کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج2، ص: 28
يومئذ بقتالهم، فأمره اللّه أن يعفو عنهم و يصفح ثم نسخ ذلك في براءة فقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» الآية. و أخرج أبو عبيد و ابن جرير و ابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قال: أغرى بعضهم ببعض بالخصومات و الجدال في الدين.
[سورة المائدة (5): الآيات 15 الى 16]
الألف و اللام في الكتاب للجنس و الخطاب لليهود و النصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا أي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم حال كونه يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ المنزل عليكم، و هو التوراة و الإنجيل؛ كآية الرجم و قصة أصحاب السبت الممسوخين قردة وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه، فيترك بيانه لعدم اشتماله على ما يجب بيانه عليه من الأحكام الشرعية، فإنّ ما لم يكن كذلك لا فائدة تتعلق ببيانه إلا مجرّد افتضاحكم؛ و قيل المعنى: إنه يعفو عن كثير فيتجاوزه و لا يخبركم به؛ و قيل: يعفو عن كثير منكم فلا يؤاخذهم بما يصدر منهم، و الجملة في محل نصب عطفا على الجملة الحالية: أعني قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ . قوله: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ جملة مستأنفة مشتملة على بيان أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم قد تضمنت بعثته فوائد غير ما تقدم من مجرد البيان.
قال الزجاج: النور محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و قيل: الإسلام. و الكتاب المبين: القرآن، فإنه المبين، و الضمير في قوله:
يَهْدِي بِهِ راجع إلى الكتاب أو إليه و إلى النور لكونهما كالشيء الواحد مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي ما رضيه اللّه، و سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة من العذاب، الموصلة إلى دار السلام، المنزهة عن كل آفة؛ و قيل: المراد بالسلام: الإسلام وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ الكفرية إِلَى النُّورِ الإسلامي وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى طريق يتوصلون بها إلى الحق لا عوج فيها و لا مخافة.
و قد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: رَسُولُنا قال: هو محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. و أخرج ابن جرير أيضا عن عكرمة قال: إن نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال: أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى و الذي رفع الطور و ناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل «2» ، فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة جلدة و حلقنا الرؤوس. فحكم عليهم بالرّجم، فنزلت هذه الآية. و أخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. و أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يقول عن كثير من الذنوب. و أخرج ابن جرير عن السدي قال: سُبُلَ السَّلامِ هي سبيل اللّه الذي شرعه لعباده و دعاهم إليه و ابتعث به رسله؛ و هو الإسلام.
(1). التوبة: 29.
(2). الأفكل: الرّعدة.
فتح القدير، ج2، ص: 29
[سورة المائدة (5): الآيات 17 الى 18]
ضمير الفصل في قوله: هُوَ الْمَسِيحُ يفيد الحصر؛ قيل: و قد قال بذلك بعض طوائف النصارى؛ و قيل: لم يقل به أحد منهم، و لكن استلزم قولهم إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ لا غيره، و قد تقدّم في آخر سورة النساء ما يكفي و يغني عن التكرار. قوله: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً الاستفهام للتوبيخ و التقريع.
و الملك؛ و الملك: الضبط و الحفظ و القدرة، من قولهم: ملكت على فلان أمره: أي قدرت عليه: أي فمن يقدر أن يمنع إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً و إذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك فلا إله إلا اللّه، و لا ربّ غيره، و لا معبود بحق سواه، و لو كان المسيح إلها كما تزعم النصارى لكان له من الأمر شيء، و لقدر على أن يدفع عن نفسه أقلّ حال و لم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها، و تخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم من في الأرض لكون الدفع منه عنها أولى و أحق من غيرها، فهو إذا لم يقدر على الدّفع عنها أعجز عن أن يدفع عن غيرها، و ذكر من في الأرض للدلالة على شمول قدرته، و أنه إذا أراد شيئا كان لا معارض له في أمره و لا مشارك له في قضائه وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما أي ما بين النوعين من المخلوقات. قوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته، و أنه يقدر على كل شيء لا يستصعب عليه شيء. قوله: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزيز حيث قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ و أثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1» و قيل: هو على حذف مضاف:
أي نحن أتباع أبناء اللّه، و هكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء اللّه بمجرد الدعوى الباطلة و الأماني العاطلة، فأمر اللّه سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم أن يردّ عليهم، فقال: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي إن كنتم كما تزعمون، فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل و المسخ و بالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك لقولكم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «2» فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب و أنتم تذنبون، و الحبيب لا يعذب حبيبه و أنتم تعذبون، فهذا يدلّ على أنكم كاذبون في هذه الدعوى. و هذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف. قوله: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ عطف على مقدّر يدلّ عليه الكلام: أي فلستم حينئذ كذلك بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي من جنس من خلقه اللّه تعالى يحاسبهم على الخير و الشرّ، و يجازي كل عامل بعمله يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي تصيرون إليه عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة.
(1). التوبة: 30.
(2). البقرة: 80.
فتح القدير، ج2، ص: 30
و قد أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال:
أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نعمان بن أضاء و بحريّ بن عمرو و شأس بن عديّ فكلّموه و كلّمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و دعاهم إلى اللّه و حذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ كقول النصارى فأنزل اللّه فيهم وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى إلى آخر الآية. و أخرج أحمد في مسنده عن أنس قال: «مرّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في نفر من أصحابه، و صبيّ في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى و تقول: ابني ابني، فسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول اللّه ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار! فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا، و اللّه لا يلقي حبيبه في النار». و إسناده في المسند هكذا: حدّثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس فذكره. و معنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث، و لهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يردّ عليه، فتلا الصوفيّ هذه الآية. و أخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لا و اللّه لا يعذب اللّه حبيبه، و لكن قد يبتليه في الدنيا».
و أخرج ابن جرير عن السديّ في قوله: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، و يميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه.
[سورة المائدة (5): آية 19]
المراد بأهل الكتاب اليهود و النصارى. و الرسول هو محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و يُبَيِّنُ لَكُمْ حال. و المبين هو ما شرعه اللّه لعباده و حذف للعلم به، لأنّ بعثة الرسل إنما هي بذلك. و الفترة أصلها السكون، يقال فتر الشيء:
سكن؛ و قيل: هي الانقطاع. قاله أبو علي الفارسي و غيره؛ و منه فتر الماء: إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة؛ و فتر الرجل عن عمله: إذا انقطع عما كان عليه من الجدّ فيه، و امرأة فاترة الطرف: أي منقطعة عن حدة النظر. و المعنى: أنه انقطع الرسل قبل بعثه صلّى اللّه عليه و سلّم مدّة من الزمان. و اختلف في قدر مدّة تلك الفترة و سيأتي بيان ذلك. قوله: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة: أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم، و مِنَ في قوله: مِنْ بَشِيرٍ زائدة للمبالغة في نفي المجيء، و الفاء في قوله: فَقَدْ جاءَكُمْ هي الفصيحة مثل قول الشاعر:
فقد جئنا خراسانا أي لا تعتذروا فقد جاءكم بشير و نذير، و هو محمد صلّى اللّه عليه و سلّم وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، و من جملة مقدوراته إرسال رسوله على فترة من الرسل.
و قد أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال:
دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يهود إلى الإسلام، فرغّبهم فيه و حذّرهم فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل و سعد
فتح القدير، ج2، ص: 31
ابن عبادة و عقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا اللّه فو اللّه إنكم لتعلمون أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه و تصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حرملة و وهب بن يهوذا: ما قلنا لكم هذا و ما أنزل اللّه من كتاب من بعد موسى و لا أرسل بشيرا و لا نذيرا بعده، فأنزل اللّه يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ الآية. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في الآية قال: هو محمد صلّى اللّه عليه و سلّم جاء بالحق الذي فرّق اللّه به بين الحق و الباطل، فيه بيان و موعظة و نور و هدى و عصمة لمن أخذ به. قال: و كانت الفترة بين عيسى و محمد ستّمائة سنة و ما شاء اللّه من ذلك. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير عنه قال: كانت خمسمائة سنة و ستين سنة. و قال الكلبي: خمسمائة سنة و أربعين سنة. و أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانت خمسمائة سنة. و أخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كانت أربعمائة سنة و بضعا و ثلاثين سنة. و أخرج ابن سعد في كتاب الطبقات عن ابن عباس قال:
كان بين موسى و عيسى ألف سنة و تسعمائة سنة و لم يكن بينهما فترة، فإنه أرسل بينهما ألف نبيّ من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، و كان بين ميلاد عيسى و محمد صلّى اللّه عليه و سلّم خمسمائة سنة و تسع و ستون سنة، بعث في أوّلها ثلاثة أنبياء كما قال اللّه تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «1» و الذي عزّز به شمعون و كان من الحواريين، و كانت الفترة التي لم يبعث اللّه فيها رسولا أربعمائة سنة و أربعة و ثلاثين سنة.
و قد قيل غير ما ذكرناه.
[سورة المائدة (5): الآيات 20 الى 26]
هذه الآيات متضمنة للبيان من اللّه سبحانه بأنّ أسلاف اليهود الموجودين في عصر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم تمرّدوا على موسى و عصوه كما تمرّد هؤلاء على نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم و عصوه، و في ذلك تسلية له صلّى اللّه عليه و سلّم، و روي عن عبد اللّه بن كثير أنه قرأ يا قَوْمِ اذْكُرُوا بضم الميم و كذا قرأ فيما أشبهه، و تقديره: يا أيها القوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء: أي وقت هذا الجعل، و إيقاع الذّكر على الوقت مع كون المقصود ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، لأنّ الأمر بذكر الوقت أمر بذكر ما وقع فيه بطريق الأولى، و امتنّ عليهم سبحانه بجعل الأنبياء فيهم مع كونه قد جعل أنبياء من غيرهم، لكثرة من بعثه من الأنبياء منهم قوله: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي: و جعل
(1). يس: 14.
فتح القدير، ج2، ص: 32
منكم ملوكا، و إنما حذف حرف الجرّ لظهور أنّ معنى الكلام على تقديره، و يمكن أن يقال: إن منصب النبوّة لما كان لعظم قدره و جلالة خطره بحيث لا ينسب إلى غير من هو له قال فيه: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ و لما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قال به كما تقول قرابة الملك نحن الملوك، قال فيه: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً و قيل المراد بالملك: أنهم ملوكا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون، فهم جميعا ملوك بهذا المعنى؛ و قيل معناه: أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن؛ و قيل: غير ذلك. و الظاهر أنّ المراد من الآية الملك الحقيقي، و لو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى. فإن قلت: قد جعل غيرهم ملوكا كما جعلهم. قلت: قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء، فهذا وجه الامتنان. قوله: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي من المنّ و السلوى و الحجر و الغمام و كثرة الأنبياء و كثرة الملوك و غير ذلك. و المراد عالمي زمانهم. و قيل: إن الخطاب هاهنا لأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو عدول عن الظاهر لغير موجب، و الصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أنه من كلام موسى لقومه، و خاطبهم بهذا الخطاب توطئة و تمهيدا لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدّسة.
و قد اختلف في تعيينها؛ فقال قتادة: هي الشام، و قال مجاهد: الطور و ما حوله، و قال ابن عباس و السدّي و غيرهما: أريحاء، و قال الزجاج: دمشق و فلسطين و بعض الأردن. و قول قتادة يجمع هذه الأقوال المذكورة بعده. و المقدسة: المطهرة، و قيل: المباركة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قسّمها و قدّرها لهم في سابق علمه و جعلها مسكنا لكم وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي لا ترجعوا عن أمري و تتركوا طاعتي و ما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبنا و فشلا فَتَنْقَلِبُوا بسبب ذلك خاسِرِينَ لخير الدنيا و الآخرة قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ قال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي، و هو الذي يجبر الناس على ما يريد، و أصله على هذا من الإجبار و هو الإكراه، فإنه يجبر غيره على ما يريده، يقال أجبره: إذا أكرهه؛ و قيل: هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح لأمر نفسه، ثم استعمل في كلّ من جرّ إلى نفسه نفعا بحق أو باطل؛ و قيل: إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه. قال الفراء: لم أسمع فعّالا من أفعل إلا في حرفين، جبّار من أجبر، و درّاك من أدرك. و المراد هنا: أنهم قوم عظام الأجسام طوال متعاظمون؛ قيل: هم قوم من بقية قوم عاد؛ و قيل: هم من ولد عيص بن إسحاق؛ و قيل: هم من الروم؛ و يقال: إن منهم عوج ابن عنق المشهور بالطوال المفرط، و عنق هي بنت آدم، قيل: كان طوله ثلاثة آلاف ذراع و ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثين ذراعا و ثلث ذراع. قال ابن كثير: و هذا شيء يستحيا من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن اللّه خلق آدم و طوله ستّون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص». ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا، و أنه كان ولد زنية، و أنه امتنع من ركوب السفينة و أن الطوفان لم يصل إلى ركبته، و هذا كذب و افتراء، فإن اللّه ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» ، و قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ- ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ «2» و قال تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ «3» . و إذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف
(1). نوح: 26.
(2). الشعراء: 119- 120.
(3). هود: 43.
فتح القدير، ج2، ص: 33
يبقى عوج بن عنق و هو كافر ولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل و لا شرع، ثم في وجود رجل يقال له عوج ابن عنق نظر و اللّه أعلم، انتهى كلامه.
قلت: لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضي تطويل الكلام في شأنه، و ما هذا بأوّل كذبة اشتهرت في الناس، و لسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التي وضعها القصاص و نفقت عند من لا يميز بين الصحيح و السقيم، فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب و بلايا و أقاصيص كلها حديث خرافة، و ما أحقّ من لا تمييز عنده لفنّ الرواية و لا معرفة به أن يدع التعرّض لتفسير كتاب اللّه، و يضع هذه الحماقات و الأضحوكات في المواضع المناسبة لها من كتب القصاص. قوله: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ هذا تصريح بما هو مفهوم من الجملة التي قبل هذه الجملة لبيان أن امتناعهم من الدخول ليس إلا لهذا السبب. قوله: قالَ رَجُلانِ هما يوشع و كالب بن يوفنا أو ابن فانيا، و كانا من الاثني عشر نقيبا كما مرّ بيان ذلك. و قوله: مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون من اللّه عزّ و جلّ؛ و قيل من الجبارين أي هذان الرجلان من جملة القوم الذين يخافون من الجبارين؛ و قيل: من الذين يخافون ضعف بني إسرائيل و جبنهم و قيل: إن الواو في يَخافُونَ لبني إسرائيل: أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل. و قرأ مجاهد و سعيد بن جبير يَخافُونَ بضم الياء: أي يخافهم غيرهم. قوله: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا في محل رفع على أنه صفة ثانية لرجلان، بالإيمان و اليقين بحصول ما و عدوا به من النصر و الظفر ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب بلد الجبارين فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ قالا: هذه المقالة لبني إسرائيل. و الظاهر أنهما قد علما بذلك من خبر موسى، أو قالاه ثقة بوعد اللّه، أو كانا قد عرفا أن الجبارين قد ملئت قلوبهم خوفا و رعبا قالُوا أي بنو إسرائيل لموسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها و كان هذا القول منهم فشلا و جبنا أو عنادا و جرأة على اللّه و على رسوله فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا قالوا: هذا جهلا باللّه عزّ و جلّ و بصفاته و كفرا بما يجب له، أو استهانة باللّه و رسوله؛ و قيل:
أرادوا بالذهاب الإرادة و القصد؛ و قيل: أرادوا بالربّ هارون، و كان أكبر من موسى، و كان موسى يطيعه إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ أي لا نبرح هاهنا، لا نتقدّم معك و لا نتأخر عن هذا الموضع؛ و قيل: أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر قالَ موسى رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي يحتمل أن يعطف و أخي على نفسي، و أن يعطف على الضمير في إِنِّي أي إني لا أملك إلا نفسي و إن أخي لا يملك إلا نفسه، قال هذا تحسرا و تحزنا و استجلابا للنصر من اللّه عزّ و جلّ فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي افصل بيننا: يعني نفسه و أخاه و بين القوم الفاسقين، و ميزنا عن جملتهم، و لا تحلقنا بهم في العقوبة؛ و قيل المعنى:
فاقض بيننا و بينهم، و قيل: إنما أراد في الآخرة. و قرأ عبيد بن عمير فَافْرُقْ بكسر الراء. قالَ فَإِنَّها أي الأرض المقدّسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف للتحريم: أي أنه محرّم عليهم دخولها هذه المدّة لا زيادة عليها، فلا يخالف هذا التحريم ما تقدّم من قوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فإنها مكتوبة لمن بقي منهم بعد هذه المدّة؛ و قيل: إنه لم يدخلها أحد من قال: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها فيكون توقيت التحريم بهذه المدّة باعتبار ذراريهم؛ و قيل: إن أَرْبَعِينَ سَنَةً
فتح القدير، ج2، ص: 34
ظرف لقوله: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقا. و الموقت: هو التيه، و هو في اللغة الحيرة، يقال منه: تاه يتيه تيها أو توها إذا تحيّر، فالمعنى: يتحيّرون في الأرض؛ قيل: إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ، كانوا يمسون حيث أصبحوا و يصبحون حيث أمسوا، و كانوا سيّارة مستمرّين على ذلك لا قرار لهم.
و اختلف أهل العلم هل كان معهم موسى و هارون أم لا؟ فقيل: لم يكونا معهم، لأن التيه عقوبة؛ و قيل:
كانا معهم لكن سهل اللّه عليهما ذلك كما جعل النار بردا و سلاما على إبراهيم. و قد قيل: كيف يقع هذا الجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة في هذه المدّة الطويلة؟ قال أبو علي: يكون ذلك بأن يحوّل اللّه الأرض التي هم عليها إذا ناموا إلى المكان الذي ابتدءوا منه، و قد يكون بغير ذلك من الأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارقة للعادة.
و قد أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في قوله: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال: ملّكهم الخدم، و كانوا أوّل من ملك الخدم. و أخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة و الخادم و الدار سمّي ملكا. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد ابن جرير عنه في الآية قال: الزوجة و الخادم و البيت. و أخرج الفريابي و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه و البيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا في قوله: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال: المرأة و الخدم وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ. و أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم و دابة و امرأة كتب ملكا».
و أخرج ابن جرير و الزبير بن بكار في الموفقيات عن زيد بن أسلم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من كان له بيت و خادم فهو ملك». و أخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
«زوجة و مسكن و خادم». و أخرج سعيد بن منصور و ابن جرير عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه سأله رجل: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ قال: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟
قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: إن لي خادما، قال: فأنت من الملوك. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد في قوله: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال: جعل لهم أزواجا و خدما و بيوتا وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قال: المنّ و السلوى و الحجر و الغمام. و أخرج ابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال: المنّ و السلوى و الحجر و الغمام، و قد ثبت في الحديث الصحيح «من أصبح منكم معافى في جسده، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدّنيا بحذافيرها». و أخرج ابن جرير عنه في قوله: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قال: الطور و ما حوله. و أخرج عنه أيضا قال: