و هو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد، و سقطت الياء من قوله فَارْهَبُونِ لأنها رأس آية و مُصَدِّقاً حال من ما في قوله: بِما أَنْزَلْتُ أو من ضميرها المقدر بعد الفعل أي أنزلته.
(1). البقرة: 63.
(2). المائدة: 12.
(3). آل عمران: 187.
(4). انظر ص: 27.
فتح القدير، ج1، ص: 88
و قوله أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ إنما جاء به مفردا، لم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى نحو فريق أو فوج. و قال الأخفش و الفرّاء: إنه محمول على معنى الفعل، لأن المعنى أوّل من كفر. و قد يكون من باب قولهم: هو أظرف الفتيان و أجمله، كما حكى ذلك سيبويه، فيكون هذا المفرد قائما مقام الجمع؛ و إنما قال أوّل مع أنه تقدّمهم إلى الكفر به كفار قريش، لأن المراد أوّل كافر به من أهل الكتاب، لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، و ما يلزم من التصديق، و الضمير في به عائد إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
أي لا تكونوا أوّل كافر بهذا النبي مع كونكم قد وجدتموه مكتوبا عندكم في التوراة و الإنجيل، مبشرا به في الكتب المنزلة عليكم. و قد حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الكتب السالفة، و قيل إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله: بِما أَنْزَلْتُ و قيل عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله: لِما مَعَكُمْ و قوله: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي أي بأوامري و نواهي ثَمَناً قَلِيلًا أي عيشا نزرا و رئاسة لا خطر لها. جعل ما اعتاضوه ثمنا، و أوقع الاشتراء عليه و إن كان الثمن هو المشترى به، لأن الاشتراء هنا مستعار للاستبدال: أي لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا، و كثيرا ما يقع مثل هذا في كلامهم.
و قد قدّمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ، و من إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول الشاعر:
إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به
فما أصبت بترك الحجّ من ثمن
و هذه الآية و إن كانت خطابا لبني إسرائيل و نهيا لهم، فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب أو بلحنه، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر اللّه به، أو إثبات باطل نهى اللّه عنه، أو امتنع من تعليم ما علّمه اللّه، و كتم البيان الذي أخذ اللّه عليه ميثاقه به، فقد اشترى بآيات اللّه ثمنا قليلا. و قوله: وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ و قد تقدم قريبا. و اللبس: الخلط، يقال لبست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله و واضحه بمشكله، قال اللّه تعالى: وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ قالت الخنساء:
ترى الجليس يقول الحقّ تحسبه
رشدا و هيهات فانظر ما به التبسا
صدّق مقالته و احذر عداوته
و البس عليه أمورا مثل ما لبسا
و قال العجّاج:
لمّا لبسن الحقّ بالتجنّي
غنين فاستبدلن زيدا منّي
و منه قول عنترة:
و كتيبة لبّستها بكتيبة
حتّى إذا التبست نفضت لها يدي
و قيل: هو مأخوذ من التغطية: أي لا تغطّوا الحق بالباطل، و منه قول الجعدي:
فتح القدير، ج1، ص: 89
إذا ما الضّجيع ثنى جيدها
تثنّت عليه فكانت لباسا
و قول الأخطل:
و قد لبست لهذا الأمر أعصره
حتى تجلّل رأسي الشيب فاشتعلا
و الأوّل أولى. و الباطل في كلام العرب: الزائل، و منه قول لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا اللّه باطل «1»
و بطل الشيء يبطل بطولا و بطلانا، و أبطله غيره. و يقال ذهب دمه بطلا: أي هدرا، و الباطل:
الشيطان؛ و سمي الشجاع بطلا لأنه يبطل شجاعة صاحبه، و المراد به هنا خلاف الحق. و الباء في قوله بالباطل يحتمل أن تكون صلة و أن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف، و رجّح الرازي في تفسيره الثاني. و قوله:
وَ تَكْتُمُوا يجوز أن يكون داخلا تحت حكم النهي أو منصوبا بإضمار أن، و على الأوّل يكون كل واحد من اللبس و الكتم منهيا عنه، و على الثاني يكون المنهي عنه هو الجمع بين الأمرين، و من هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي، و أن كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده، و المراد النهي عن كتم حجج اللّه التي أوجب عليهم تبليغها و أخذ عليهم بيانها، و من فسرّ اللبس أو الكتمان بشيء معين، و معنى خاص فلم يصب إن أراد أن ذلك هو المراد دون غيره، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه. و قوله: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية، و فيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل، و ذلك أغلظ للذنب و أوجب للعقوبة، و هذا التقييد لا يفيد جواز اللبس و الكتمان مع الجهل، لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه، خصوصا في أمور الدين، فإن التكلم فيها و التصدّي للإصدار و الإيراد في أبوابها إنما أذن اللّه به لمن كان رأسا في العلم فردا في الفهم، و ما للجهال و الدخول فيما ليس من شأنهم و القعود في غير مقاعدهم؟! و قد أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قال للأحبار من اليهود: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي بلائي عندكم و عند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون و قومه وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي الذي أخذت في أعناقكم للنّبي صلّى اللّه عليه و سلّم إذا جاءكم أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه و اتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر و الأغلال وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ و عندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي و بما جاءكم به و أنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عنه في قوله أَوْفُوا بِعَهْدِي يقول: ما أمرتكم به من طاعتي و نهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و غيره أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يقول: أرض عنكم و أدخلكم الجنة. و أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود مثله. و أخرج ابن المنذر
(1). و تمامه: و كل نعيم لا محالة زائل.
