کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج2، ص: 267
[سورة الأعراف (7): الآيات 123 الى 129]
قوله: آمَنْتُمْ بِهِ قرئ بحذف الهمزة على الإخبار و بإثباتها. أنكر على السحرة فرعون إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك، ثم قال بعد الإنكار عليهم مبينا لما هو الحامل لهم على ذلك في زعمه إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ أي: حيلة احتلتموها أنتم و موسى عن مواطأة بينكم سابقة لِتُخْرِجُوا من مدينة مصر أَهْلَها من القبط، و تستولوا عليها، و تسكنوا فيها أنتم و بنو إسرائيل. و معنى فِي الْمَدِينَةِ أن هذه الحيلة و المواطأة كانت بينكم و أنتم بالمدينة مدينة مصر قبل أن تبرزوا أنتم و موسى إلى هذه الصحراء، ثم هدّدهم بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة صنعكم هذا و سوء مغبّته؛ ثم لم يكتف بهذا الوعيد المجمل بل فصله فقال: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي: الرجل اليمنى و اليد اليسرى، أو الرجل اليسرى و اليد اليمنى، ثم لم يكتف عدوّ اللّه بهذا، بل جاوزه إلى غيره فقال: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ في جذوع النخل؛ أي أجعلكم عليها مصلوبين؛ زيادة تنكيل بهم و إفراطا في تعذيبهم، و جملة قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ استئنافية، جواب سؤال كما تقدّم، و معناه: إنك و إن فعلت بنا هذا الفعل فتعدة يوم الجزاء، سيجازيك اللّه بصنعك و يحسن إلينا بما أصابنا في ذاته، فتوعّدوه بعذاب اللّه في الآخرة لما توعّدهم بعذاب الدنيا. و يحتمل أن يكون المعنى: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت: أي لا بدّ لنا من الموت و لا يضرّنا كونه بسبب منك.
قوله: وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا قرأ الحسن بفتح القاف. قال الأخفش: هي لغة، و قرأ الباقون بكسرها، يقال:
نقمت الأمر: أنكرته، أي: لست تعيب علينا و تنكر منا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا مع أن هذا هو الشرف العظيم و الخير الكامل، و مثله لا يكون موضعا للعيب و مكانا للإنكار، بل هو حقيق بالثناء الحسن و الاستحسان البالغ، ثم تركوا خطابه، و قطعوا الكلام معه، و التفتوا إلى خطاب الجناب العليّ، مفوّضين الأمر إليه، طالبين منه عزّ و جلّ أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً الإفراغ: الصبّ؛ أي: اصببه علينا حتى يفيض و يغمرنا. طلبوا أبلغ أنواع الصبر استعدادا منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدوّ اللّه و توطينا لأنفسهم على التصلّب في الحق و ثبوت القدم على الإيمان، ثم قالوا:
وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي: توفنا إليك حال ثبوتنا على الإسلام غير محرّفين و لا مبدّلين و لا مفتونين، و لقد كان ما هم عليه من السّحر و المهارة في علمه مع كونه شرّا محضا سببا للفوز بالسعادة، لأنهم علموا أن هذا
فتح القدير، ج2، ص: 268
الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر، و أنه من فعل اللّه سبحانه، فوصلوا بالشرّ إلى الخير، و لم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون ما حصل منهم من الإذعان و الاعتراف و الإيمان، و إذا كانت المهارة في علم الشرّ قد تأتي بمثل هذه الفائدة فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا، و ثبت أقدامنا على الحق، و أفرغ علينا سجال الصبر و توفنا مسلمين. قوله: وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ هذا الاستفهام منهم للإنكار عليه، أي: أ تتركه و قومه ليفسدوا في الأرض بإيقاع الفرقة و تشتيت الشمل. و المراد بالأرض هنا: أرض مصر. قوله: وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قرأ نعيم بن ميسرة «و يذرك» بالرفع على تقدير مبتدأ، أي: و هو يذرك أو على العطف على أَ تَذَرُ مُوسى :
أي: أ تذره و يذرك، و قرأ الأشهب العقيلي وَ يَذَرَكَ بالجزم: إما على التخفيف بالسكون لثقل الضمة، أو على ما قيل في وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ في توجيه الجزم. و قرأ أنس بن مالك «و نذرك» بالنون و الرفع، و معناه: أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونه و آلهته. و قرأ الباقون «و يذرك» بالنصب بأن مقدّرة على أنه جواب الاستفهام و الواو نائبة عن الفاء أو عطفا على لِيُفْسِدُوا أي: ليفسدوا و ليذرك، لأنهم على الفساد في زعمهم، و هو يؤدّي إلى ترك فرعون و آلهته.
و اختلف المفسرون في معنى وَ آلِهَتَكَ لكون فرعون كان يدّعي الربوبية كما في قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ، و قوله: أَنَا رَبُّكُمْ* فقيل معنى و آلهتك: و طاعتك، و قيل معناه: و عبادتك، و يؤيده قراءة علي و ابن عباس و الضحاك «و إلهتك» و في حرف أبي «أ تذر موسى و قومه ليفسدوا في الأرض و قد تركوك أن يعبدوك» و قيل: إنه كان يعبد بقرة، و قيل: كان يعبد النجوم، و قيل: كان له أصنام يعبدها قومه تقرّبا إليه فنسبت إليه، و لهذا قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قاله الزجاج، و قيل: كان يعبد الشمس.
فقال فرعون مجيبا لهم و مثبتا لقلوبهم على الكفر: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ . قرأ نافع و ابن كثير «سنقتل» بالتخفيف، و قرأ الباقون بالتشديد، أي: سنقتل الأبناء و نستحيي النساء، أي: نتركهنّ في الحياة، و لم يقل سنقتل موسى لأنه يعلم أنه لا يقدر عليه وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي: مستعلون عليهم بالقهر و الغلبة، أو هم تحت قهرنا و بين أيدينا، ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه، و جملة قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ مستأنفة، جواب سؤال مقدّر. بما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة باللّه و الصبر على المحنة، ثم أخبرهم إِنَّ الْأَرْضَ يعني أرض مصر لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أو جنس الأرض، و هو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون و قومه، و أن اللّه سيورثهم أرضهم و ديارهم. ثم بشرهم بأن العاقبة للمتقين، أي:
العاقبة المحمودة في الدنيا و الآخرة للمتقين من عباده، و هم موسى و من معه. و عاقبة كل شيء آخره. و قرئ «و العاقبة» بالنصب عطفا على الأرض، و جملة قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا مستأنفة: جواب سؤال مقدّر كالتي قبلها؛ أي أوذينا من قبل أن تأتينا رسولا و ذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا رسولا بقتل أبنائنا الآن؛ و قيل المعنى: أوذينا من قبل أن تأتينا باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بما صرنا
فتح القدير، ج2، ص: 269
فيه الآن من الخوف على أنفسنا و أولادنا و أهلنا؛ و قيل: إن الأذى من قبل و من بعد واحد، و هو قبض الجزية منهم، و جملة قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ مستأنفة كالتي قبلها، وعدهم بإهلاك اللّه لعدوّهم، و هو فرعون و قومه. قوله: وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ هو تصريح بما رمز إليه سابقا من أن الأرض للّه.
و قد حقّق اللّه رجاءه، و ملكوا مصر في زمان داود و سليمان، و فتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون، و أهلك فرعون و قومه بالغرق و أنجاهم فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ من الأعمال بعد أن يمنّ عليكم بإهلاك عدوّكم وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فيجازيكم بما عملتم فيه من خير و شرّ.
و قد أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن السدي في قوله: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ إذ التقيتما لتظاهرا، فتخرجا منها أهلها لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ الآية، قال: فقتلهم و قطعهم كما قال. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أوّل من صلب فرعون، و هو أوّل من قطع الأيدي و الأرجل من خلاف. و أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: مِنْ خِلافٍ قال: يدا من هاهنا و رجلا من هاهنا. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قال: من قبل إرسال اللّه إياك و من بعده. و أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن وهب بن منبه في الآية قال: قالت بنو إسرائيل لموسى كان فرعون يكلّفنا اللبن قبل أن تأتينا، فلما جئت كلّفنا اللّبن مع التبن أيضا، فقال موسى: أي ربّ! أهلك فرعون، حتى متى تبقيه؟
فأوحى اللّه إليه أنهم لم يعملوا الذنب الذي أهلكهم به. و أخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال:
حزا «1» لعدوّ اللّه حاز أنه يولد في العام غلام يسلب ملكك، قال: فتتبع أولادهم في ذلك العام بذبح الذكر منهم، ثم ذبحهم أيضا بعد ما جاءهم موسى. و أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن بناء- أهل البيت- يفتح و يختم، و لا بدّ أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن تكونوا من بني هاشم؟ و فيهم نزلت عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ . و ينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس، فالآية نازلة في بني إسرائيل لا في بني هاشم واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى و فرعون.
[سورة الأعراف (7): الآيات 130 الى 136]
(1). قال في القاموس: حزا: تكهن.
فتح القدير، ج2، ص: 270
المراد بآل فرعون هنا: قومه، و المراد بالسنين: الجدب، و هذا معروف عند أهل اللغة، يقولون أصابتهم سنة: أي جدب سنة، و في الحديث «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف». و أكثر العرب يعربون السنين إعراب جمع المذكر السالم، و من العرب من يعربه إعراب المفرد و يجري الحركات على النون، و أنشد الفراء:
أرى مرّ السّنين أخذن منّي
كما أخذ السّرار من الهلال
بكسر النون من السنين. قال النحاس: و أنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون.
أقول: قد ورد ما لا احتمال فيه و هو قول الشاعر:
و ماذا تزدري الأقوام منّي
و قد جاوزت حدّ الأربعين
و بعده:
أخو خمسين مجتمع أشدّي
و نجّدني مداورة الشّؤون
فإن الأبيات قبله و بعده مكسورة. و أوّل هذه الأبيات:
أنا ابن جلا و طلّاع الثّنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
و حكى الفرّاء عن بني عامر أنهم يقولون: أقمت عنده سنينا، مصروفا، قال: و بنو تميم لا يصرفونه، و يقال أسنت القوم: أي أجدبوا، و منه قول ابن الزبعري:
.....
و رجال مكّة مسنتون عجاف «1»
وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بسبب عدم نزول المطر و كثرة العاهات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيتعظون و يرجعون عن غوايتهم. قوله فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ أي: الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر و صلاح الثمرات و رخاء الأسعار قالُوا لَنا هذِهِ أي: أعطيناها باستحقاق، و هي مختصة بنا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي: خصلة سيئة من الجدب و القحط و كثرة الأمراض و نحوها من البلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أي: يتشاءموا بموسى و من معه من المؤمنين به، و الأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء. و قرأ طلحة تطيروا على أنه فعل ماض، و قد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور و الحيوانات، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء، و مثل هذا قوله تعالى وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «2» قيل:
(1). و صدره: عمرو العلا هشم الثّريد لقومه.
(2). النساء: 78.
فتح القدير، ج2، ص: 271
و وجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع، و وجه تنكير السيئة ندرة وقوعها. قوله أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: سبب خيرهم و شرهم بجميع ما ينالهم من خصب و قحط من عند اللّه ليس بسبب موسى و من معه، و كان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه و بما يفهمونه، و لهذا عبر بالطائر عن الخير و الشر الذي يجري بقدر اللّه و حكمته و مشيئته وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بهذا بل ينسبون الخير و الشر إلى غير اللّه جهلا منهم. و قرأ الحسن طيرهم قوله وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ قال الخليل: أصل مهما «ما» الشرطية زيدت عليه «ما» التي للتوكيد، كما تزاد في سائر الحروف مثل:
حيثما و أينما و كيفما و متى ما، و لكنهم كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا ألف الأولى هاء. و قال الكسائي: أصله مه؛ أي: اكفف ما تأتينا به من آية، و زيدت عليها «ما» الشرطية؛ و قيل: هي كلمة مفردة يجازى بها، و محل مهما الرفع على الابتداء، أو النصب بفعل يفسره ما بعدها، و من آية: لبيان مهما، و سموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده، و هو لِتَسْحَرَنا بِها أي: لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعله السحرة بسحرهم، و الضمير في به عائد إلى مهما، و الضمير في بها عائد إلى آية؛ و قيل: إنهما جميعا عائدان إلى مهما، و تذكير الأوّل باعتبار اللفظ، و تأنيث الثاني باعتبار المعنى فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ جواب الشرط، أي: فما نحن لك بمصدّقين، أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي زعمهم من السحر، فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من اللّه عزّ و جلّ المبينة بقوله فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ و هو المطر الشديد.
قال الأخفش: واحده طوفانة، و قيل: هو مصدر، كالرجحان و النقصان فلا واحد له، و قيل: الطوفان:
الموت. و قال النّحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكا من موت أو سيل، أي: ما يطيف بهم فيهلكهم وَ الْجَرادَ هو الحيوان المعروف أرسله اللّه لأكل زروعهم فأكلها وَ الْقُمَّلَ قيل: هي الدباء؛ و الدباء: الجراد قبل أن تطير، و قيل: هي السوس، و قيل: البراغيث، و قيل: دواب سود صغار، و قيل:
ضرب من القردان، و قيل: الجعلان. قال النحاس: يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم. و قرأ الحسن القمل بفتح القاف و إسكان الميم. و قرأ الباقون بضم القاف و فتح الميم مشددة. و قد فسّر عطاء الخراساني «القمل» بالقمل، وَ الضَّفادِعَ جمع ضفدع و هو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء وَ الدَّمَ روي أنه سأل النيل عليهم دما، و قيل: هو الرعاف. قوله آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أي: مبينات، قال الزّجّاج: هو منصوب على الحال. و المعنى: أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات بينات ظاهرات فَاسْتَكْبَرُوا أي: ترفعوا عن الإيمان باللّه وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ لا يهتدون إلى حق و لا ينزعون عن باطل، قوله وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي: العذاب بهذه الأمور التي أرسلها اللّه عليهم، و قرئ بضم الراء و هما لغتان، و قيل: كان هذا الرجز طاعونا مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفا قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي: بما استودعك من العلم، أو بما اختصّك به من النبوّة؛ أو بما عهد إليك أن تدعو به فيجيبك، و الباء متعلقة بادع، على معنى: أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء، بحق ما عندك من عهد اللّه، أو ادع لنا متوسلا إليه بعهده عندك، و قيل: إن الباء للقسم، و جوابه لنؤمنن؛ أي: أقسمنا بعهد
فتح القدير، ج2، ص: 272
اللّه عندك لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ على أن جواب الشرط سدّ جواب القسم، و على أن الباء ليست للقسم تكون اللام في لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ جواب قسم محذوف، و لَنُؤْمِنَنَ جواب الشرط، سادّ مسدّ جواب القسم وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ معطوف على لنؤمنن، و قد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم يمتهنونهم في الأعمال فوعدوه بإرسالهم معه فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي: رفعنا عنهم العذاب عند أن رجعوا إلى موسى و سألوه ما سألوه، لكن لا رفعا مطلقا، بل رفعا مقيدا بغاية هي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق، و جواب لما إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي: ينقضون ما عقدوه على أنفسهم، و إذا: هي الفجائية، أي: فاجؤوا النكث و بادروه فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي: أردنا الانتقام منهم لما نكثوا بسبب ما تقدّم لهم من الذنوب المتعددة فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ أي: في البحر، قيل:
هو الذي لا يدرك قعره، و قيل: هو لجته و أوسطه، و جملة بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا تعليل للإغراق وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ معطوف على كذبوا، أي: كانوا غافلين عن النقمة المدلول عليها بانتقمنا، أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها بل كذبوا بها و كانوا في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها، و الثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق.
و قد أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن مسعود وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ قال: السّنين الجوع. و أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد قال: السّنين: الجوائح، وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ دون ذلك. و أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أخذ اللّه آل فرعون بالسنين يبس كلّ شيء لهم، و ذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر، و اجتمعوا إلى فرعون، فقالوا: إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء، قال: غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال: أي شيء صنعت إن لم أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني؟ فلما كان جوف الليل قام فاغتسل و لبس مدرعة صوف ثم خرج حافيا حتى أتى نيل مصر، فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء، فما علم إلا بجزر الماء يقبل، فخرج و أقبل النيل يزخ بالماء لما أراد اللّه بهم من الهلكة. و أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد في قوله فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قال: العافية و الرخاء قالُوا لَنا هذِهِ نحن أحقّ بها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قال: بلاء و عقوبة يَطَّيَّرُوا بِمُوسى قال: يتشاءموا به. و أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قال: الأمر من قبل اللّه. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عائشة قالت:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «الطوفان الموت» قال ابن كثير: هو حديث غريب. و أخرج عبد بن حميد و أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الطوفان الغرق. و أخرج هؤلاء عن مجاهد قال: الطوفان الموت على كل حال.
و أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الطوفان: مطروا دائما بالليل و النهار ثمانية أيام، و القمل: الجراد الذي له أجنحة. و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه قال: الطوفان أمر من أمر ربك، ثم قرأ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ «1» . و أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن
(1). القلم: 19.
فتح القدير، ج2، ص: 273
أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد قال: الطُّوفانَ : الماء و الطاعون «1» وَ الْجَرادَ . قال: يأكل مسامير رتجهم؛ يعني أبوابهم، و ثيابهم، وَ الْقُمَّلَ الدباء وَ الضَّفادِعَ تسقط على فرشهم و في أطعمتهم، وَ الدَّمَ يكون في ثيابهم و مائهم و طعامهم. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس قال: القمل: الدباء. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس قال: كانت الضفادع برّية، فلما أرسلها اللّه على آل فرعون سمعت و أطاعت فجعلت تقذف نفسها في القدر و هي تغلي، و في التنانير و هي تفور. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد قال: سال النيل دما فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيبا، و يستقي الفرعوني دما، و يشتركان في إناء واحد؛ فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء طيبا و ما يلي الفرعوني دما. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله وَ الدَّمَ قال: سلط اللّه عليهم الرعاف. و أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السّحرة أربعين سنة يريهم الآيات و الجراد و القمل و الضفادع. و أخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله آياتٍ مُفَصَّلاتٍ قال: كانت آيات مفصّلات يتبع بعضها بعضا ليكون للّه الحجّة عليهم. و أخرج ابن المنذر عنه قال: يتبع بعضها بعضا تمكث فيهم سبتا إلى سبت ثم ترفع عنهم شهرا. و أخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «الرّجز: العذاب». و أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: الرّجز: الطاعون. و أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ قال: الغرق. و أخرج ابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: اليمّ البحر. و أخرج أيضا عن السدّي مثله.
[سورة الأعراف (7): الآيات 137 الى 141]
قوله وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ يعني: بني إسرائيل الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ أي يذلّون و يمتهنون بالخدمة لفرعون و قومه مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا منصوبان بأورثنا. و قال الكسائي و الفراء: إن الأصل: في مشارق الأرض و مغاربها، ثم حذفت في فنصبا، و الأوّل أظهر لأنه يقال أورثته المال، و الأرض: هي