کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج3، ص: 416
و قد أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا قال: أعوانا.
و أخرج عبد بن حميد عنه ضِدًّا قال: حسرة. و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا تغويهم إغواء. و أخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا قال: تحرّض المشركين على محمد و أصحابه. و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: تزعجهم إزعاجا إلى معاصي اللّه. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم، و البيهقي في البعث، عن ابن عباس وَفْداً قال: ركبانا. و أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر عن أبي هريرة وَفْداً قال: على الإبل. و في الصحيحين و غيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين و راهبين، و اثنان على بعير، و أربعة على بعير، و عشرة على بعير، و تحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، و تبيت معهم حيث باتوا» و الأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم، و البيهقي في البعث، عن ابن عباس وِرْداً قال: عطاشا. و أخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله. و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم، و البيهقي في الأسماء و الصّفات، عن ابن عباس في قوله: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قال: شهادة أن لا إله إلا اللّه، و تبرأ من الحول و القوّة، و لا يرجو إلا اللّه. و أخرج ابن مردويه عنه في الآية قال: من مات لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنة. و أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم و الطبراني، و الحاكم و صحّحه، و ابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قال: إن اللّه يقول يوم القيامة: من كان له عندي عهد فليقم، فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا، قولوا: اللهم فاطر السموات و الأرض عالم الغيب و الشهادة؛ إنّي أعهد إليك في الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشرّ و تباعدني من الخير، و إني لا أثق إلا برحمتك، فاجعله لي عندك عهدا تؤديه إليّ يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرّني، و من سرّني فقد اتخذ عند الرحمن عهدا، و من اتّخذ عند الرحمن عهدا فلا تمسّه النار، إن اللّه لا يخلف الميعاد». و أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها و مواقيتها و ركوعها و سجودها لم ينقص منها شيئا جاء و له عند اللّه عهد أن لا يعذّبه، و من جاء قد انتقص منهم شيئا فليس له عند اللّه عهد، إن شاء رحمه و إن شاء عذّبه». و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا قال: قولا عظيما، و في قوله: تَكادُ السَّماواتُ قال: إن الشرك فرغت منه السموات و الأرض و الجبال و جميع الخلائق إلا الثقلين، و كادت تزول منه لعظمة اللّه سبحانه، و كما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك يرجو أن يغفر اللّه ذنوب الموحدين، و في قوله: وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا قال: هدما. و أخرج ابن المبارك و سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة، و أحمد في الزهد، و ابن أبي حاتم، و أبو الشيخ في العظمة، و الطبراني، و البيهقي في الشعب من طريق عون عن ابن مسعود قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه، يا فلان هل مرّ بك اليوم أحد ذكر اللّه؟ فإذا قال نعم استبشر.
فتح القدير، ج3، ص: 417
قال عون: أ فيسمعن الزور إذا قيل و لا يسمعن الخير؟ هنّ للخير أسمع، و قرأ: وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الآيات.
[سورة مريم (19): الآيات 96 الى 98]
ذكر سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصّهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي: حبّا في قلوب عباده يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب، و السين في سيجعل للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل و أنه مجعول من بعد نزول الآية. و قرئ ودا بكسر الواو، و الجمهور من السبعة و غيرهم على الضم. ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن خصوصا هذه السورة لاشتمالها على التوحيد و النبوة، و بيان حال المعاندين فقال: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي: يسرنا القرآن بإنزالنا له على لغتك، و فصّلناه و سهّلناه، و الباء بمعنى على، و الفاء لتعليل كلام ينساق إليه النظم كأنه قيل: بلغ هذا المنزل أو بشر به أو أنذر فَإِنَّما يَسَّرْناهُ الآية. ثم علّل ما ذكره من التيسير فقال: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أي: المتلبّسين بالتقوى، المتّصفين بها وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا اللدّ: جمع الألد، و هو الشديد الخصومة، و منه قوله تعالى: أَلَدُّ الْخِصامِ «1» قال الشاعر:
أبيت نجيا للهموم كأنّني
أخاصم أقواما ذوي جدل لدّا
و قال أبو عبيدة: الألد الذي لا يقبل الحق و يدّعي الباطل، و قيل: اللدّ الصّم، و قيل: الظلمة وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي: من أمة و جماعة من الناس، و في هذا وعد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بهلاك الكافرين و وعيد لهم هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، أي: هل تشعر بأحد منهم أو تراه أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً الركز: الصوت الخفي، و منه ركز الرمح إذا غيّب طرفه في الأرض. قال طرفة:
و صادقنا «2» سمع التّوجّس للسّرى
لركز خفي أو لصوت مفند «3»
و قال ذو الرّمّة:
إذا توجس ركزا مقفر ندس
بنبأة الصّوت ما في سمعه كذب
(1). البقرة: 204.