فتح القدير، ج1، ص: 90
عن مجاهد في قوله: أَوْفُوا بِعَهْدِي قال: هو الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ «1» لآية و أخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. و أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال:
أوفوا لي بما افترضت عليكم أوف لكم بما وعدتكم. و أخرج عبد بن حميد و أبو الشيخ عن الضحاك نحوه.
و أخرج ابن جرير عن أبي العالية قوله: إِيَّايَ فَارْهَبُونِ قال: فاخشون. و أخرج عبد بن حميد و ابن جريج عن مجاهد في قوله: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ قال: القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ قال: التوراة و الإنجيل.
و أخرج ابن جريج عن ابن جرير في قوله: أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ قال: بالقرآن. و أخرج ابن جرير عن أبي العالية في الآية قال: يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا لما معكم، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي أوّل من كفر بمحمد وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي يقول: لا تأخذوا عليه أجرا، قال: و هو مكتوب عندهم في الكتاب الأوّل: يا ابن آدم علّم مجانا كما علّمت مجانا. و أخرج أبو الشيخ عنه قال: لا تأخذ على ما علّمت أجرا، إنما أجر العلماء و الحكماء و الحلماء على اللّه. و أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب وَ تَكْتُمُوا الْحَقَ قال: لا تكتموا الحق و أنتم قد علمتم أن محمدا رسول اللّه. و أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: وَ لا تَلْبِسُوا الآية، قال: لا تلبسوا اليهودية و النصرانية بالإسلام وَ تَكْتُمُوا الْحَقَ قال: كتموا محمدا و هم يعلمون أنه رسول اللّه يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل. و أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: الحق: التوراة، و الباطل: الذي كتبوه بأيديهم.
[سورة البقرة (2): الآيات 43 الى 46]
قد تقدم الكلام في تفسير إقامة الصلاة و اشتقاقها، و المراد هنا الصلاة المعهودة، و هي صلاة المسلمين، على أن التعريف للعهد، و يجوز أن تكون للجنس، و مثلها الزكاة. و الإيتاء: الإعطاء، يقال آتيته: أي أعطيته. و الزكاة مأخوذة من الزكاء، و هو النماء، زكا الشيء: إذا نما و زاد، و رجل زكي: أي زائد الخير؛ و سمي إخراج جزء من المال زكاة: أي زيادة مع أنه نقص منه، لأنها تكثر بركته بذلك، أو تكثر أجر صاحبه؛ و قيل: الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال: زكا فلان: أي طهر.
و الظاهر أن الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم و نحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية هي المرادة بما هو مذكور في الكتاب و السنة منها. و قد تكلّم أهل العلم على ذلك بما لا يتسع المقام لبسطه. و قد اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا، فقيل: المراد المفروضة لاقترانها بالصلاة، و قيل صدقة الفطر، و الظاهر أن المراد ما هو أعمّ من ذلك. و الركوع في اللغة: الانحناء، و كل منحن راكع، قال لبيد:
أخبّر أخبار القرون التي مضت
أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع