کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج2، ص: 135
و قد أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: يَصْدِفُونَ قال:
يعدلون. و أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد في قوله: يَصْدِفُونَ قال: يعرضون، و قال في قوله: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً قال:
فجأة آمنين، أو جهرة، قال: و هم ينظرون. و أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كلّ فسق في القرآن فمعناه الكذب.
[سورة الأنعام (6): الآيات 50 الى 55]
وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
أمره اللّه سبحانه بأن يخبرهم لما كثر اقتراحهم عليه، و تعنّتهم بإنزال الآيات التي تضطرّهم إلى الإيمان، أنه لم يكن عنده خزائن اللّه حتى يأتيهم بما اقترحوه من الآيات، و المراد: خزائن قدرته التي تشتمل على كلّ شيء من الأشياء، و يقول لهم: إنه لا يعلم الغيب حتى يخبرهم به، و يعرّفهم بما سيكون في مستقبل الدهر وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ حتى تكلّفوني من الأفعال الخارقة للعادة ما لا يطيقه البشر، و ليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، و قد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم، و لا يترتب على ذلك فائدة دينية و لا دنيوية. بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني، و من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ أي ما أتبع إلا ما يوحيه اللّه إليّ، و قد تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء عملا بما يفيده القصر في هذه الآية، و المسألة مدوّنة في الأصول و الأدلة عليها معروفة، و قد صحّ عنه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «أوتيت القرآن و مثله معه» قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ هذا الاستفهام للإنكار، و المراد: أنه لا يستوي الضالّ و المهتدي، أو المسلم و الكافر أو من اتبع ما أوحي إليه و من لم يتبعه، و الكلام تمثيل أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ في ذلك حتى تعرفوا عدم الاستواء بينهما، فإنه بين، لا يلتبس على من له أدنى عقل و أقلّ تفكر. قوله: وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ الإنذار: الإعلام، و الضمير في به راجع إلى ما يوحى؛ و قيل إلى اللّه؛ و قيل: إلى اليوم الآخر. و خصّ الذين يخافون أن يحشروا؛ لأنّ الإنذار يؤثر فيهم لما حلّ بهم من الخوف، بخلاف من لا يخاف الحشر من طوائف الكفر لجحوده به و إنكاره
فتح القدير، ج2، ص: 136
له، فإنه لا يؤثر فيه ذلك. قيل: و معنى يخافون: يعلمون و يتيقنون أنهم محشورون، فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين و أهل الذمة و بعض المشركين؛ و قيل معنى الخوف على حقيقته، و المعنى: أنه ينذر به من يظهر عليه الخوف من الحشر عند أن يسمع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يذكره و إن لم يكن مصدقا به في الأصل، لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فإن من كان كذلك تكون الموعظة فيه أنجع و التذكير له أنفع. قوله:
لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ الجملة في محل نصب على الحال، أي أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا وليّ لهم يواليهم و لا نصير يناصرهم و لا شفيع يشفع لهم من دون اللّه، و فيه ردّ على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم، و هم أهل الكتاب، أو أن أصنامهم تشفع لهم، و هم المشركون. قوله: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الدعاء: العبادة مطلقا؛ و قيل: المحافظة على صلاة الجماعة؛ و قيل: الذكر و قراءة القرآن؛ و قيل: المراد: الدعاء للّه بجلب النفع و دفع الضرر. قيل: و المراد بذكر الغداة و العشيّ: الدوام على ذلك و الاستمرار؛ و قيل: هو على ظاهره، و يُرِيدُونَ وَجْهَهُ في محل نصب على الحال. و المعنى: أنهم مخلصون في عبادتهم لا يريدون بذلك إلا وجه اللّه تعالى: أي يتوجهون بذلك إليه لا إلى غيره. قوله: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ هذا كلام معترض بين النهي و جوابه، متضمن لنفي الحامل على الطرد: أي حساب هؤلاء الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب ذلك منك هو على أنفسهم ما عليك منه شيء، و حسابك على نفسك ما عليهم منه شيء، فعلام تطردهم؟ هذا على فرض صحة وصف من وصفهم بقوله: ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «1» و طعن عندك في دينهم و حسبهم، فكيف و قد زكّاهم اللّه عزّ و جلّ بالعبادة و الإخلاص، و هذا هو مثل قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى* «2» و قوله: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «3» و قوله: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي «4» . قوله: فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي في قوله: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ و هو من تمام الاعتراض: أي إذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم، و جالسهم، و لا تطردهم، مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين و الفضل، و من في ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ للتبعيض، و الثانية للتوكيد، و كذا في ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ . قوله: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب للنهي، أعني: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي فإن فعلت ذلك كنت من الظالمين، و حاشاه عن وقوع ذلك، و إنما هو من باب التعريض لئلا يفعل ذلك غيره صلّى اللّه عليه و سلّم من أهل الإسلام كقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «5» ، و قيل: إن فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ معطوف على فَتَطْرُدَهُمْ على طريق التسبب، و الأوّل أولى. قوله: وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي مثل ذلك الفتن العظيم فتنا بعض الناس ببعض، و الفتنة الاختبار: أي عاملناهم معاملة المختبرين، و اللام في لِيَقُولُوا للعاقبة: أي ليقول البعض الأوّل مشيرين إلى البعض الثاني أَ هؤُلاءِ الذين مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي أكرمهم بإصابة الحق دوننا. قال النحاس: و هذا من المشكل، لأنه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذا القول و هو إن كان على طريقة الإنكار كفر، و أجاب بجوابين: الأوّل أن ذلك واقع منهم على طريقة الاستفهام لا على سبيل الإنكار؛ و الثاني
(1). هود: 27.
(2). الأنعام: 164.
(3). النجم: 39.
(4). الشعراء: 113.
(5). الزمر: 65.
فتح القدير، ج2، ص: 137
أنهم لما اختبروا بهذا كان عاقبته هذا القول منهم كقوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «1» .
قوله: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ هذا الاستفهام للتقرير. و المعنى: أن مرجع الاستحقاق لنعم اللّه سبحانه هو الشكر، و هو أعلم بالشاكرين له، فما بالكم تعترضون بالجهل و تنكرون الفضل. قوله: وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا هم الذين نهاه اللّه عن طردهم، و هم المستضعفون من المؤمنين، كما سيأتي بيانه فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمره اللّه بأن يقول لهم هذا القول تطييبا لخواطرهم و إكراما لهم. و السلام، و السلامة:
بمعنى واحد، فمعنى سلام عليكم: سلمكم اللّه. و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام؛ و قيل: إن هذا السلام هو من جهة اللّه: أي أبلغهم منا السلام. قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب ذلك إيجاب فضل و إحسان؛ و قيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. قيل: هذا من جملة ما أمره اللّه سبحانه بإبلاغه إلى أولئك الذين أمره بإبلاغ السلام إليهم تبشيرا بسعة مغفرة اللّه و عظيم رحمته.
قوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قرأ ابن عامر و عاصم و نافع بفتح أن من أنه، و قرأ الباقون بكسرها. فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة بدلا من الرحمة: أي كتب ربكم على نفسه أنه من عمل إلى آخره. و على القراءة الثانية تكون هذه الجملة مفسرة للرحمة بطريق الاستئناف، و موضع بجهالة النصب على الحال، أي عمله و هو جاهل. قيل: و المعنى أنه فعل فعل الجاهلين، لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة مع علمه بذلك أو ظنه، فقد فعل فعل أهل الجهل و السفه لا فعل أهل الحكمة و التدبير؛ و قيل المعنى:
أنه عمل ذلك و هو جاهل لما يتعلّق به من المضرة، فتكون فائدة التقييد بالجهالة: الإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه يؤدي إلى الضرر. قوله: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد عمله وَ أَصْلَحَ ما أفسده بالمعصية، فراجع الصواب و عمل الطاعة فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قرأ ابن عامر و عاصم بفتح الهمزة من فَأَنَّهُ ، و قرأ الباقون بالكسر. فعلى القراءة الأولى تكون أن و ما بعدها خبر مبتدأ محذوف: أي فأمره أن اللّه غفور رحيم، و هذا اختيار سيبويه، و اختار أبو حاتم أن الجملة في محل رفع على الابتداء و الخبر مضمر، كأنه قيل: فله فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال: لأن المبتدأ هو ما بعد الفاء. و أما على القراءة الثانية فالجملة مستأنفة.
قوله: وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك التفصيل نفصلها، و التفصيل: التبيين، و المعنى: أن اللّه فصل لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين، و بين لهم حكم كل طائفة. قوله: وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ .
قال الكوفيون: هو معطوف على مقدّر: أي و كذلك نفصل الآيات لنبين لكم و لتستبين، قال النحاس:
و هذا الحذف لا يحتاج إليه. و قيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى: قرئ لِتَسْتَبِينَ بالفوقية و التحتية، فالخطاب على الفوقية للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم؛ أي لتستبين يا محمد سبيل المجرمين، و سبيل: منصوب على قراءة نافع. و أما على قراءة ابن كثير و أبي عمرو و ابن عامر و حفص بالرفع، فالفعل مسند إلى سبيل، و أما على التحتية فالفعل مسند إلى سبيل أيضا، و هي قراءة حمزة و الكسائي و شعبة بالرفع. و إذا استبان سبيل المجرمين فقد استبان سبيل المؤمنين.
و قد أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن قتادة في قوله:
(1). القصص: 8.
فتح القدير، ج2، ص: 138
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ قال: الأعمى الكافر الذي عمي عن حقّ اللّه و أمره و نعمه عليه، و البصير:
العبد المؤمن الذي أبصر بصرا نافعا فوحّد اللّه وحده، و عمل بطاعة ربه، و انتفع بما آتاه اللّه. و أخرج أحمد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن عبد اللّه ابن مسعود قال: «مرّ الملأ من قريش على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و عنده صهيب و عمّار و بلال و خبّاب و نحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أ نحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنا، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل اللّه فيهم القرآن وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ إلى قوله: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ . و قد أخرج هذا السبب مطوّلا ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة، و فيه: إن الذين جاءوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و قرظة بن عبد عمرو بن نوفل و الحارث بن عامر بن نوفل و مطعم بن عديّ بن الخيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف. و أخرجه ابن أبي شيبة و ابن ماجة و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه، و أبو نعيم في الحلية، و البيهقي في الدلائل عن خبّاب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة ابن حصن الفزاري، فذكر نحو حديث عبد اللّه بن مسعود مطوّلا. قال ابن كثير: هذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، و الأقرع و عيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر. و أخرج مسلم و النسائي و ابن ماجة و غيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا و عبد اللّه بن مسعود و بلال و رجل من هذيل و رجلان لست أسمّيهما، فقال المشركون للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترءون علينا، فوقع في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ما شاء اللّه أن يقع فحدّث نفسه، فأنزل اللّه وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ . و قد روي في بيان السبب روايات موافقة لما ذكرنا في المعنى. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ قال: يعني الصلاة المكتوبة. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الصلاة المكتوبة الصّبح و العصر. و أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن إبراهيم النخعي في الآية قال: هم أهل الذكر لا تطردهم عن الذكر. قال سفيان: أي أهل الفقه. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني أنه جعل بعضهم أغنياء و بعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء: أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا يعني أ هؤلاء هداهم اللّه، و إنما قالوا ذلك استهزاء و سخرية. و أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أ هؤلاء الذين منّ اللّه عليهم من بيننا أي لو كان لهم كرامة على اللّه ما أصابهم هذا الجهد.
و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ماهان قال: أتى قوم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما، فما ردّ عليهم شيئا فانصرفوا، فأنزل اللّه وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا الآية. فدعاهم فقرأها عليهم. و أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كانوا إذا دخلوا على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بدأهم بالسلام، فقال: سَلامٌ عَلَيْكُمْ و إذا لقيهم فكذلك أيضا. و أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن قتادة في قوله: وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ قال: نبيّن الآيات.
فتح القدير، ج2، ص: 139
و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء.
[سورة الأنعام (6): الآيات 56 الى 59]
قوله: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أمره اللّه سبحانه أن يعود إلى مخاطبة الكفار و يخبرهم بأنه نهي عن عبادة ما يدعونه و يعبدونه من دون اللّه، أي نهاه عن ذلك و صرفه و زجره، ثم أمره سبحانه بأن يقول لهم: لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أي لا أسلك المسلك الذي سلكتموه في دينكم من اتباع الأهواء و المشي على ما توجبه المقاصد الفاسدة التي يتسبب عنها الوقوع في الضلال. قوله: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم و طرد من أردتم طرده وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ إن فعلت ذلك، و هذه الجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، و المجيء بها اسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام و الثبات، و قرئ ضَلَلْتُ بفتح اللام و كسرها و هما لغتان. قال أبو عمرو: ضللت بكسر اللام لغة تميم، و هي قراءة ابن وثاب و طلحة بن مصرف، و الأولى هي الأصح و الأفصح، لأنها لغة أهل الحجاز، و هي قراءة الجمهور.
قال الجوهري: و الضلال و الضلالة: ضدّ الرشاد، و قد ضللت أضلّ. قال اللّه تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي «1» قال فهذه: يعني المفتوحة لغة نجد و هي الفصيحة، و أهل العالية يقول: ضللت بالكسر أضلّ انتهى. قوله: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي البينة: الحجّة و البرهان، أي إني على برهان من ربي و يقين، لا على هوى و شك، أمره اللّه سبحانه بأن يبين لهم أن ما هو عليه من عبادة ربه هو عن حجة برهانية يقينية، لا كما هم عليه من اتباع الشبه الداحضة و الشكوك الفاسدة التي لا مستند لها إلا مجرد الأهوية الباطلة. قوله:
وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ أي بالربّ، أو بالعذاب، أو بالقرآن، أو بالبينة، و التذكير للضمير باعتبار المعنى. و هذه الجملة إما حالية بتقدير قد: أي و الحال أن قد كذبتم به، أو جملة مستأنفة مبينة لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الحجج الواضحة و البراهين البينة. قوله: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلونه من العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله، استهزاء، نحو قوله:
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «2» ، و قولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «3» ، و قولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* «4» ، و قيل: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من الآيات التي تقترحونها عليّ. قوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ : أي ما الحكم في كل شيء إلا للّه سبحانه، و من جملة ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة. و المراد: الحكم الفاصل
(1). سبأ: 50.
(2). الإسراء: 92.
(3). الأنفال: 32.
(4). سبأ: 29.
فتح القدير، ج2، ص: 140
بين الحق و الباطل. قوله: يَقُصُّ الْحَقَ قرأ نافع و ابن كثير و عاصم يَقُصُ بالقاف و الصاد المهملة، و قرأ الباقون يقضي بالضاد المعجمة و الياء، و كذا قرأ عليّ و أبو عبد الرحمن السلمي و سعيد بن المسيب، و هو مكتوب في المصحف بغير ياء. فعلى القراءة الأولى هو من القصص: أي يتبع الحق فيما يحكم به. و على القراءة الثانية هو من القضاء: أي يقضي القضاء بين عباده، و الحق منتصب على المفعولية، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي يقضي القضاء الحق، أو يقص القصص الحق وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي بين الحقّ و الباطل بما يقضي به بين عباده و يفصله لهم في كتابه، ثم أمره اللّه سبحانه أن يقول لهم: لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي ما تطلبون تعجيله بأن يكون إنزاله بكم مقدورا لي و في وسعي لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي لقضى اللّه الأمر بيننا بأن ينزله اللّه سبحانه لكم بسؤالي له و طلبي ذلك؛ أو المعنى: لو كان العذاب الذي تطلبونه و تستعجلون به عندي و في قبضتي لأنزلته بكم، و عند ذلك يقضى الأمر بيني و بينكم وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ و بالوقت الذي ينزل فيه عذابهم و بما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجا لهم و إعذارا إليهم. قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ المفاتح جمع مفتح بالفتح؛ و هو المخزن: أي عنده مخازن الغيب، جعل للأمور الغيبية مخازن تخزن فيها على طريق الاستعارة، أو جمع مفتح بكسر الميم، و هو المفتاح، جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضا، و يؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميقع و عنده مفاتيح الغيب فإن المفاتيح جمع مفتاح و المعنى: إن عنده سبحانه خاصة مخازن الغيب، أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن. و قوله: لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ جملة مؤكّدة لمضمون الجملة الأولى، و أنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر اللّه بعلمها، و يندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق اندراجا أوّليا. و في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهّان و المنجّمين و الرمليين و غيرهم من المدّعين ما ليس من شأنهم، و لا يدخل تحت قدرتهم و لا يحيط به علمهم، و لقد ابتلي الإسلام و أهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة و الأنواع المخذولة و لم يربحوا من أكاذيبهم و أباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلّى اللّه عليه و سلّم: «من أتى كاهنا أو منجّما فقد كفر بما أنزل على محمد». قوله: وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ خصّهما بالذّكر لأنهما من أعظم مخلوقات اللّه: أي يعلم ما فيهما من حيوان و جماد علما مفصلا لا يخفى عليه منه شيء، أو خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس و يتطلعون لعلم ما فيهما وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أي من ورق الشجر و هو تخصيص بعد التعميم: أي يعلمها و يعلم زمان سقوطها و مكانه، و قيل: المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال و الأرزاق، و حكى النقاش عن جعفر بن محمد: أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم، قال ابن عطية: و هذا قول جار على طريقة الرموز و لا يصح عن جعفر بن محمد و لا ينبغي أن يلتفت إليه وَ لا حَبَّةٍ كائنة فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ أي في الأمكنة المظلمة، و قيل: في بطن الأرض وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ بالخفض عطفا على حبة: و هي معطوفة على ورقة. و قرأ ابن السميقع و الحسن و غيرهما بالرفع عطفا على موضع من ورقة، و قد شمل وصف الرطوبة و اليبوسة جميع الموجودات. قوله: إِلَّا فِي
فتح القدير، ج2، ص: 141
كِتابٍ مُبِينٍ هو اللوح المحفوظ، فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من إِلَّا يَعْلَمُها و قيل: هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة.
و قد أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي قال:
على ثقة. و أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن عكرمة في قوله: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ قال: لقامت الساعة. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قال: يقول خزائن الغيب. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قال: هنّ خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى قوله: عَلِيمٌ خَبِيرٌ* «1» . و أخرج أحمد و البخاري و غيرهما عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه:
لا يعلم ما في غد إلا اللّه، و لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه، و لا يعلم متى يأتي المطر إلا اللّه، و لا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله، و لا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا اللّه». و أخرج سعيد بن منصور و عبد ابن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها قال:
ما من شجرة في برّ و لا بحر إلا و بها ملك يكتب ما يسقط من ورقها. و أخرج أبو الشيخ عن مجاهد نحوه.
و أخرج أبو الشيخ عن محمد بن جحادة في قوله: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ قال: للّه تبارك و تعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، فذلك قوله: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها . و أخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ما من زرع على الأرض و لا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان بن فلان» فذلك قوله تعالى: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ الآية. و قد رواه يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فذكره. و أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ فقال: الرطب و اليابس من كلّ شيء.
[سورة الأنعام (6): الآيات 60 الى 62]
قوله: يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم فيقبض فيه نفوسكم التي بها تميزون و ليس ذلك موتا حقيقة، فهو مثل قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «2» و التوفي: استيفاء الشيء، و توفيت الشيء و استوفيته: إذا أخذته أجمع، قال الشاعر:
إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد
و لا توفّاهم قريش في العدد
(1). لقمان: 34.