(2). في المطبوع: و صادفتها. و المثبت من شرح المعلقات السبع ص (99) تحقيق يوسف بديوي، طبع دار ابن كثير.
(3). في شرح المعلقات السبع: مندّد.
فتح القدير، ج3، ص: 418
أي: ما في استماعه كذب بل هو صادق الاستماع، و النّدس: الحاذق، و النّبأة: الصوت الخفي. و قال اليزيدي و أبو عبيدة: الركز: ما لا يفهم من صوت أو حركة.
و قد أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف؛ أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة و عتبة بن ربيعة و أمية بن خلف، فأنزل اللّه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية، قال ابن كثير: و هو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل شيء منها بعد الهجرة، و لم يصحّ سند ذلك. و أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا قال: محبة في قلوب المؤمنين. و أخرج ابن مردويه و الديلمي عن البراء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لعليّ: «قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، و اجعل لي عندك ودّا، و اجعل لي في صدور المؤمنين مودة، فأنزل اللّه الآية في عليّ». و أخرج عبد الرزاق و الفريابي و عبد بن حميد و ابن جرير عن ابن عباس وُدًّا قال: محبة في الناس في الدنيا. و أخرج الحكيم الترمذي و ابن مردويه عن عليّ قال: «سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ما هو؟
قال: المحبة الصادقة في صدور المؤمنين». و ثبت في الصحيحين و غيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إذا أحب اللّه عبدا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا و إذا أبغض اللّه عبدا نادى جبريل: إني قد أبغضت فلانا، فينادي في أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض» و الأحاديث و الآثار في هذا الباب كثيرة. و أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا قال: فجّارا. و أخرج سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الحسن قال: صمّا. و أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ قال: هل ترى منهم من أحد. و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: رِكْزاً قال: صوتا.
فتح القدير، ج3، ص: 419
سورة طه
قال القرطبي: مكية في قول الجميع. و أخرج النحّاس و ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة طه بمكة. و أخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. و أخرج الدارمي، و ابن خزيمة في التوحيد، و العقيلي في الضعفاء، و الطبراني في الأوسط، و ابن عديّ و ابن مردويه، و البيهقي في الشعب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن اللّه تبارك و تعالى قرأ طه و يس قبل أن يخلق السّموات و الأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليها هذا، و طوبى لأجواف تحمل هذا، و طوبى لألسنة تكلمت بهذا». قال ابن خزيمة بعد إخراجه: حديث غريب، و فيه نكارة، و إبراهيم بن مهاجر و شيخه تكلّم فيهما، يعني إبراهيم بن مهاجر بن مسمار و شيخه عمر بن حفص بن ذكوان، و هما من رجال إسناده. و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أعطيت السورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأوّل، و أعطيت سورة طه و الطواسين من ألواح موسى، و أعطيت فواتح القرآن و خواتيم البقرة من تحت العرش، و أعطيت المفصّل نافلة». و أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كل قرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرءون منه شيئا إلا سورة طه و يس، فإنهم يقرءون بهما في الجنة». و أخرج الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك؛ فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته و خبّاب و قراءتهما طه، و كان ذلك بسبب إسلام عمر، و القصّة مشهورة في كتب السير.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة طه (20): الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله: طه قرأ بإمالة الهاء و فتح الطاء أبو عمرو و ابن أبي إسحاق، و أمالهما جميعا أبو بكر و حمزة و الكسائي و الأعمش. و قرأهما أبو جعفر و شيبة و نافع بين اللفظين، و اختار هذه القراءة أبو عبيد. و قرأ الباقون بالتفخيم. قال الثعلبي: و هي كلّها لغات صحيحة فصيحة. و قال النحّاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل
فتح القدير، ج3، ص: 420
العربية لعلّتين: الأولى: أنه ليس هاهنا ياء و لا كسرة حتى تكون الإمالة، و العلّة الثانية: أن الطاء من موانع الإمالة.
و قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال: الأوّل: أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به، و الثاني: أنها بمعنى يا رجل في لغة عكل، و في لغة عكّ. قال الكلبي: لو قلت لرجل من عكّ يا رجل لم يجب حتى تقول طه، و أنشد ابن جرير في ذلك:
دعوت بطه في القتال فلم يجب
فخفت عليه أن يكون موائلا «1»
و يروى: مزايلا، و قيل: إنها في لغة عكّ بمعنى يا حبيبي. و قال قطرب: هي كذلك في لغة طيّ؛ أي:
بمعنى يا رجل، و كذلك قال الحسن و عكرمة. و قيل: هي كذلك في اللغة السريانية، حكاه المهدوي. و حكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النّبطية، و به قال السدّي و سعيد بن جبير. و حكى الثعلبي عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة، و رواه عن عكرمة، و لا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صحّ النقل. القول الثالث: أنها اسم من أسماء اللّه سبحانه. و القول الرابع: أنها اسم للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
القول الخامس: أنها اسم للسورة. القول السادس: أنها حروف مقطّعة يدلّ كلّ واحد منها على معنى. ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدلّ عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلّفة متعسّفة. القول السابع: أن معناها طوبى لمن اهتدى. القول الثامن: أن معناها: طإ الأرض يا محمد. قال ابن الأنباري: و ذلك أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يتحمّل مشقّة الصّلاة حتى كادت قدماه تتورّم و يحتاج إلى التروّح، فقيل له طإ الأرض، أي: لا تتعب حتى تحتاج إلى التروّح. و حكى القاضي عياض في «الشفاء» عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إذا صلى قام على رجل و رفع الأخرى، فأنزل اللّه طه يعني: طإ الأرض يا محمد. و حكي عن الحسن البصري أنه قرأ طه على وزن دع، أمر بالوطء، و الأصل طأ فقلبت الهمزة هاء. و قد حكى الواحدي عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها: يا رجل، يريد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: و هو قول الحسن و عكرمة و سعيد بن جبير و الضحّاك و قتادة و مجاهد و ابن عباس في رواية عطاء و الكلبي، غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة و النبطية و السريانية، و يقول الكلبي: هي بلغة عكّ. قال ابن الأنباري: و لغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى؛ لأن اللّه سبحانه لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش، انتهى. و إذا تقرّر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى، واضحة الدلالة، خارجة عن فواتح السور التي قدّمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة، و هكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم، و استعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب، و جملة ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى مستأنفة مسوقة لتسلية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم
(1). البيت لمتمّم بن نويرة.
«موائل»: واءل: طلب النجاة.
فتح القدير، ج3، ص: 421
عمّا كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، و الشقاء يجيء في معنى التعب. قال ابن كيسان: و أصل الشقاء في اللغة العناء و التعب، و منه قول الشاعر:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله
و أخو الجهالة في الشّقاوة ينعم
و المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسّفك عليهم و على كفرهم، و تحسّرك على أن يؤمنوا، فهو كقوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «1» قال النحّاس: بعض النحويين يقول: هذه اللام في لِتَشْقى لام النفي، و بعضهم يقول لام الجحود. و قال ابن كيسان: هي لام الخفض، و هذا التفسير للآية هو على قول من قال إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديدا لأسماء الحروف، و إن جعلت اسما للسورة كان قوله: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خبرا عنها، و هي في موضع المبتدأ، و أما على قول من قال: إن معناها يا رجل، أو بمعنى الأمر بوطء الأرض فتكون الجملة مستأنفة لصرفه صلّى اللّه عليه و سلّم عمّا كان عليه من المبالغة في العبادة، و انتصاب إِلَّا تَذْكِرَةً على أنه مفعول له لأنزلنا، كقولك: ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا عليك. و قال الزجّاج: هو بدل من لتشقى، أي: ما أنزلناه إلا تذكرة. و أنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست بشقاء، قال: و إنما هو منصوب على المصدرية، أي: أنزلناه لتذكر به تذكرة، أو على المفعول من أجله، أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به، ما أنزلناه إلا للتذكرة، و انتصاب تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى على المصدرية، أي: أنزلناه تنزيلا، و قيل: بدل من قوله تذكرة، و قيل:
هو منصوب على المدح، و قيل: منصوب بيخشى، أي: يخشى تنزيلا من اللّه على أنه مفعول به، و قيل:
منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل. و قرأ أبو حيوة الشامي تنزيل بالرفع على معنى هذا تنزيل؛ و ممن خلق متعلّق بتنزيلا؛ أو بمحذوف هو صفة له؛ و تخصيص خلق الأرض و السموات لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عزّ و جلّ، و العلا: جمع العليا، أي: المرتفعة، كجمع كبرى و صغرى على كبر و صغر. و معنى الآية إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه و عظيم جلاله، و ارتفاع الرَّحْمنُ على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قال الأخفش، و يجوز أن يكون مرتفعا على المدح أو على الابتداء. و قرئ بالجر، قال الزجاج: على البدل من «ممن»، و جوّز النحاس أن يكون مرتفعا على البدل من المضمر في خلق، و جملة عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، أو على أنها خبر الرحمن عند من جعله مبتدأ.
قال أحمد بن يحيى: قال ثعلب: الاستواء: الإقبال على الشيء، و كذا قال الزجّاج و الفرّاء. و قيل: هو كناية عن الملك و السلطان، و البحث في تحقيق هذا يطول، و قد تقدّم البحث عنه في الأعراف. و الذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستو على عرشه بغير حدّ و لا كيف، و إلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح الذي يقرّون الصفات كما وردت من دون تحريف و لا تأويل لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أي: أنه مالك كل شيء و مدبّره وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات وَ ما تَحْتَ الثَّرى الثرى في اللغة: التراب
(1). الكهف: 6.
فتح القدير، ج3، ص: 422
النديّ، أي: ما تحت التراب من شيء. قال الواحدي: و المفسرون يقولون إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض «1» و لا يعلم ما تحت الثرى إلا اللّه سبحانه وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى الجهر بالقول: هو رفع الصوت به و السرّ ما حدّث به الإنسان غيره و أسرّه إليه، و الأخفى من السرّ هو ما حدّث به الإنسان نفسه و أخطره بباله. و المعنى: إن تجهر بذكر اللّه و دعائه فاعلم أنه غنيّ عن ذلك، فإنه يعلم السر و ما هو أخفى من السر، فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول، و في هذا معنى النّهي عن الجهر كقوله سبحانه: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً «2» و قيل: السرّ ما أسرّ الإنسان في نفسه، و الأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله و هو لا يعلمه، و قيل: السرّ ما أضمره الإنسان في نفسه، و الأخفى منه ما لم يكن و لا أضمره أحد؛ و قيل: السرّ سر الخلائق، و الأخفى منه سرّ اللّه عزّ و جلّ، و أنكر ذلك ابن جرير و قال: إن الأخفى ما ليس في سرّ الإنسان و سيكون في نفسه. ثم ذكر أن الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو اللّه سبحانه المنزّه عن الشريك، المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى، فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فاللّه خبر مبتدأ محذوف، أي: الموصوف بهذه الصفات الكمالية اللّه، و جملة «لا إله إلا هو» مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه، أي: لا إله في الوجود إلا هو، و هكذا جملة له الأسماء الحسنى مبينة لاستحقاقه تعالى للأسماء الحسنى، و هي التسعة و التسعون التي ورد بها الحديث الصحيح.
و قد تقدم بيانها في قوله سبحانه: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى من سورة الأعراف «3» ، و الحسنى: تأنيث الأحسن، و الأسماء مبتدأ و خبرها الحسنى، و يجوز أن يكون اللّه مبتدأ و خبره الجملة التي بعده، و يجوز أن يكون بدلا من الضمير في «يعلم». ثم قرّر سبحانه أمر التوحيد بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة، و الخبر الغريب، فقال: وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى الاستفهام للتقرير، و معناه: أليس قد أتاك حديث موسى، و قيل: معناه: قد أتاك حديث موسى، و قال الكلبي: لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك. و في سياق هذه القصة تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوّة، و تحمّل أثقالها و مقاساة خطوبها، و أن ذلك شأن الأنبياء قبله. و المراد بالحديث القصة الواقعة لموسى، و إِذْ رَأى ناراً ظرف للحديث، و قيل:
العامل فيه مقدر، أي: اذكر، و قيل: يقدر مؤخّرا، أي: حين رأى نارا كان كيت و كيت؛ و كانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافرا إلى أمه بعد استئذانه لشعيب فلما رآها قال لأهله امكثوا و المراد بالأهل هنا امرأته، و الجمع لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم، و قيل: المراد بهم المرأة و الولد و الخادم، و معنى امكثوا: أقيموا مكانكم، و عبّر بالمكث دون الإقامة؛ لأن الإقامة تقتضي الدوام، و المكث ليس كذلك.
و قرأ حمزة لأهله بضم الهاء، و كذا في القصص. قال النحّاس: و هذا على لغة من قال: مررت بهو
(1). هذا القول لا يستند إلى أي دليل شرعي و يتنافى مع الحقائق العلمية فلا يعتد به.
(2). الأعراف: 205.