کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج1، ص: 184
المحن فقد هدي إلى الصواب و وفق إلى الخير، و إن هذه المعية التي أوضحها اللّه بقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب. فمن كان اللّه معه لم يخش من الأهوال و إن كانت كالجبال. و أموات و أحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين، أي: لا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه هم أموات بل هم أحياء، و لكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب أرواحهم، لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر، بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم اللّه كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر، و ليسوا كذلك في الواقع، بل هم أحياء في البرزخ. و في الآية دليل على ثبوت عذاب القبر، و لا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة و دلت عليه الآيات القرآنية، و مثل هذه الآية قوله تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» . و البلاء أصله: المحنة، و معنى نبلوكم: نمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على القضاء أم لا؟ و تنكير شيء: للتقليل، أي: بشيء قليل من هذه الأمور. و قرأ الضحّاك بأشياء. و المراد بالخوف: ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدوّ أو غيره. و بالجوع: المجاعة التي تحصل عند الجذب و القحط. و بنقص الأموال: ما يحدث فيها بسبب الجوائح و ما أوجبه اللّه فيها من الزكاة و نحوها. و بنقص الأنفس: الموت و القتل في الجهاد. و بنقص الثمرات: ما يصيبها من الآفات، و هو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات و غيرها- و قيل: المراد بنقص الثمرات: موت الأولاد. و قوله: وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ أمر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أو لكل من يقدر على التبشير. و قد تقدّم معنى البشارة. و الصبر أصله الحبس، و وصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة، لأن ذلك تسليم و رضا. و المصيبة: واحدة المصائب، و هي: النكبة التي يتأذّى بها الإنسان و إن صغرت. و قوله: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين و عصمة للممتحنين، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية للّه، و الاعتراف بالبعث و النشور. و معنى الصلوات هنا: المغفرة و الثناء الحسن، قاله الزجّاج. و على هذا فذكر الرحمة لقصد التأكيد.
و قال في الكشاف: الصلاة: الرحمة و التعطف، فوضعت موضع الرأفة، و جمع بينها و بين الرحمة كقوله:
رأفة و رحمة لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ و المعنى: عليهم رأفة بعد رأفة و رحمة بعد رحمة. انتهى. و قيل المراد بالرحمة:
كشف الكربة و قضاء الحاجة. و الْمُهْتَدُونَ قد تقدّم معناه، و إنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع و التسليم.
و أخرج الحاكم و البيهقي في الدلائل عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها، حتى قاموا من عنده و جلّلوه ثوبا، و خرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر و الصلاة، فلبثوا ساعة و هو في غشيته ثم أفاق.
و أخرج ابن مندة في المعرفة عن ابن عباس قال: قتل عمير بن الحمام ببدر، و فيه و في غيره نزلت: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ الآية. و أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: فِي سَبِيلِ اللَّهِ :
في طاعة اللّه، في قتال المشركين. و قد وردت أحاديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من
(1). آل عمران: 169.
فتح القدير، ج1، ص: 185
ثمار الجنة. فمنها عن كعب بن مالك مرفوعا عند أحمد و الترمذي و صحّحه و النسائي و ابن ماجة. و روي أن أرواح الشهداء تكون على صور طيور بيض، كما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة قال: بلغنا، فذكر ذلك.
و أخرجه عبد بن حميد، و ابن جرير عنه أيضا بنحوه، و روي أنها على صور طيور خضر، كما أخرجه ابن أبي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية. و أخرجه ابن أبي شيبة في البعث و النشور عن كعب. و أخرجه هناد بن السري عن هذيل. و أخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف عن عبد اللّه بن كعب بن مالك مرفوعا.
و أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير عن عطاء في قوله: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ قال:
هم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلم. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني، و البيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس في قوله: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ الآية، قال: أخبر اللّه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء و أنه مبتليهم فيها، و أمرهم بالصبر و بشرهم فقال: وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ و أخبر أن المؤمن إذا سلّم لأمر اللّه و رجع و استرجع عند المصيبة كتب اللّه له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من اللّه، و الرحمة، و تحقيق سبيل الهدى. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته، و أحسن عقباه، و جعل له خلفا صالحا يرضاه». و أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله:
وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة. و أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم «أعطيت أمّتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة:
إنّا للّه و إنّا إليه راجعون» و قد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة.
[سورة البقرة (2): آية 158]
أصل الصَّفا في اللغة: الحجر الأملس، و هو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف، و كذلك الْمَرْوَةَ علم لجبل بمكة معروف، و أصلها في اللغة: واحدة المرو، و هي الحجارة الصغار التي فيها لين. و قيل: التي فيها صلابة، و قيل: تعم الجميع. قال أبو ذؤيب:
حتّى كأنّي للحوادث مروة
بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع
و قيل: إنها الحجارة البيض البراقة، و قيل: إنها الحجارة السود. و الشعائر جمع شعيرة، و هي العلامة، أي: من أعلام مناسكه. و المراد بها مواضع العبادة التي أشعرها اللّه إعلاما للناس من الموقف و السعي و المنحر، و منه: إشعار الهدي، أي: إعلامه بغرز حديدة في سنامه، و منه قول الكميت:
نقتّلهم جيلا فجيلا تراهم
شعائر قربان بهم يتقرّب
و حجّ البيت في اللغة: قصده، و منه قول الشاعر:
فأشهد من عوف حلولا كثيرة
يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفرا
فتح القدير، ج1، ص: 186
و السب: العمامة. و في الشرع: الإتيان بمناسك الحج التي شرعها اللّه سبحانه. و العمرة في اللغة:
الزيارة. و في الشرع: الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة. و الجناح: أصله من الجنوح، و هو الميل، و منه الجوانح لاعوجاجها. و قوله: يَطَّوَّفَ : أصله يتطوف؛ فأدغم. و قرئ: أَنْ يَطَّوَّفَ ، و رفع الجناح يدل على عدم الوجوب، و به قال أبو حنيفة و أصحابه و الثوري. و حكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: إنه واجب و ليس بركن و على تاركه دم. و قد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس و ابن الزبير و أنس بن مالك و ابن سيرين. و مما يقوّي دلالة هذه الآية على عدم الوجوب قوله تعالى في آخر الآية: وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ و ذهب الجمهور إلى أن السعي واجب و نسك من جملة المناسك، و استدلوا بما أخرجه الشيخان و غيرهما عن عائشة: أن عروة قال لها: أ رأيت قول اللّه: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فما أرى على أحد جناحا أن لا يطوّف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، و لكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، و كان من أهلّ لها يتحرّج أن يطوّف بالصفا و المروة في الجاهلية، فأنزل اللّه: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الآية، قالت عائشة: ثم قد بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما. و أخرج مسلم و غيره عنها أنها قالت: لعمري ما أتمّ اللّه حج من لم يسع بين الصفا و المروة و لا عمرته، لأن اللّه قال: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ . و أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «إنّ اللّه كتب عليكم السّعي فاسعوا». و أخرج أحمد في مسنده، و الشافعي، و ابن المنذر، و ابن قانع، و البيهقي عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: «رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يطوف بين الصفا و المروة و الناس بين يديه، و هو وراءهم يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره و هو يقول: «اسعوا فإنّ اللّه عزّ و جلّ كتب عليكم السّعي» و هو في مسند أحمد من طريق شيخه عبد اللّه بن المؤمل عن عطاء ابن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عنها، و رواه من طريق أخرى عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها فذكرته. و يؤيد ذلك حديث: «خذوا عنّي مناسككم».
[سورة البقرة (2): الآيات 159 الى 163]
و قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إلى آخر الآية، فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون، و اختلفوا
فتح القدير، ج1، ص: 187
من المراد بذلك؟ فقيل: أحبار اليهود و رهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلّى اللّه عليه و سلم؛ و قيل: كل من كتم الحق و ترك بيان ما أوجب اللّه بيانه، و هو الراجح، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود و النصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق. و في هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره، فإن من لعنه اللّه، و لعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده، قد بلغ من الشقاوة و الخسران إلى الغاية التي لا تلحق، و لا يدرك كنهها. و في قوله:
مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك، كما قال أبو هريرة: «حفظت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وعاءين: أما أحدهما فبثثته، و أما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» أخرجه البخاري. و الضمير في قوله: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ راجع إلى ما أنزلنا. و الكتاب: اسم جنس، و تعريفه يفيد شموله لجميع الكتب؛ و قيل: المراد به: التوراة. و اللعن: الإبعاد و الطرد. و المراد بقوله: اللَّاعِنُونَ الملائكة و المؤمنون، قاله الزجاج و غيره، و رجّحه ابن عطية؛ و قيل: كل من يتأتى منه اللعن، فيدخل في ذلك الجن؛ و قيل:
هم الحشرات و البهائم. و قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا إلخ، فيه استثناء التائبين و المصلحين لما فسد من أعمالهم، و المبينين للناس ما بينه اللّه في كتبه و على ألسن رسله. و قوله: وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ هذه الجملة حالية، و قد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين، لأن حاله عند الوفاة لا يعلم، و لا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلّى اللّه عليه و سلّم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم، لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم؛ و قيل: يجوز لعنه عملا بظاهر الحال كما يجوز قتاله. و قوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ إلخ، استدل به على جواز لعن الكفار على العموم. قال القرطبي: و لا خلاف في ذلك. قال: و ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر و إظهار قبح كفره سواء كان الكافر عاقلا أو مجنونا. و قال قوم من السلف: لا فائدة في لعن من جنّ أو مات منهم لا بطريق الجزاء و لا بطريق الزجر. قال: و يدل على هذا القول: أن الآية دالة على الإخبار عن اللّه و الملائكة و الناس بلعنهم لا على الأمر به. قال ابن العربي: إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق، لما روي «أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أتي بشارب خمر مرارا، فقال بعض من حضر: لعنه اللّه ما أكثر ما يشربه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم» و الحديث في الصحيحين. و قوله: وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ قيل: هذا يوم القيامة، و أما في الدنيا ففي الناس المسلم و الكافر، و من يعلم بالعاصي و معصيته و من لا يعلم، فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس؛ و قيل: في الدنيا، و المراد أنه يلعنه غالب الناس، أو كل من علم بمعصيته منهم.
و قوله: خالِدِينَ فِيها أي: في النار؛ و قيل: في اللعنة. و الإنظار: الإمهال، و قيل: معنى لا ينظرون:
لا ينظر اللّه إليهم، فهو من النظر؛ و قيل: هو من الانتظار، أي: لا ينتظرون ليعتذروا، و قد تقدّم تفسير:
الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ . و قوله: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فيه الإرشاد إلى التوحيد و قطع علائق الشرك، و الإشارة إلى أنّ أوّل ما يجب بيانه و يحرم كتمانه هو أمر التوحيد.
و قد أخرج ابن إسحاق، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة، و سعد بن معاذ أخو بني الأشهل، و خارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج نفرا من أحبار اليهود
فتح القدير، ج1، ص: 188
عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه و أبوا أن يخبروهم، فأنزل اللّه فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا الآية. و قد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوّة نبينا صلّى اللّه عليه و سلم. و أخرج ابن ماجة، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال: كنا في جنازة مع النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فقال: إنّ الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كلّ دابة غير الثقلين، فتلعنه كلّ دابّة سمعت صوته، فذلك قول اللّه تعالى:
وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ يعني دوابّ الأرض. و أخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: الجنّ و الإنس و كل دابة. و أخرج عبد الرزاق، و عبد بن حميد عن مجاهد قال: إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم.
