کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج2، ص: 138
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ قال: الأعمى الكافر الذي عمي عن حقّ اللّه و أمره و نعمه عليه، و البصير:
العبد المؤمن الذي أبصر بصرا نافعا فوحّد اللّه وحده، و عمل بطاعة ربه، و انتفع بما آتاه اللّه. و أخرج أحمد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن عبد اللّه ابن مسعود قال: «مرّ الملأ من قريش على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و عنده صهيب و عمّار و بلال و خبّاب و نحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أ نحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنا، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل اللّه فيهم القرآن وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ إلى قوله: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ . و قد أخرج هذا السبب مطوّلا ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة، و فيه: إن الذين جاءوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و قرظة بن عبد عمرو بن نوفل و الحارث بن عامر بن نوفل و مطعم بن عديّ بن الخيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف. و أخرجه ابن أبي شيبة و ابن ماجة و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه، و أبو نعيم في الحلية، و البيهقي في الدلائل عن خبّاب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة ابن حصن الفزاري، فذكر نحو حديث عبد اللّه بن مسعود مطوّلا. قال ابن كثير: هذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، و الأقرع و عيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر. و أخرج مسلم و النسائي و ابن ماجة و غيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا و عبد اللّه بن مسعود و بلال و رجل من هذيل و رجلان لست أسمّيهما، فقال المشركون للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترءون علينا، فوقع في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ما شاء اللّه أن يقع فحدّث نفسه، فأنزل اللّه وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ . و قد روي في بيان السبب روايات موافقة لما ذكرنا في المعنى. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ قال: يعني الصلاة المكتوبة. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الصلاة المكتوبة الصّبح و العصر. و أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن إبراهيم النخعي في الآية قال: هم أهل الذكر لا تطردهم عن الذكر. قال سفيان: أي أهل الفقه. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني أنه جعل بعضهم أغنياء و بعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء: أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا يعني أ هؤلاء هداهم اللّه، و إنما قالوا ذلك استهزاء و سخرية. و أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أ هؤلاء الذين منّ اللّه عليهم من بيننا أي لو كان لهم كرامة على اللّه ما أصابهم هذا الجهد.
و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ماهان قال: أتى قوم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما، فما ردّ عليهم شيئا فانصرفوا، فأنزل اللّه وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا الآية. فدعاهم فقرأها عليهم. و أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كانوا إذا دخلوا على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بدأهم بالسلام، فقال: سَلامٌ عَلَيْكُمْ و إذا لقيهم فكذلك أيضا. و أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن قتادة في قوله: وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ قال: نبيّن الآيات.
فتح القدير، ج2، ص: 139
و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء.
[سورة الأنعام (6): الآيات 56 الى 59]
قوله: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أمره اللّه سبحانه أن يعود إلى مخاطبة الكفار و يخبرهم بأنه نهي عن عبادة ما يدعونه و يعبدونه من دون اللّه، أي نهاه عن ذلك و صرفه و زجره، ثم أمره سبحانه بأن يقول لهم: لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أي لا أسلك المسلك الذي سلكتموه في دينكم من اتباع الأهواء و المشي على ما توجبه المقاصد الفاسدة التي يتسبب عنها الوقوع في الضلال. قوله: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم و طرد من أردتم طرده وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ إن فعلت ذلك، و هذه الجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، و المجيء بها اسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام و الثبات، و قرئ ضَلَلْتُ بفتح اللام و كسرها و هما لغتان. قال أبو عمرو: ضللت بكسر اللام لغة تميم، و هي قراءة ابن وثاب و طلحة بن مصرف، و الأولى هي الأصح و الأفصح، لأنها لغة أهل الحجاز، و هي قراءة الجمهور.
