کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج2، ص: 32
منكم ملوكا، و إنما حذف حرف الجرّ لظهور أنّ معنى الكلام على تقديره، و يمكن أن يقال: إن منصب النبوّة لما كان لعظم قدره و جلالة خطره بحيث لا ينسب إلى غير من هو له قال فيه: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ و لما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قال به كما تقول قرابة الملك نحن الملوك، قال فيه: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً و قيل المراد بالملك: أنهم ملوكا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون، فهم جميعا ملوك بهذا المعنى؛ و قيل معناه: أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن؛ و قيل: غير ذلك. و الظاهر أنّ المراد من الآية الملك الحقيقي، و لو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى. فإن قلت: قد جعل غيرهم ملوكا كما جعلهم. قلت: قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء، فهذا وجه الامتنان. قوله: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي من المنّ و السلوى و الحجر و الغمام و كثرة الأنبياء و كثرة الملوك و غير ذلك. و المراد عالمي زمانهم. و قيل: إن الخطاب هاهنا لأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو عدول عن الظاهر لغير موجب، و الصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أنه من كلام موسى لقومه، و خاطبهم بهذا الخطاب توطئة و تمهيدا لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدّسة.
و قد اختلف في تعيينها؛ فقال قتادة: هي الشام، و قال مجاهد: الطور و ما حوله، و قال ابن عباس و السدّي و غيرهما: أريحاء، و قال الزجاج: دمشق و فلسطين و بعض الأردن. و قول قتادة يجمع هذه الأقوال المذكورة بعده. و المقدسة: المطهرة، و قيل: المباركة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قسّمها و قدّرها لهم في سابق علمه و جعلها مسكنا لكم وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي لا ترجعوا عن أمري و تتركوا طاعتي و ما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبنا و فشلا فَتَنْقَلِبُوا بسبب ذلك خاسِرِينَ لخير الدنيا و الآخرة قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ قال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي، و هو الذي يجبر الناس على ما يريد، و أصله على هذا من الإجبار و هو الإكراه، فإنه يجبر غيره على ما يريده، يقال أجبره: إذا أكرهه؛ و قيل: هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح لأمر نفسه، ثم استعمل في كلّ من جرّ إلى نفسه نفعا بحق أو باطل؛ و قيل: إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه. قال الفراء: لم أسمع فعّالا من أفعل إلا في حرفين، جبّار من أجبر، و درّاك من أدرك. و المراد هنا: أنهم قوم عظام الأجسام طوال متعاظمون؛ قيل: هم قوم من بقية قوم عاد؛ و قيل: هم من ولد عيص بن إسحاق؛ و قيل: هم من الروم؛ و يقال: إن منهم عوج ابن عنق المشهور بالطوال المفرط، و عنق هي بنت آدم، قيل: كان طوله ثلاثة آلاف ذراع و ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثين ذراعا و ثلث ذراع. قال ابن كثير: و هذا شيء يستحيا من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن اللّه خلق آدم و طوله ستّون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص». ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا، و أنه كان ولد زنية، و أنه امتنع من ركوب السفينة و أن الطوفان لم يصل إلى ركبته، و هذا كذب و افتراء، فإن اللّه ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» ، و قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ- ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ «2» و قال تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ «3» . و إذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف
(1). نوح: 26.
(2). الشعراء: 119- 120.
(3). هود: 43.
فتح القدير، ج2، ص: 33
يبقى عوج بن عنق و هو كافر ولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل و لا شرع، ثم في وجود رجل يقال له عوج ابن عنق نظر و اللّه أعلم، انتهى كلامه.
قلت: لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضي تطويل الكلام في شأنه، و ما هذا بأوّل كذبة اشتهرت في الناس، و لسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التي وضعها القصاص و نفقت عند من لا يميز بين الصحيح و السقيم، فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب و بلايا و أقاصيص كلها حديث خرافة، و ما أحقّ من لا تمييز عنده لفنّ الرواية و لا معرفة به أن يدع التعرّض لتفسير كتاب اللّه، و يضع هذه الحماقات و الأضحوكات في المواضع المناسبة لها من كتب القصاص. قوله: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ هذا تصريح بما هو مفهوم من الجملة التي قبل هذه الجملة لبيان أن امتناعهم من الدخول ليس إلا لهذا السبب. قوله: قالَ رَجُلانِ هما يوشع و كالب بن يوفنا أو ابن فانيا، و كانا من الاثني عشر نقيبا كما مرّ بيان ذلك. و قوله: مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون من اللّه عزّ و جلّ؛ و قيل من الجبارين أي هذان الرجلان من جملة القوم الذين يخافون من الجبارين؛ و قيل: من الذين يخافون ضعف بني إسرائيل و جبنهم و قيل: إن الواو في يَخافُونَ لبني إسرائيل: أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل. و قرأ مجاهد و سعيد بن جبير يَخافُونَ بضم الياء: أي يخافهم غيرهم. قوله: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا في محل رفع على أنه صفة ثانية لرجلان، بالإيمان و اليقين بحصول ما و عدوا به من النصر و الظفر ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب بلد الجبارين فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ قالا: هذه المقالة لبني إسرائيل. و الظاهر أنهما قد علما بذلك من خبر موسى، أو قالاه ثقة بوعد اللّه، أو كانا قد عرفا أن الجبارين قد ملئت قلوبهم خوفا و رعبا قالُوا أي بنو إسرائيل لموسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها و كان هذا القول منهم فشلا و جبنا أو عنادا و جرأة على اللّه و على رسوله فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا قالوا: هذا جهلا باللّه عزّ و جلّ و بصفاته و كفرا بما يجب له، أو استهانة باللّه و رسوله؛ و قيل:
أرادوا بالذهاب الإرادة و القصد؛ و قيل: أرادوا بالربّ هارون، و كان أكبر من موسى، و كان موسى يطيعه إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ أي لا نبرح هاهنا، لا نتقدّم معك و لا نتأخر عن هذا الموضع؛ و قيل: أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر قالَ موسى رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي يحتمل أن يعطف و أخي على نفسي، و أن يعطف على الضمير في إِنِّي أي إني لا أملك إلا نفسي و إن أخي لا يملك إلا نفسه، قال هذا تحسرا و تحزنا و استجلابا للنصر من اللّه عزّ و جلّ فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي افصل بيننا: يعني نفسه و أخاه و بين القوم الفاسقين، و ميزنا عن جملتهم، و لا تحلقنا بهم في العقوبة؛ و قيل المعنى:
فاقض بيننا و بينهم، و قيل: إنما أراد في الآخرة. و قرأ عبيد بن عمير فَافْرُقْ بكسر الراء. قالَ فَإِنَّها أي الأرض المقدّسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف للتحريم: أي أنه محرّم عليهم دخولها هذه المدّة لا زيادة عليها، فلا يخالف هذا التحريم ما تقدّم من قوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فإنها مكتوبة لمن بقي منهم بعد هذه المدّة؛ و قيل: إنه لم يدخلها أحد من قال: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها فيكون توقيت التحريم بهذه المدّة باعتبار ذراريهم؛ و قيل: إن أَرْبَعِينَ سَنَةً
فتح القدير، ج2، ص: 34
ظرف لقوله: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقا. و الموقت: هو التيه، و هو في اللغة الحيرة، يقال منه: تاه يتيه تيها أو توها إذا تحيّر، فالمعنى: يتحيّرون في الأرض؛ قيل: إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ، كانوا يمسون حيث أصبحوا و يصبحون حيث أمسوا، و كانوا سيّارة مستمرّين على ذلك لا قرار لهم.
و اختلف أهل العلم هل كان معهم موسى و هارون أم لا؟ فقيل: لم يكونا معهم، لأن التيه عقوبة؛ و قيل:
كانا معهم لكن سهل اللّه عليهما ذلك كما جعل النار بردا و سلاما على إبراهيم. و قد قيل: كيف يقع هذا الجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة في هذه المدّة الطويلة؟ قال أبو علي: يكون ذلك بأن يحوّل اللّه الأرض التي هم عليها إذا ناموا إلى المكان الذي ابتدءوا منه، و قد يكون بغير ذلك من الأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارقة للعادة.
و قد أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في قوله: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال: ملّكهم الخدم، و كانوا أوّل من ملك الخدم. و أخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة و الخادم و الدار سمّي ملكا. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد ابن جرير عنه في الآية قال: الزوجة و الخادم و البيت. و أخرج الفريابي و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه و البيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا في قوله: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال: المرأة و الخدم وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ. و أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم و دابة و امرأة كتب ملكا».
و أخرج ابن جرير و الزبير بن بكار في الموفقيات عن زيد بن أسلم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من كان له بيت و خادم فهو ملك». و أخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
«زوجة و مسكن و خادم». و أخرج سعيد بن منصور و ابن جرير عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه سأله رجل: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ قال: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟
قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: إن لي خادما، قال: فأنت من الملوك. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد في قوله: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال: جعل لهم أزواجا و خدما و بيوتا وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قال: المنّ و السلوى و الحجر و الغمام. و أخرج ابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال: المنّ و السلوى و الحجر و الغمام، و قد ثبت في الحديث الصحيح «من أصبح منكم معافى في جسده، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدّنيا بحذافيرها». و أخرج ابن جرير عنه في قوله: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قال: الطور و ما حوله. و أخرج عنه أيضا قال:
هي أريحاء. و أخرج ابن عساكر عن معاذ بن جبل قال: هي ما بين العريش إلى الفرات. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد عن قتادة قال: هي الشام. و أخرج ابن جرير عن السديّ في قوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
فتح القدير، ج2، ص: 35
قال: التي أمركم اللّه بها. و أخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: أمر القوم بها كما أمرنا بالصلاة و الزكاة و الحجّ و العمرة. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين، فسار بمن معه حتى نزل قريبا من المدينة و هي أريحاء، فبعث إليهم اثني عشر عينا، من كل سبط منهم عين، ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة فرأوا أمرا عظيما من هيئتهم و جسمهم و عظمهم، فدخلوا حائطا لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم، فكلما أصاب واحدا منهم أخذه فجعله في كمّه مع الفاكهة حتى التقط الاثني عشر كلهم فجعلهم في كمّه مع الفاكهة، و ذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك: قد رأيتم شأننا و أمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال: اكتموا عنا، فجعل الرجل يخبر أباه و صديقه و يقول: اكتم عني، فأشيع ذلك في عسكرهم و لم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون و كالب بن يوفنا، و هما اللذان أنزل اللّه فيهما:
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ و قد روي نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء و عظم أجسامهم، و لا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص كما قدّمنا. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: فَافْرُقْ يقول: اقض. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عنه يقول: افصل بيننا و بينهم. و أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ قال: أبدا، و في قوله: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ قال:
أربعين سنة. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تاهوا أربعين سنة، فهلك موسى و هارون في التيه، و كل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، و هو الذي قام بالأمر بعد موسى، و هو الذي افتتحها و هو الذي قيل له: اليوم يوم جمعة! فهموا بافتتاحها فدنت الشمس للغروب، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس: إني مأمور و أنت مأمورة فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط، فقرّبوه إلى النار فلم تأت، فقال: فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط و هم اثنا عشر رجلا فبايعهم و التصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت و أسنان من لؤلؤ، فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها.
و أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق و لا تدرن.
[سورة المائدة (5): الآيات 27 الى 31]
فتح القدير، ج2، ص: 36
وجه اتصال هذا بما قبله التنبيه من اللّه على أن ظلم اليهود و نقضهم المواثيق و العهود هو كظلم ابن آدم لأخيه، فالداء قديم، و الشرّ أصيل.
و قد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين هل هما لصلبه أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأوّل. و ذهب الحسن و الضحّاك إلى الثاني، و قالا: إنهما كانا من بني إسرائيل فضرب بهما المثل في إبانة حسد اليهود، و كانت بينهما خصومة فتقرّبا بقربانين و لم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل. قال ابن عطية: و هذا و هم كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب؟ قال الجمهور من الصحابة فمن بعدهم: و اسمهما قابيل و هابيل، و كان قربان قابيل حزمة من سنبل، لأنه كان صاحب زرع و اختارها من أردأ زرعه، حتى إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها و أكلها، و كان قربان هابيل كبشا لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه، فتقبل قربان هابيل فرفع إلى الجنة، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذّبيح عليه السلام، كذا قال جماعة من السلف، و لم يتقبل قربان قابيل، فحسده و قال: لأقتلنك. و قيل: سبب هذا القربان أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا و أنثى، إلا شيئا عليه السلام فإنها ولدته منفردا، و كان آدم عليه السلام يزوّج الذكر من هذا البطن بالأنثى من البطن الآخر، و لا تحلّ له أخته التي ولدت معه، فولدت مع قابيل أخت جميلة و اسمها إقليما، و مع هابيل أخت ليست كذلك و اسمها ليوذا فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر و زجره فلم ينزجر، فاتّفقوا على القربان و أنه يتزوّجها من تقبل قربانه. قوله: بِالْحَقِ متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر وَ اتْلُ أي تلاوة متلبسة بالحق، أو صفة لنبأ: أي نبأ متلبسا بالحق، و المراد بأحدهما هابيل و بالآخر قابيل، و قالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ استئناف بياني كأنه فماذا قال الذي لم يتقبل قربانه؟ و قوله: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ استئناف كالأوّل كأنه قيل: فماذا قال الذي تقبّل قربانه؟
و إنما للحصر: أي إنما يتقبل اللّه القربان من المتقين لا من غيرهم، و كأنه يقول لأخيه: إنما أتيت من قبل نفسك لا من قبلي، فإن عدم تقبل قربانك بسبب عدم تقواك. قوله: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي أي لأن قصدت قتلي، و اللام هي الموطئة، و ما أَنَا بِباسِطٍ جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط، و هذا استسلام للقتل من هابيل، كما ورد في الحديث: «إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم» و تلا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هذه الآية. قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسلّ أحد سيفا و أن لا يمتنع ممن يريد قتله، قال القرطبي: قال علماؤنا: و ذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا، و في وجوب ذلك عليه خلاف. و الأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر. و في الحشوية قوم لا يجوّزون للمصول عليه الدفع، و احتجوا بحديث أبي ذرّ، و حمله العلماء على ترك القتال في الفتنة و كفّ اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب التذكرة، انتهى كلام القرطبي. و حديث أبي ذرّ المشار إليه هو عند مسلم و أهل السنن إلا النسائي، و فيه «أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال له: يا أبا ذرّ أ رأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا كيف تصنع؟ قلت:
اللّه و رسوله أعلم، قال: اقعد في بيتك و أغلق عليك بابك، قال: فإن لم أترك، قال: فأت من أنت منهم فكن فيهم، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذن تشاركهم فيما هم فيه، و لكن إن خشيت أن يردعك
فتح القدير، ج2، ص: 37
شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه و إثمك». و في معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة سعد بن أبي وقاص و أبي هريرة و خباب بن الأرتّ و أبي بكر و ابن مسعود و أبي واقد و أبي موسى.
قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ هذا تعليل لامتناعه من المقاتلة بعد التعليل الأوّل و هو إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ .
اختلف المفسرون في المعنى فقيل: أراد هابيل إنّي أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك، و بإثمك الذي تحملته بسبب قتلي؛ و قيل: المراد بإثمي الذي يختصّ بي بسبب سيأتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي و تبوء بإثمك في قتلي. و هذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:
«يؤتى يوم القيامة بالظّالم و المظلوم، فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه»، و مثله قوله تعالى: وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» و قيل المعنى: إني أريد أن لا تبوء بإثمي و إثمك، كما في قوله تعالى: وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ* «2» أي أن لا تميد بكم. و قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «3» أي أن لا تضلوا. و قال أكثر العلماء: إن المعنى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي أي بإثم قتلك لي وَ إِثْمِكَ الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي. قال الثعلبي: هذا قول عامة المفسرين و قيل: هو على وجه الإنكار: أي أو إني أريد، على وجه الإنكار كقوله تعالى: وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ «4» أي أو تلك نعمة. قاله القشيري، و وجهه بأن إرادة القتل معصية. و سئل أبو الحسن بن كيسان: كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه و أن يدخل النار؟ فقال: وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل، و هذا بعيد جدّا، و كذلك الذي قبله. و أصل باء: رجع إلى المباءة، و هي المنزل وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ* «5» أي رجعوا. قوله: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أي سهلت نفسه عليه الأمر و شجعته و صوّرت له أن قتل أخيه طوع يده سهل عليه، يقال: تطوّع الشيء: أي سهل و انقاد و طوعه فلان له: أي سهله. قال الهروي: طوّعت و طاوعت واحد، يقال: طاع له كذا: إذا أتاه طوعا، و في ذكر تطويع نفسه له بعد ما تقدّم من قول قابيل لَأَقْتُلَنَّكَ و قول هابيل لِتَقْتُلَنِي دليل على أنّ التطويع لم يكن قد حصل له عند تلك المقاولة. قوله: فَقَتَلَهُ . قال ابن جرير و مجاهد و غيرهما:
روي أنه جهل كيف يقتل أخاه فجاءه إبليس بطائر أو حيوان غيره، فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل؛ و قيل: غير ذلك مما يحتاج إلى تصحيح الرواية. قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قيل: إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه؛ لكونه أوّل ميت مات من بني آدم، فبعث اللّه غرابين أخوين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه فحفر له، ثم حثا عليه، فلما رآه قابيل قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فواراه، و الضمير المستكن في لِيُرِيَهُ للغراب؛ و قيل للّه سبحانه، و كَيْفَ في محل نصب على الحال من ضمير يُوارِي و الجملة ثاني مفعولي يريه. و المراد بالسوءة هنا ذاته كلها لكونها ميتة، و قالَ استئناف جواب سؤال مقدّر من سوق الكلام، كأنه قيل: فماذا قال عند أن شاهد الغراب يفعل ذلك؟ و يا وَيْلَتى كلمة تحسّر و تحزّن،
(1). العنكبوت: 13.
(2). النحل: 15.
(3). النساء: 176.
(4). الشعراء: 22.
(5). آل عمران: 112.
فتح القدير، ج2، ص: 38
و الألف بدل من ياء المتكلم كأنه دعا ويلته بأن تحضر في ذلك الوقت، و الويلة: الهلكة، و الكلام خارج مخرج التعجب منه من عدم اهتدائه لمواراة أخيه كما اهتدى الغراب إلى ذلك فَأُوارِيَ بالنصب على أنه جواب الاستفهام، و قرئ بالسكون على تقدير فأنا أواري فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله؛ و قيل: لم يكن ندمه ندم توبة بل ندم لفقده، لا على قتله، و قيل: غير ذلك.
و قد أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن عساكر عن ابن عباس قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها، و أن ينكحها غيره من إخوتها، و كان يولد له في كل بطن رجل و امرأة، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة و ولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك و أنكحك أختي، فقال: لا، أنا أحقّ بأختي، فقرّبا قربانا، فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض، و صاحب الحرث بصبرة من طعام فتقبل من صاحب الكبش، و لم يتقبل من صاحب الزرع. قال ابن كثير في تفسيره: إسناده جيد، و كذا قال السيوطي في الدر المنثور. و أخرج ابن جرير عنه قال: كان من شأن بني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدّق عليه، و إنما كان القربان يقرّبه الرجل، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا ثم ذكرا ما قرباه. و أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ قال:
كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه و لا يمتنع منه. و أخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد في قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ يقول: إنّي أريد أن تكون عليك خطيئتك و دمي فتبوء بهما جميعا. و أخرج ابن جرير عنه بِإِثْمِي : قال: بقتلك إياي وَ إِثْمِكَ ، قال: بما كان منك قبل ذلك. و أخرج عن قتادة و الضحاك مثله. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد في قوله: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قال: شجّعته على قتل أخيه.
و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في الآية قال: زيّنت له نفسه. و أخرج ابن جرير عن ابن مسعود و ناس من الصحابة في قوله: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يوما من الأيام و هو يرعى غنما له و هو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات، فتركه بالعراء و لا يعلم كيف يدفن، فبعث اللّه غرابين أخوين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ . و قد ثبت في الصحيحين و غيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها؛ لأنه أوّل من سنّ القتل». و قد روي في صفة قتله لأخيه روايات اللّه أعلم بصحتها.
[سورة المائدة (5): الآيات 32 الى 34]