و أخرج عنه عبد بن حميد، و ابن جرير، و أبو نعيم في الحلية، و البيهقي في شعب الإيمان، قال في تفسير الآية:
إن دوابّ الأرض و العقارب و الخنافس يقولون: إنما منعنا القطر بذنوبهم، فيلعنونهم. و أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير عن عكرمة نحوه. و أخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر قال: يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء.
و قد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم و الوعيد لفاعله. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة في قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا قال: أصلحوا ما بينهم و بين اللّه، و بيّنوا الذي جاءهم من اللّه، و لم يكتموه و لم يجحدوه. و أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: أَتُوبُ عَلَيْهِمْ يعني: أتجاوز عنهم. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه اللّه، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون. و أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير عن قتادة قال: يعني بالناس أجمعين:
المؤمنين. و أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: خالِدِينَ فِيها يقول: خالدين في جهنم في اللعنة.
و قال في قوله: وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ يقول: لا ينظرون فيعتذرون. و أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ قال: لا يؤخرون. و أخرج ابن أبي شيبة، و أحمد، و الدارمي، و أبو داود، و الترمذي و صحّحه، و ابن ماجة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «اسم اللّه الأعظم في هاتين الآيتين وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ و الم- اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «1» . و أخرج الديلمي عن أنس أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ليس شيء أشدّ على مردة الجنّ من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ الآيتين».
[سورة البقرة (2): آية 164]
لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ عقب ذلك بالدليل الدالّ عليه، و هو: هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها، أو يقتدر عليه، أو على بعضه، و هي خلق السموات، و خلق الأرض، و تعاقب الليل و النهار، و جري الفلك في البحر، و إنزال المطر من السماء، و إحياء الأرض به، و بثّ الدوابّ منها بسببه،
(1). آل عمران: 1- 2.
فتح القدير، ج1، ص: 189
و تصريف الرياح؛ فإن من أمعن نظره؛ و أعمل فكره في واحد منها؛ انبهر له، و ضاق ذهنه عن تصوّر حقيقته.
و تحتم عليه التصديق بأن صانعه هو اللّه سبحانه؛ و إنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، و وحد الأرض لأنها كلها من جنس واحد و هو التراب. و المراد باختلاف الليل و النهار تعاقبهما بإقبال أحدهما و إدبار الآخر، و إضاءة أحدهما و إظلام الآخر. و النهار: ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. و قال النضر بن شميل: أوّل النهار طلوع الشمس، و لا يعدّ ما قبل ذلك من النهار. و كذا قال ثعلب، و استشهد بقول أمية بن أبي الصلت:
و الشّمس تطلع كلّ آخر ليلة
حمراء يصبح لونها يتورّد
و كذا قال الزجاج. و قسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام: قسما جعله ليلا محضا، و هو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. و قسما جعله نهارا محضا، و هو من طلوع الشمس إلى غروبها. و قسما جعله مشتركا بين النهار و الليل، و هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل و مبادئ ضوء النهار.
هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة. و أما في الشرع: فالكلام في ذلك معروف. و الفلك: السفن، و إفراده و جمعه بلفظ واحد، و هو هذا، و يذكر و يؤنث. قال اللّه تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* «1» وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ و قال: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ «2» و قيل: واحده فلك بالتحريك، مثل أسد و أسد. و قوله: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ يحتمل أن تكون ما: موصولة أي: بالذي ينفعهم، أو مصدرية:
أي بنفعهم، و المراد بما أنزل من السماء: المطر الذي به حياة العالم و إخراج النبات و الأرزاق. و البثّ: النشر، و الظاهر أن قوله: بَثَ معطوف على قوله فَأَحْيا لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر. و قال في الكشاف: إن الظاهر عطفه على أنزل. و المراد بتصريف الرياح: إرسالهما عقيما، و ملقحة، و صرّا، و نصرا، و هلاكا، و حارة، و باردة، و لينة، و عاصفة، و قيل: تصريفها: إرسالها جنوبا، و شمالا، و دبورا، و صبا، و نكباء، و هي التي تأتي بين مهبي ريحين؛ و قيل: تصريفها: أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها و الصغار كذلك، و لا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر. و السحاب سمي سحابا: لانسحابه في الهواء، و سحبت ذيلي سحبا، و تسحب فلان على فلان: اجترأ. و المسخر: المذلل، و سخره: بعثه من مكان إلى آخر؛ و قيل: تسخيره: ثبوته بين السماء و الأرض من غير عمد و لا علائق. و الأوّل أظهر.