قال الجوهري: و الضلال و الضلالة: ضدّ الرشاد، و قد ضللت أضلّ. قال اللّه تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي «1» قال فهذه: يعني المفتوحة لغة نجد و هي الفصيحة، و أهل العالية يقول: ضللت بالكسر أضلّ انتهى. قوله: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي البينة: الحجّة و البرهان، أي إني على برهان من ربي و يقين، لا على هوى و شك، أمره اللّه سبحانه بأن يبين لهم أن ما هو عليه من عبادة ربه هو عن حجة برهانية يقينية، لا كما هم عليه من اتباع الشبه الداحضة و الشكوك الفاسدة التي لا مستند لها إلا مجرد الأهوية الباطلة. قوله:
وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ أي بالربّ، أو بالعذاب، أو بالقرآن، أو بالبينة، و التذكير للضمير باعتبار المعنى. و هذه الجملة إما حالية بتقدير قد: أي و الحال أن قد كذبتم به، أو جملة مستأنفة مبينة لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الحجج الواضحة و البراهين البينة. قوله: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلونه من العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله، استهزاء، نحو قوله:
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «2» ، و قولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «3» ، و قولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* «4» ، و قيل: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من الآيات التي تقترحونها عليّ. قوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ : أي ما الحكم في كل شيء إلا للّه سبحانه، و من جملة ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة. و المراد: الحكم الفاصل
(1). سبأ: 50.
(2). الإسراء: 92.
(3). الأنفال: 32.
(4). سبأ: 29.
فتح القدير، ج2، ص: 140
بين الحق و الباطل. قوله: يَقُصُّ الْحَقَ قرأ نافع و ابن كثير و عاصم يَقُصُ بالقاف و الصاد المهملة، و قرأ الباقون يقضي بالضاد المعجمة و الياء، و كذا قرأ عليّ و أبو عبد الرحمن السلمي و سعيد بن المسيب، و هو مكتوب في المصحف بغير ياء. فعلى القراءة الأولى هو من القصص: أي يتبع الحق فيما يحكم به. و على القراءة الثانية هو من القضاء: أي يقضي القضاء بين عباده، و الحق منتصب على المفعولية، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي يقضي القضاء الحق، أو يقص القصص الحق وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي بين الحقّ و الباطل بما يقضي به بين عباده و يفصله لهم في كتابه، ثم أمره اللّه سبحانه أن يقول لهم: لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي ما تطلبون تعجيله بأن يكون إنزاله بكم مقدورا لي و في وسعي لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي لقضى اللّه الأمر بيننا بأن ينزله اللّه سبحانه لكم بسؤالي له و طلبي ذلك؛ أو المعنى: لو كان العذاب الذي تطلبونه و تستعجلون به عندي و في قبضتي لأنزلته بكم، و عند ذلك يقضى الأمر بيني و بينكم وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ و بالوقت الذي ينزل فيه عذابهم و بما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجا لهم و إعذارا إليهم. قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ المفاتح جمع مفتح بالفتح؛ و هو المخزن: أي عنده مخازن الغيب، جعل للأمور الغيبية مخازن تخزن فيها على طريق الاستعارة، أو جمع مفتح بكسر الميم، و هو المفتاح، جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضا، و يؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميقع و عنده مفاتيح الغيب فإن المفاتيح جمع مفتاح و المعنى: إن عنده سبحانه خاصة مخازن الغيب، أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن. و قوله: لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ جملة مؤكّدة لمضمون الجملة الأولى، و أنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر اللّه بعلمها، و يندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق اندراجا أوّليا. و في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهّان و المنجّمين و الرمليين و غيرهم من المدّعين ما ليس من شأنهم، و لا يدخل تحت قدرتهم و لا يحيط به علمهم، و لقد ابتلي الإسلام و أهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة و الأنواع المخذولة و لم يربحوا من أكاذيبهم و أباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلّى اللّه عليه و سلّم: «من أتى كاهنا أو منجّما فقد كفر بما أنزل على محمد». قوله: وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ خصّهما بالذّكر لأنهما من أعظم مخلوقات اللّه: أي يعلم ما فيهما من حيوان و جماد علما مفصلا لا يخفى عليه منه شيء، أو خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس و يتطلعون لعلم ما فيهما وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أي من ورق الشجر و هو تخصيص بعد التعميم: أي يعلمها و يعلم زمان سقوطها و مكانه، و قيل: المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال و الأرزاق، و حكى النقاش عن جعفر بن محمد: أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم، قال ابن عطية: و هذا قول جار على طريقة الرموز و لا يصح عن جعفر بن محمد و لا ينبغي أن يلتفت إليه وَ لا حَبَّةٍ كائنة فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ أي في الأمكنة المظلمة، و قيل: في بطن الأرض وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ بالخفض عطفا على حبة: و هي معطوفة على ورقة. و قرأ ابن السميقع و الحسن و غيرهما بالرفع عطفا على موضع من ورقة، و قد شمل وصف الرطوبة و اليبوسة جميع الموجودات. قوله: إِلَّا فِي
فتح القدير، ج2، ص: 141
كِتابٍ مُبِينٍ هو اللوح المحفوظ، فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من إِلَّا يَعْلَمُها و قيل: هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة.
و قد أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي قال:
على ثقة. و أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن عكرمة في قوله: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ قال: لقامت الساعة. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قال: يقول خزائن الغيب. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قال: هنّ خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى قوله: عَلِيمٌ خَبِيرٌ* «1» . و أخرج أحمد و البخاري و غيرهما عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه:
لا يعلم ما في غد إلا اللّه، و لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه، و لا يعلم متى يأتي المطر إلا اللّه، و لا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله، و لا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا اللّه». و أخرج سعيد بن منصور و عبد ابن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها قال:
ما من شجرة في برّ و لا بحر إلا و بها ملك يكتب ما يسقط من ورقها. و أخرج أبو الشيخ عن مجاهد نحوه.
و أخرج أبو الشيخ عن محمد بن جحادة في قوله: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ قال: للّه تبارك و تعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، فذلك قوله: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها . و أخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ما من زرع على الأرض و لا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان بن فلان» فذلك قوله تعالى: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ الآية. و قد رواه يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فذكره. و أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ فقال: الرطب و اليابس من كلّ شيء.
[سورة الأنعام (6): الآيات 60 الى 62]
قوله: يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم فيقبض فيه نفوسكم التي بها تميزون و ليس ذلك موتا حقيقة، فهو مثل قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «2» و التوفي: استيفاء الشيء، و توفيت الشيء و استوفيته: إذا أخذته أجمع، قال الشاعر:
إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد
و لا توفّاهم قريش في العدد
(1). لقمان: 34.
(2). الزمر: 42.
فتح القدير، ج2، ص: 142
قيل: الروح إذا خرجت من البدن في المنام بقيت فيه الحياة؛ و قيل: لا تخرج منه الروح بل الذهن فقط، و الأولى أن هذا أمر لا يعرفه إلا اللّه سبحانه. قوله: وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أي كسبتم بجوارحكم من الخير و الشرّ. قوله: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي في النهار، يعني اليقظة؛ و قيل: يبعثكم من القبور فيه:
أي في شأن ذلك الذي قطعتم فيه أعماركم من النوم بالليل و الكسب بالنهار؛ و قيل: في الكلام تقديم و تأخير، و التقدير: هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار و يعلم ما جرحتم فيه؛ و قيل: ثم يبعثكم فيه، أي في المنام، و معنى الآية: إن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم، فإنه عالم بذلك و لكن لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي معين لكلّ فرد من أفراد العباد من حياة و رزق ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم بعد الموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازي المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته. قوله: وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ المراد:
فوقية القدرة و الرتبة، كما يقال: السلطان فوق الرعية، و قد تقدّم بيانه في أوّل السورة. قوله: وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً أي ملائكة جعلهم اللّه حافظين لكم، و منه قوله: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ «1» و المعنى:
أنه يرسل عليكم من يحفظكم من الآفات و يحفظ أعمالكم، و الحفظة: جمع حافظ، مثل: كتبة: جمع كاتب وَ عَلَيْكُمْ متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء، و تقديمه على حفظة ليفيد العناية بشأنه و أنه أمر حقيق بذلك؛ و قيل: هو متعلق بحفظة. قوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا حتى: يحتمل أن تكون هي الغائية، أي و يرسل عليكم حفظة يحفظون ما أمروا بحفظه مما يتعلق بكم حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ و يحتمل أن تكون الابتدائية، و المراد بمجيء الموت مجيء علاماته. و قرأ حمزة توفاه رسلنا و قرأ الأعمش تتوفّاه و الرسل: هم أعوان ملك الموت، و معنى توفته: استوفت روحه لا يُفَرِّطُونَ أي لا يقصرون و يضيعون، و أصله من التقدّم، و قال أبو عبيدة: لا يتوانون. و قرأ عبيد بن عمير لا يفرطون بالتخفيف: أي لا يجاوزون الحدّ فيما أمروا به من الإكرام و الإهانة. قوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ معطوف على توفته، و الضمير راجع إلى أحد لأنه في معنى الكل مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أي ردّوا بعد الحشر إلى اللّه: أي إلى حكمه و جزائه. مَوْلاهُمُ مالكهم الذي يلي أمورهم.
الْحَقِ قرأ الجمهور بالجر صفة لاسم اللّه. و قرأ الحسن الحق بالنصب على إضمار فعل، أي:
أعني أو أمدح، أو على المصدر وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر و الروية و التدبر.
و قد أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «مع كلّ إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه، فإذا أذن اللّه في قبض روحه قبضه و إلا ردّها إليه، فذلك قوله تعالى: يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ . و أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: ما من ليلة إلا و اللّه يقبض الأرواح كلّها، فيسأل كلّ نفس عمّا عمل صاحبها من النهار، ثم يدعو ملك الموت فيقول: اقبض روح هذا؛ و ما من يوم إلا و ملك الموت ينظر في كتاب حياة الناس، قائل يقول: ثلاثا، و قائل يقول: خمسا. و أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: أما
(1). الانفطار: 10.
فتح القدير، ج2، ص: 143
وفاته إيّاهم بالليل فمنامهم، و ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ فيقول: ما اكتسبتم بالنّهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ قال: في النهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى و هو الموت. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ قال: ما كسبتم من الإثم. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن السدّي في قوله: وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً قال: هم المعقّبات من الملائكة يحفظونه و يحفظون عمله.
و أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: أعوان ملك الموت من الملائكة. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عنه في قوله: هُمْ لا يُفَرِّطُونَ يقول: لا يضيعون.
[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 65]
قيل: المراد بظلمات البرّ و البحر: شدائدهما. قال النحاس: و العرب تقول: يوم مظلم: إذا كان شديدا، فإذا عظّمت ذلك قالت: يوم ذو كوكب، أي يحتاجون فيه لشدّة ظلمته إلى كوكب. و أنشد سيبويه:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا
إذا كان يوم ذو كواكب اشنعا
و الاستفهام للتقريع و التوبيخ: أي من ينجيكم من شدائدهما العظيمة؟ قرأ أبو بكر عن عاصم خفية بكسر الخاء، و قرأ الباقون بضمها، و هما لغتان. و قرأ الأعمش «و خيفة» من الخوف. و جملة تَدْعُونَهُ في محل نصب على الحال: أي من ينجيكم من ذلك حال دعائكم له دعاء تضرّع و خفية أو متضرّعين و مخفين.
و المراد بالتضرع هنا: دعاء الجهر. قوله: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا كذا قرأ أهل المدينة و أهل الشام. و قرأ الكوفيون لَئِنْ أَنْجانا و الجملة في محل نصب على تقدير القول: أي قائلين لئن أنجيتنا من هذه الشدّة التي نزلت بنا و هي الظلمات المذكورة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك على ما أنعمت به علينا من تخليصنا من هذه الشدائد.
قوله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ قرأ الكوفيون و هشام ينجيكم بالتّشديد، و قرأ الباقون بالتخفيف، و قراءة التشديد تفيد التكثير؛ و قيل: معناهما واحد، و الضمير في مِنْها راجع إلى الظلمات.
و الكرب: الغم يأخذ بالنفس، و منه: رجل مكروب. قال عنترة:
و مكروب كشفت الكرب عنه
بطعنة فيصل لمّا دعاني
ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ باللّه سبحانه بعد أن أحسن إليكم بالخلوص من الشدائد و ذهاب الكروب شركاء لا ينفعونكم، و لا يضرّونكم، و لا يقدرون على تخليصكم من كل ما ينزل بكم، فكيف وضعتم هذا الشرك موضع ما وعدتم به من أنفسكم من الشكر؟ ثم أمره اللّه سبحانه أن يقول لهم: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً أي الذي قدر على إنجائكم من تلك الشدائد و دفع عنكم تلك الكروب قادر على أن يعيدكم
فتح القدير، ج2، ص: 144
في شدّة و محنة و كرب يبعث عذابه عليكم من كل جانب، فالعذاب المبعوث من جهة الفوق: ما ينزل من السماء من المطر و الصواعق. و المبعوث من تحت الأرجل: الخسف و الزلازل و الغرق، و قيل: مِنْ فَوْقِكُمْ يعني الأمراء الظلمة و مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يعني السفلة و عبيد السوء. قوله: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً قرأ الجمهور بفتح التحتية، من لبس الأمر: إذا خلطه، و قرأ أبو عبد اللّه المديني بضمها: أي يجعل ذلك لباسا لكم؛ قيل و الأصل: أو يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين مع حرف الجرّ كما في قوله تعالى: وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ و المعنى: يجعلكم مختلطي الأهواء مختلفي النحل متفرقي الآراء؛ و قيل:
يجعلكم فرقا يقاتل بعضكم بعضا. و الشيع: الفرق، أي يخلطكم فرقا. قوله: وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أي يصيب بعضكم بشدّة بعض من قتل و أسر و نهب وَ يُذِيقَ معطوف على يَبْعَثَ ، و قرئ: «نذيق» بالنون. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نبين لهم الحجج و الدلالات من وجوه مختلفة لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ الحقيقة فيعودون إلى الحق الذي بيناه لهم بيانات متنوّعة.
و قد أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن قتادة في قوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ يقول: من كرب البرّ و البحر. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم في تفسير الآية عن ابن عباس قال: يقول: إذا أضلّ الرجل الطريق دعا اللّه لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ «1» . و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه في قوله: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال: يعني من أمرائكم أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يعني سفلتكم أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يعني بالشّيع الأهواء المختلفة وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال: يسلّط بعضكم على بعض بالقتل و العذاب. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عنه من وجه آخر في تفسير الآية قال: عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أئمة السوء أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: خدم السوء. و أخرج أبو الشيخ عنه أيضا من وجه آخر قال: مِنْ فَوْقِكُمْ من قبل أمرائكم و أشرافكم أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: من قبل سفلتكم و عبيدكم. و أخرج عبد بن حميد و أبو الشيخ عن أبي مالك عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال: القذف أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: الخسف. و أخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله. و أخرج أبو الشيخ عن مجاهد أيضا مِنْ فَوْقِكُمْ قال: الصيحة و الحجارة و الريح أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: الرجفة و الخسف، و هما عذاب أهل التكذيب وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال: عذاب أهل الإقرار. و أخرج البخاري و غيره عن جابر بن عبد اللّه قال: لما نزلت هذه الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أعوذ بوجهك أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: أعوذ بوجهك أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال: هذا أهون أو أيسر». و أخرج أحمد و عبد بن حميد و مسلم و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و غيرهم من حديث طويل عن ثوبان، و فيه: «و سألته أن لا يسلّط عليهم عدوّا من غيرهم فأعطانيها، و سألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها». و أخرج مسلم و غيره من حديث سعد بن أبي وقاص: «أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية