کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج2، ص: 270
المراد بآل فرعون هنا: قومه، و المراد بالسنين: الجدب، و هذا معروف عند أهل اللغة، يقولون أصابتهم سنة: أي جدب سنة، و في الحديث «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف». و أكثر العرب يعربون السنين إعراب جمع المذكر السالم، و من العرب من يعربه إعراب المفرد و يجري الحركات على النون، و أنشد الفراء:
أرى مرّ السّنين أخذن منّي
كما أخذ السّرار من الهلال
بكسر النون من السنين. قال النحاس: و أنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون.
أقول: قد ورد ما لا احتمال فيه و هو قول الشاعر:
و ماذا تزدري الأقوام منّي
و قد جاوزت حدّ الأربعين
و بعده:
أخو خمسين مجتمع أشدّي
و نجّدني مداورة الشّؤون
فإن الأبيات قبله و بعده مكسورة. و أوّل هذه الأبيات:
أنا ابن جلا و طلّاع الثّنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
و حكى الفرّاء عن بني عامر أنهم يقولون: أقمت عنده سنينا، مصروفا، قال: و بنو تميم لا يصرفونه، و يقال أسنت القوم: أي أجدبوا، و منه قول ابن الزبعري:
.....
و رجال مكّة مسنتون عجاف «1»
وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بسبب عدم نزول المطر و كثرة العاهات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيتعظون و يرجعون عن غوايتهم. قوله فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ أي: الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر و صلاح الثمرات و رخاء الأسعار قالُوا لَنا هذِهِ أي: أعطيناها باستحقاق، و هي مختصة بنا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي: خصلة سيئة من الجدب و القحط و كثرة الأمراض و نحوها من البلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أي: يتشاءموا بموسى و من معه من المؤمنين به، و الأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء. و قرأ طلحة تطيروا على أنه فعل ماض، و قد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور و الحيوانات، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء، و مثل هذا قوله تعالى وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «2» قيل:
(1). و صدره: عمرو العلا هشم الثّريد لقومه.
(2). النساء: 78.
فتح القدير، ج2، ص: 271
و وجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع، و وجه تنكير السيئة ندرة وقوعها. قوله أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: سبب خيرهم و شرهم بجميع ما ينالهم من خصب و قحط من عند اللّه ليس بسبب موسى و من معه، و كان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه و بما يفهمونه، و لهذا عبر بالطائر عن الخير و الشر الذي يجري بقدر اللّه و حكمته و مشيئته وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بهذا بل ينسبون الخير و الشر إلى غير اللّه جهلا منهم. و قرأ الحسن طيرهم قوله وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ قال الخليل: أصل مهما «ما» الشرطية زيدت عليه «ما» التي للتوكيد، كما تزاد في سائر الحروف مثل:
حيثما و أينما و كيفما و متى ما، و لكنهم كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا ألف الأولى هاء. و قال الكسائي: أصله مه؛ أي: اكفف ما تأتينا به من آية، و زيدت عليها «ما» الشرطية؛ و قيل: هي كلمة مفردة يجازى بها، و محل مهما الرفع على الابتداء، أو النصب بفعل يفسره ما بعدها، و من آية: لبيان مهما، و سموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده، و هو لِتَسْحَرَنا بِها أي: لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعله السحرة بسحرهم، و الضمير في به عائد إلى مهما، و الضمير في بها عائد إلى آية؛ و قيل: إنهما جميعا عائدان إلى مهما، و تذكير الأوّل باعتبار اللفظ، و تأنيث الثاني باعتبار المعنى فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ جواب الشرط، أي: فما نحن لك بمصدّقين، أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي زعمهم من السحر، فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من اللّه عزّ و جلّ المبينة بقوله فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ و هو المطر الشديد.
قال الأخفش: واحده طوفانة، و قيل: هو مصدر، كالرجحان و النقصان فلا واحد له، و قيل: الطوفان:
الموت. و قال النّحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكا من موت أو سيل، أي: ما يطيف بهم فيهلكهم وَ الْجَرادَ هو الحيوان المعروف أرسله اللّه لأكل زروعهم فأكلها وَ الْقُمَّلَ قيل: هي الدباء؛ و الدباء: الجراد قبل أن تطير، و قيل: هي السوس، و قيل: البراغيث، و قيل: دواب سود صغار، و قيل:
ضرب من القردان، و قيل: الجعلان. قال النحاس: يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم. و قرأ الحسن القمل بفتح القاف و إسكان الميم. و قرأ الباقون بضم القاف و فتح الميم مشددة. و قد فسّر عطاء الخراساني «القمل» بالقمل، وَ الضَّفادِعَ جمع ضفدع و هو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء وَ الدَّمَ روي أنه سأل النيل عليهم دما، و قيل: هو الرعاف. قوله آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أي: مبينات، قال الزّجّاج: هو منصوب على الحال. و المعنى: أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات بينات ظاهرات فَاسْتَكْبَرُوا أي: ترفعوا عن الإيمان باللّه وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ لا يهتدون إلى حق و لا ينزعون عن باطل، قوله وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي: العذاب بهذه الأمور التي أرسلها اللّه عليهم، و قرئ بضم الراء و هما لغتان، و قيل: كان هذا الرجز طاعونا مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفا قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي: بما استودعك من العلم، أو بما اختصّك به من النبوّة؛ أو بما عهد إليك أن تدعو به فيجيبك، و الباء متعلقة بادع، على معنى: أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء، بحق ما عندك من عهد اللّه، أو ادع لنا متوسلا إليه بعهده عندك، و قيل: إن الباء للقسم، و جوابه لنؤمنن؛ أي: أقسمنا بعهد
فتح القدير، ج2، ص: 272
اللّه عندك لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ على أن جواب الشرط سدّ جواب القسم، و على أن الباء ليست للقسم تكون اللام في لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ جواب قسم محذوف، و لَنُؤْمِنَنَ جواب الشرط، سادّ مسدّ جواب القسم وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ معطوف على لنؤمنن، و قد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم يمتهنونهم في الأعمال فوعدوه بإرسالهم معه فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي: رفعنا عنهم العذاب عند أن رجعوا إلى موسى و سألوه ما سألوه، لكن لا رفعا مطلقا، بل رفعا مقيدا بغاية هي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق، و جواب لما إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي: ينقضون ما عقدوه على أنفسهم، و إذا: هي الفجائية، أي: فاجؤوا النكث و بادروه فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي: أردنا الانتقام منهم لما نكثوا بسبب ما تقدّم لهم من الذنوب المتعددة فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ أي: في البحر، قيل:
هو الذي لا يدرك قعره، و قيل: هو لجته و أوسطه، و جملة بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا تعليل للإغراق وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ معطوف على كذبوا، أي: كانوا غافلين عن النقمة المدلول عليها بانتقمنا، أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها بل كذبوا بها و كانوا في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها، و الثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق.
و قد أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن مسعود وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ قال: السّنين الجوع. و أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد قال: السّنين: الجوائح، وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ دون ذلك. و أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أخذ اللّه آل فرعون بالسنين يبس كلّ شيء لهم، و ذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر، و اجتمعوا إلى فرعون، فقالوا: إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء، قال: غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال: أي شيء صنعت إن لم أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني؟ فلما كان جوف الليل قام فاغتسل و لبس مدرعة صوف ثم خرج حافيا حتى أتى نيل مصر، فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء، فما علم إلا بجزر الماء يقبل، فخرج و أقبل النيل يزخ بالماء لما أراد اللّه بهم من الهلكة. و أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد في قوله فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قال: العافية و الرخاء قالُوا لَنا هذِهِ نحن أحقّ بها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قال: بلاء و عقوبة يَطَّيَّرُوا بِمُوسى قال: يتشاءموا به. و أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قال: الأمر من قبل اللّه. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عائشة قالت:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «الطوفان الموت» قال ابن كثير: هو حديث غريب. و أخرج عبد بن حميد و أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الطوفان الغرق. و أخرج هؤلاء عن مجاهد قال: الطوفان الموت على كل حال.
و أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الطوفان: مطروا دائما بالليل و النهار ثمانية أيام، و القمل: الجراد الذي له أجنحة. و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه قال: الطوفان أمر من أمر ربك، ثم قرأ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ «1» . و أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن
(1). القلم: 19.
فتح القدير، ج2، ص: 273
أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد قال: الطُّوفانَ : الماء و الطاعون «1» وَ الْجَرادَ . قال: يأكل مسامير رتجهم؛ يعني أبوابهم، و ثيابهم، وَ الْقُمَّلَ الدباء وَ الضَّفادِعَ تسقط على فرشهم و في أطعمتهم، وَ الدَّمَ يكون في ثيابهم و مائهم و طعامهم. و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس قال: القمل: الدباء. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس قال: كانت الضفادع برّية، فلما أرسلها اللّه على آل فرعون سمعت و أطاعت فجعلت تقذف نفسها في القدر و هي تغلي، و في التنانير و هي تفور. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد قال: سال النيل دما فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيبا، و يستقي الفرعوني دما، و يشتركان في إناء واحد؛ فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء طيبا و ما يلي الفرعوني دما. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله وَ الدَّمَ قال: سلط اللّه عليهم الرعاف. و أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السّحرة أربعين سنة يريهم الآيات و الجراد و القمل و الضفادع. و أخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله آياتٍ مُفَصَّلاتٍ قال: كانت آيات مفصّلات يتبع بعضها بعضا ليكون للّه الحجّة عليهم. و أخرج ابن المنذر عنه قال: يتبع بعضها بعضا تمكث فيهم سبتا إلى سبت ثم ترفع عنهم شهرا. و أخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «الرّجز: العذاب». و أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: الرّجز: الطاعون. و أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ قال: الغرق. و أخرج ابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: اليمّ البحر. و أخرج أيضا عن السدّي مثله.
[سورة الأعراف (7): الآيات 137 الى 141]
قوله وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ يعني: بني إسرائيل الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ أي يذلّون و يمتهنون بالخدمة لفرعون و قومه مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا منصوبان بأورثنا. و قال الكسائي و الفراء: إن الأصل: في مشارق الأرض و مغاربها، ثم حذفت في فنصبا، و الأوّل أظهر لأنه يقال أورثته المال، و الأرض: هي
(1). قال في القاموس: الطاعون: الوباء.
فتح القدير، ج2، ص: 274
مصر و الشام، و مشارقها: جهات مشرقها. و مغاربها: جهات مغربها، و هي التي كانت لفرعون و قومه من القبط؛ و قيل: المراد جميع الأرض لأن داود و سليمان من بني إسرائيل، و قد ملكا الأرض. قوله الَّتِي بارَكْنا فِيها صفة للمشارق و المغارب؛ و قيل: صفة الأرض، و المباركة فيها: إخراج الزرع و الثمار منها على أتمّ ما يكون و أنفع ما ينفع، قوله تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى أي: مضت و استمرت على التمام، و الكلمة هي وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «1» ، و هذا وعد من اللّه سبحانه بالنّصر و الظفر بالأعداء و الاستيلاء على أملاكهم، و الحسنى: صفة للكلمة، و هي تأنيث الأحسن، و تمام هذه الكلمة عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون و قومه. قوله وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ التدمير: الإهلاك، أي: أهلكنا بالخراب ما كانوا يصنعونه من العمارات وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ قرأ ابن عامر و أبو بكر عن عاصم يَعْرِشُونَ بضم الراء. قال الكسائي: هي لغة تميم. و قرأ إبراهيم بن أبي عبلة يَعْرِشُونَ بتشديد الراء و ضم حرف المضارعة. و قرأ الباقون بكسر الراء مخففة أي: ما كانوا يعرشونه من الجنات، و منه قوله تعالى وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ «2» و قيل معنى يعرشون: يبنون، يقال: عرش يعرش، أي: بنى يبني. قوله وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ هذا شروع في بيان ما فعله بنو إسرائيل بعد الفراغ مما فعله فرعون و قومه.
و معنى جاوزنا ببني إسرائيل البحر: جزناه بهم و قطعناه. و قرئ جوزنا بالتشديد، و هو بمعنى قراءة الجمهور فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قرأ حمزة و الكسائي «يعكفون» بكسر الكاف، و قرأ الباقون بضمها، يقال عكف يعكف، و يعكف بمعنى: أقام على الشيء و لزمه، و المصدر منهما عكوف؛ قيل هؤلاء القوم الذين أتاهم بنو إسرائيل هم من لخم كانوا نازلين بالرقة، كانت أصنامهم تماثيل بقر؛ و قيل كانوا من الكنعانيين قالُوا أي: بنو إسرائيل عند مشاهدتهم لتلك التماثيل يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي:
صنما كائنا كالذي لهؤلاء القوم، فالكاف متعلق بمحذوف وقع صفة لإلهاً، فأجاب عليهم موسى، و قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل لأنهم قد شاهدوا من آيات اللّه ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير اللّه، و لكن هؤلاء القوم، أعني: بني إسرائيل أشد خلق اللّه عنادا و جهلا و تلوّنا. و قد سلف في سورة البقرة بيان ما جرى منهم من ذلك، ثم قال لهم موسى: إِنَّ هؤُلاءِ يعني القوم العاكفين على الأصنام مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ التبار: الهلاك، و كل إناء منكسر فهو متبر، أي: أن هؤلاء هالك ما هم فيه مدمّر مكسر، و الذي هم فيه: هو عبادة الأصنام، أخبرهم بأن هذا الدين الذي هؤلاء القوم عليه هالك مدمّر لا يتمّ منه شيء. قوله وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ذاهب مضمحل جميع ما كانوا يعملونه من الأعمال مع عبادتهم للأصنام. قال في الكشاف: و في إيقاع هؤلاء اسما لإن و تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لها، و سم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرّضون للتبار، و أنه لا يعدوهم ألبتة، و أنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا و يبغض إليهم ما أحبوا. قوله أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً الاستفهام للإنكار و التوبيخ، أي: كيف أطلب لكم غير اللّه إلها تعبدونه و قد شاهدتم من آياته العظام ما يكفي البعض منه؟ و المعنى: أن هذا الذي طلبتم لا يكون
(1). القصص: 5.
(2). الأنعام: 141.
فتح القدير، ج2، ص: 275
أبدا، و إدخال الهمزة على غير للإشعار بأن المنكر هو كون المبتغى غيره سبحانه إلها، و غير مفعول للفعل الذي بعده، و إلها تمييز أو حال، و جملة وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ في محل نصب على الحال، أي: و الحال أنه فضلكم على العالمين من أهل عصركم، بما أنعم به عليكم، من إهلاك عدوكم، و استخلافكم في الأرض، و إخراجكم من الذلّ و الهوان إلى العزّ و الرفعة، فكيف تقابلون هذه النعم بطلب عبادة غيره؟ قوله وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي: و اذكروا وقت إنجائنا لكم من آل فرعون بعد أن كانوا مالكين لكم يستعبدونكم فيما يريدونه منكم و يمتهنونكم بأنواع الامتهانات، هذا على أن هذا الكلام محكيّ عن موسى، و أما إذا كان في حكم الخطاب لليهود الموجودين في عصر محمد، فهو بمعنى اذكروا إذ أنجينا أسلافكم من آل فرعون، و جملة يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ في محل نصب على الحال، أي: أنجيناكم من آل فرعون حال كونهم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ، و يجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما كانوا فيه مما أنجاهم منه، و جملة يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ مفسرة للجملة التي قبلها، أو بدل منها. و قد سبق بيان ذلك، و الإشارة بقوله وَ فِي ذلِكُمْ إلى العذاب، أي: في هذا العذاب الذي كنتم فيه بَلاءٌ عليكم مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ و قيل: الإشارة إلى الإنجاء، و البلاء: النعمة. و الأوّل أولى.
و قد أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن الحسن في قوله مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها قال: الشام. و أخرج هؤلاء عن قتادة مثله. و أخرج ابن عساكر عن زيد بن أسلم نحوه. و أخرج أبو الشيخ عن عبد اللّه بن شوذب قال: هي فلسطين، و قد روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في فضل الشام أحاديث ليس هذا موضع ذكرها. و أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد في قوله وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى قال:
ظهور قوم موسى على فرعون و تمكين اللّه لهم في الأرض و ما ورثهم منها. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ قال: يبنون. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي عمران الجوني مثله. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: تماثيل بقر من نحاس، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أوّل شأن العجل ليكون للّه عليهم الحجة فينتقم منهم بعد ذلك. و أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قبل حنين فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول اللّه! اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، و كان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة و يعكفون حولها، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «اللّه أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنكم تركبون سنن الّذين من قبلكم». و أخرج نحوه ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه من طريق كثير بن عبد اللّه بن عوف عن أبيه عن جدّه مرفوعا، و كثير: ضعيف جدّا. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله مُتَبَّرٌ قال: خسران. و أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عنه قال: هلاك.
فتح القدير، ج2، ص: 276
[سورة الأعراف (7): آية 142]
هذا من جملة ما كرم اللّه به موسى عليه السلام و شرفه. و الثلاثين: هي ذو القعدة و العشر هي عشر ذي الحجة، ضرب اللّه هذه المدة موعدا لمناجاة موسى و مكالمته، قيل: و كان التكليم في يوم النحر، و الفائدة في فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مع العلم بأن الثلاثين و العشر أربعون لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها، فبين أن العشر غير الثلاثين، و أربعون ليلة منصوب على الحال، أي: فتم حال كونه بالغا أربعين ليلة.
قوله وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي أي: كن خليفتي فيهم، قال موسى هذا لما أراد المضي إلى المناجاة وَ أَصْلِحْ أمر بني إسرائيل بحسن سياستهم و الرفق بهم و تفقد أحوالهم وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أي: لا تسلك سبيل العاصين و لا تكن عونا للظالمين.
و قد أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله وَ واعَدْنا مُوسى الآية قال: ذو القعدة، و عشر من ذي الحجة. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد عن مجاهد مثله. و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: إن موسى قال لقومه: إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه و أخلف هارون فيكم، فلما فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشرا، فكانت فتنتهم في العشر الذي زاده اللّه، فلما مضى ثلاثون ليلة كان السامري قد أبصر جبريل، فأخذ من أثر الفرس قبضة من تراب، ثم ذكر قصة السامريّ.
[سورة الأعراف (7): الآيات 143 الى 147]