و الآيات: الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره و يتفكر بعقله.
و قد أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ادع اللّه أن يجعل لنا الصّفا ذهبا نتقوّى به على عدوّنا، فأوحى اللّه إليه: إني معطيهم فأجعل لهم الصّفا ذهبا، و لكن إن كفروا بعد ذلك عذّبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فقال: ربّ دعني و قومي فأدعوهم يوما بيوم، فأنزل اللّه هذه الآية. و أخرج نحوه عبد بن حميد، و ابن جرير عن سعيد بن جبير. و أخرج وكيع، و الفريابي، و آدم بن أبي إياس، و سعيد بن منصور، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و أبو الشيخ في العظمة، و البيهقي في
(1). الشعراء: 119 و يس: 41.
(2). يونس: 22.
فتح القدير، ج1، ص: 190
شعب الإيمان، عن أبي الضحى قال: لما نزلت: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ عجب المشركون و قالوا: إن محمدا يقول وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل اللّه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الآية. و أخرج ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و أبو الشيخ عن عطاء نحوه. و أخرج أبو الشيخ في العظمة عن سلمان، قال: الليل موكل به ملك يقال له شراهيل، فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء فدلّاها من قبل المغرب، فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة عين، و قد أمرت الشمس أن لا تغرب حتى ترى الخرزة، فإذا غربت جاء الليل، فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء، فيعلقها من قبل المطلع، فإذا رآها شراهيل مدّ إليه خرزته، و ترى الشمس الخزرة البيضاء، فتطلع، و قد أمرت أن لا تطلع حتى تراها، فإذا طلعت جاء النهار «1» . و أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: وَ الْفُلْكِ قال: السفينة. و أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: بَثَ خلق. و أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ قال:
إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب، و بشرا بين يدي رحمته، و إذا شاء جعلها عذابا ريحا عقيما لا تلقح.
و أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، و كل شيء في القرآن من الريح فهي عذاب. و قد ورد في النهي عن سبّ الريح و أوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية.
[سورة البقرة (2): الآيات 165 الى 167]
لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه، و جليل قدرته و تفرّده بالخلق، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندا يعبده من الأصنام. و قد تقدّم تفسير الأنداد، مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد الأنداد؛ بل أحبوها حبا عظيما، و أفرطوا في ذلك إفراطا بالغا، حتى صار حبهم لهذه الأوثان و نحوها متمكنا في صدورهم؛ كتمكن حبّ المؤمنين للّه سبحانه، فالمصدر في قوله: كَحُبِّ اللَّهِ مضاف إلى المفعول، و الفاعل محذوف و هو المؤمنون. و يجوز أن يكون المراد كحبهم للّه، أي: عبدة الأوثان قاله ابن كيسان و الزجّاج. و يجوز أن يكون هذا المصدر من المبني للمجهول، أي:
كما يحب اللّه. و الأول أولى لقوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي.
أي: أن حبّ المؤمنين للّه أشد من حبّ الكفار الأنداد، و لأن المؤمنين يخصون اللّه سبحانه بالعبادة و الدعاء، و الكفار لا يخصون أصنامهم بذلك، بل يشركون اللّه معهم، و يعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم