کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج3، ص: 419
سورة طه
قال القرطبي: مكية في قول الجميع. و أخرج النحّاس و ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة طه بمكة. و أخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. و أخرج الدارمي، و ابن خزيمة في التوحيد، و العقيلي في الضعفاء، و الطبراني في الأوسط، و ابن عديّ و ابن مردويه، و البيهقي في الشعب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن اللّه تبارك و تعالى قرأ طه و يس قبل أن يخلق السّموات و الأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليها هذا، و طوبى لأجواف تحمل هذا، و طوبى لألسنة تكلمت بهذا». قال ابن خزيمة بعد إخراجه: حديث غريب، و فيه نكارة، و إبراهيم بن مهاجر و شيخه تكلّم فيهما، يعني إبراهيم بن مهاجر بن مسمار و شيخه عمر بن حفص بن ذكوان، و هما من رجال إسناده. و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أعطيت السورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأوّل، و أعطيت سورة طه و الطواسين من ألواح موسى، و أعطيت فواتح القرآن و خواتيم البقرة من تحت العرش، و أعطيت المفصّل نافلة». و أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كل قرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرءون منه شيئا إلا سورة طه و يس، فإنهم يقرءون بهما في الجنة». و أخرج الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك؛ فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته و خبّاب و قراءتهما طه، و كان ذلك بسبب إسلام عمر، و القصّة مشهورة في كتب السير.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة طه (20): الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله: طه قرأ بإمالة الهاء و فتح الطاء أبو عمرو و ابن أبي إسحاق، و أمالهما جميعا أبو بكر و حمزة و الكسائي و الأعمش. و قرأهما أبو جعفر و شيبة و نافع بين اللفظين، و اختار هذه القراءة أبو عبيد. و قرأ الباقون بالتفخيم. قال الثعلبي: و هي كلّها لغات صحيحة فصيحة. و قال النحّاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل
فتح القدير، ج3، ص: 420
العربية لعلّتين: الأولى: أنه ليس هاهنا ياء و لا كسرة حتى تكون الإمالة، و العلّة الثانية: أن الطاء من موانع الإمالة.
و قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال: الأوّل: أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به، و الثاني: أنها بمعنى يا رجل في لغة عكل، و في لغة عكّ. قال الكلبي: لو قلت لرجل من عكّ يا رجل لم يجب حتى تقول طه، و أنشد ابن جرير في ذلك:
دعوت بطه في القتال فلم يجب
فخفت عليه أن يكون موائلا «1»
و يروى: مزايلا، و قيل: إنها في لغة عكّ بمعنى يا حبيبي. و قال قطرب: هي كذلك في لغة طيّ؛ أي:
بمعنى يا رجل، و كذلك قال الحسن و عكرمة. و قيل: هي كذلك في اللغة السريانية، حكاه المهدوي. و حكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النّبطية، و به قال السدّي و سعيد بن جبير. و حكى الثعلبي عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة، و رواه عن عكرمة، و لا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صحّ النقل. القول الثالث: أنها اسم من أسماء اللّه سبحانه. و القول الرابع: أنها اسم للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
القول الخامس: أنها اسم للسورة. القول السادس: أنها حروف مقطّعة يدلّ كلّ واحد منها على معنى. ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدلّ عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلّفة متعسّفة. القول السابع: أن معناها طوبى لمن اهتدى. القول الثامن: أن معناها: طإ الأرض يا محمد. قال ابن الأنباري: و ذلك أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يتحمّل مشقّة الصّلاة حتى كادت قدماه تتورّم و يحتاج إلى التروّح، فقيل له طإ الأرض، أي: لا تتعب حتى تحتاج إلى التروّح. و حكى القاضي عياض في «الشفاء» عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إذا صلى قام على رجل و رفع الأخرى، فأنزل اللّه طه يعني: طإ الأرض يا محمد. و حكي عن الحسن البصري أنه قرأ طه على وزن دع، أمر بالوطء، و الأصل طأ فقلبت الهمزة هاء. و قد حكى الواحدي عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها: يا رجل، يريد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: و هو قول الحسن و عكرمة و سعيد بن جبير و الضحّاك و قتادة و مجاهد و ابن عباس في رواية عطاء و الكلبي، غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة و النبطية و السريانية، و يقول الكلبي: هي بلغة عكّ. قال ابن الأنباري: و لغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى؛ لأن اللّه سبحانه لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش، انتهى. و إذا تقرّر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى، واضحة الدلالة، خارجة عن فواتح السور التي قدّمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة، و هكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم، و استعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب، و جملة ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى مستأنفة مسوقة لتسلية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم
(1). البيت لمتمّم بن نويرة.
«موائل»: واءل: طلب النجاة.
فتح القدير، ج3، ص: 421
عمّا كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، و الشقاء يجيء في معنى التعب. قال ابن كيسان: و أصل الشقاء في اللغة العناء و التعب، و منه قول الشاعر:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله
و أخو الجهالة في الشّقاوة ينعم
و المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسّفك عليهم و على كفرهم، و تحسّرك على أن يؤمنوا، فهو كقوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «1» قال النحّاس: بعض النحويين يقول: هذه اللام في لِتَشْقى لام النفي، و بعضهم يقول لام الجحود. و قال ابن كيسان: هي لام الخفض، و هذا التفسير للآية هو على قول من قال إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديدا لأسماء الحروف، و إن جعلت اسما للسورة كان قوله: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خبرا عنها، و هي في موضع المبتدأ، و أما على قول من قال: إن معناها يا رجل، أو بمعنى الأمر بوطء الأرض فتكون الجملة مستأنفة لصرفه صلّى اللّه عليه و سلّم عمّا كان عليه من المبالغة في العبادة، و انتصاب إِلَّا تَذْكِرَةً على أنه مفعول له لأنزلنا، كقولك: ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا عليك. و قال الزجّاج: هو بدل من لتشقى، أي: ما أنزلناه إلا تذكرة. و أنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست بشقاء، قال: و إنما هو منصوب على المصدرية، أي: أنزلناه لتذكر به تذكرة، أو على المفعول من أجله، أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به، ما أنزلناه إلا للتذكرة، و انتصاب تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى على المصدرية، أي: أنزلناه تنزيلا، و قيل: بدل من قوله تذكرة، و قيل:
هو منصوب على المدح، و قيل: منصوب بيخشى، أي: يخشى تنزيلا من اللّه على أنه مفعول به، و قيل:
منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل. و قرأ أبو حيوة الشامي تنزيل بالرفع على معنى هذا تنزيل؛ و ممن خلق متعلّق بتنزيلا؛ أو بمحذوف هو صفة له؛ و تخصيص خلق الأرض و السموات لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عزّ و جلّ، و العلا: جمع العليا، أي: المرتفعة، كجمع كبرى و صغرى على كبر و صغر. و معنى الآية إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه و عظيم جلاله، و ارتفاع الرَّحْمنُ على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قال الأخفش، و يجوز أن يكون مرتفعا على المدح أو على الابتداء. و قرئ بالجر، قال الزجاج: على البدل من «ممن»، و جوّز النحاس أن يكون مرتفعا على البدل من المضمر في خلق، و جملة عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، أو على أنها خبر الرحمن عند من جعله مبتدأ.
قال أحمد بن يحيى: قال ثعلب: الاستواء: الإقبال على الشيء، و كذا قال الزجّاج و الفرّاء. و قيل: هو كناية عن الملك و السلطان، و البحث في تحقيق هذا يطول، و قد تقدّم البحث عنه في الأعراف. و الذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستو على عرشه بغير حدّ و لا كيف، و إلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح الذي يقرّون الصفات كما وردت من دون تحريف و لا تأويل لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أي: أنه مالك كل شيء و مدبّره وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات وَ ما تَحْتَ الثَّرى الثرى في اللغة: التراب
(1). الكهف: 6.
فتح القدير، ج3، ص: 422
النديّ، أي: ما تحت التراب من شيء. قال الواحدي: و المفسرون يقولون إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض «1» و لا يعلم ما تحت الثرى إلا اللّه سبحانه وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى الجهر بالقول: هو رفع الصوت به و السرّ ما حدّث به الإنسان غيره و أسرّه إليه، و الأخفى من السرّ هو ما حدّث به الإنسان نفسه و أخطره بباله. و المعنى: إن تجهر بذكر اللّه و دعائه فاعلم أنه غنيّ عن ذلك، فإنه يعلم السر و ما هو أخفى من السر، فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول، و في هذا معنى النّهي عن الجهر كقوله سبحانه: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً «2» و قيل: السرّ ما أسرّ الإنسان في نفسه، و الأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله و هو لا يعلمه، و قيل: السرّ ما أضمره الإنسان في نفسه، و الأخفى منه ما لم يكن و لا أضمره أحد؛ و قيل: السرّ سر الخلائق، و الأخفى منه سرّ اللّه عزّ و جلّ، و أنكر ذلك ابن جرير و قال: إن الأخفى ما ليس في سرّ الإنسان و سيكون في نفسه. ثم ذكر أن الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو اللّه سبحانه المنزّه عن الشريك، المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى، فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فاللّه خبر مبتدأ محذوف، أي: الموصوف بهذه الصفات الكمالية اللّه، و جملة «لا إله إلا هو» مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه، أي: لا إله في الوجود إلا هو، و هكذا جملة له الأسماء الحسنى مبينة لاستحقاقه تعالى للأسماء الحسنى، و هي التسعة و التسعون التي ورد بها الحديث الصحيح.
و قد تقدم بيانها في قوله سبحانه: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى من سورة الأعراف «3» ، و الحسنى: تأنيث الأحسن، و الأسماء مبتدأ و خبرها الحسنى، و يجوز أن يكون اللّه مبتدأ و خبره الجملة التي بعده، و يجوز أن يكون بدلا من الضمير في «يعلم». ثم قرّر سبحانه أمر التوحيد بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة، و الخبر الغريب، فقال: وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى الاستفهام للتقرير، و معناه: أليس قد أتاك حديث موسى، و قيل: معناه: قد أتاك حديث موسى، و قال الكلبي: لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك. و في سياق هذه القصة تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوّة، و تحمّل أثقالها و مقاساة خطوبها، و أن ذلك شأن الأنبياء قبله. و المراد بالحديث القصة الواقعة لموسى، و إِذْ رَأى ناراً ظرف للحديث، و قيل:
العامل فيه مقدر، أي: اذكر، و قيل: يقدر مؤخّرا، أي: حين رأى نارا كان كيت و كيت؛ و كانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافرا إلى أمه بعد استئذانه لشعيب فلما رآها قال لأهله امكثوا و المراد بالأهل هنا امرأته، و الجمع لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم، و قيل: المراد بهم المرأة و الولد و الخادم، و معنى امكثوا: أقيموا مكانكم، و عبّر بالمكث دون الإقامة؛ لأن الإقامة تقتضي الدوام، و المكث ليس كذلك.
و قرأ حمزة لأهله بضم الهاء، و كذا في القصص. قال النحّاس: و هذا على لغة من قال: مررت بهو
(1). هذا القول لا يستند إلى أي دليل شرعي و يتنافى مع الحقائق العلمية فلا يعتد به.
(2). الأعراف: 205.
(3). الأعراف: 180.
فتح القدير، ج3، ص: 423
يا رجل، فجاء به على الأصل، و هو جائز، إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي: أبصرت، يقال: آنست الصوت سمعته، و آنست الرجل: أبصرته. و قيل: الإيناس الإبصار البين، و قيل: الإيناس مختصّ بإبصار ما يؤنس، و الجملة تعليل للأمر بالمكث، و لما كان الإتيان بالقبس، و وجود الهدى، متوقعين؛ بني الأمر على الرجاء فقال: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أي: أجيئكم من النار بقبس، و القبس: شعلة من النار، و كذا المقباس، يقال: قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني؛ أي: أعطاني، و كذا اقتبست. قال اليزيدي: أقبست الرجل علما و قبسته نارا؛ فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. و قال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سواء، قال: و قبسته أيضا فيهما. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي: هاديا يهديني إلى الطريق و يدلني عليها. قال الفرّاء: أراد هاديا، فذكره بلفظ المصدر، أو عبّر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف، أي: ذا هدى، و كلمة «أو» في الموضعين لمنع الخلوّ دون الجمع، و حرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ أي: فلما أتى النار التي آنسها نُودِيَ من الشجرة، كما هو مصرّح بذلك في سورة القصص، أي: من جهتها، و من ناحيتها يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أي: نودي، فقيل: يا موسى. و قرأ أبو عمرو و ابن كثير و أبو جعفر و ابن محيصن و حميد و اليزيدي أني بفتح الهمزة. و قرأ الباقون بكسرها، أي: إني فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أمره اللّه سبحانه بخلع نعليه؛ لأن ذلك أبلغ في التواضع، و أقرب إلى التشريف و التكريم و حسن التأدب. و قيل: إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ، و قيل: معنى الخلع للنعلين: تفريغ القلب من الأهل و المال، و هو من بدع التفاسير.
ثم علّل سبحانه الأمر بالخلع فقال: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً المقدّس: المطهر، و القدس: الطهارة، و الأرض المقدّسة: المطهرة، سمّيت بذلك لأن اللّه أخرج منها الكافرين و عمّرها بالمؤمنين، و طوى: اسم للوادي. قال الجوهري: و طوى اسم موضع بالشام يكسر طاؤه و يضم، يصرف و لا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد و مكان و جعله نكرة، و من لم يصرفه جعله بلدة و بقعة و جعله معرفة، و قرأ عكرمة «طوى» بكسر الطاء، و قرأ الباقون بضمها. و قيل: إن طوى كثنى من الطي مصدر لنودي، أو للمقدس، أي:
نودي نداءين، أو قدّس مرة بعد أخرى وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ قرأ أهل المدينة و أهل مكة و أبو عمرو و ابن عامر و عاصم و الكسائي وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ بالإفراد. و قرأ حمزة و أنّا اخترناك بالجمع. قال النحاس:
و القراءة الأولى أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، و الثانية أنها أولى بنسق الكلام؛ لقوله: يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ، و معنى اخترتك: اصطفيتك للنبوّة و الرسالة، و الفاء في قوله: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و ما موصولة أو مصدرية، أي: فاستمع للذي يوحى إليك، أو للوحي، و جملة إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ بدل من «ما» في «لما يوحى». ثم أمره سبحانه بالعبادة فقال: فَاعْبُدْنِي و الفاء هنا كالفاء التي قبلها؛ لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي خصّ الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة، لكونها أشرف طاعة و أفضل عبادة، و علّل الأمر بإقامة الصلاة بقوله لذكري، أي: لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقّق إلا في ضمن العبادة
فتح القدير، ج3، ص: 424
و الصلاة، أو المعنى: لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار، أو المعنى: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة. و قيل: المعنى: لأذكرك بالمدح في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول، و جملة إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ تعليل لما قبلها من الأمر، أي: إن الساعة التي هي وقت الحساب و العقاب آتية، فاعمل الخير من عبادة اللّه و الصلاة.
و معنى أَكادُ أُخْفِيها مختلف فيه. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أخفيها من نفسي، و هو قول سعيد بن جبير و مجاهد و قتادة. و قال المبّرد و قطرب: هذا على عادة مخاطبة العرب يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي، أي: لم أطلع عليه أحدا؛ و معنى الآية أن اللّه بالغ في إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب. و قد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ: أُخْفِيها بفتح الهمزة و معناه أظهرها، و كذا روى أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير. قال النحاس:
و ليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قال القرطبي: و كذا رواه ابن الأنباري في كتاب «الردّ» قال: حدّثني أبي، حدثنا محمد بن الجهم، حدّثنا الفراء، حدّثنا الكسائي فذكره. قال النحاس: و أجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطّان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ: أُخْفِيها بضم الهمزة.
قال ابن الأنباري: قال الفراء: و معنى قراءة الفتح أكاد أظهرها، من خفيت الشيء إذا أظهرته أخفيه. قال القرطبي: و قد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون أخفيها بضم الألف معناه أظهرها، لأنه يقال خفيت الشيء و أخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر و الإظهار. قال أبو عبيدة: خفيت و أخفيت بمعنى واحد. قال النحاس: و هذا حسن، و قد أنشد الفرّاء و سيبويه ما يدل على أن معنى أخفاه أظهره، و ذلك قول امرئ القيس:
فإن تكتموا «1» الدّاء لا نخفه
و إن تبعثوا الحرب لا نقعد
أي: و إن تكتموا الداء لا نظهره. و قد حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنه بضم النون من تخفه، و قال امرؤ القيس:
خفاهنّ من إنفاقهنّ كأنّما
خفاهنّ ودق من عشيّ مجلّب «2»
أي: أظهرهن. و قد زيف النحاس هذا القول و قال: ليس المعنى على أظهرها، و لا سيما و أخفيها قراءة شاذة، فكيف تردّ القراءة الصحيحة الشائعة! و قال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر، و هو أن الكلام ينقطع على أكاد، و بعده مضمر، أي: أكاد آتي بها، و وقع الابتداء ب أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ، و مثله قول عمير بن ضابئ البرجمي:
(1). في الديوان ص (186): تدفنوا.
(2). «الودق»: المطر. «المجلب»: الذي له جلبة.
فتح القدير، ج3، ص: 425
هممت و لم أفعل و كدت و ليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
أي: و كدت أفعل، و اختار هذا النحاس. و قال أبو عليّ الفارسي: هو من باب السلب و ليس من الأضداد، و معنى أخفيها: أزيل عنها خفاءها، و هو سترها، و من هذا قولهم أشكيته، أي: أزلت شكواه.
و حكى أبو حاتم عن الأخفش أن «أكاد» زائدة للتأكيد، قال: و مثله: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها «1» ، و مثله قول الشاعر «2» :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما إن يكاد قرنه يتنفّس
قال: و المعنى أكاد أخفيها، أي: أقارب ذلك، لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم؛ جاز أن يكون قام و أن يكون لم يقم، و دلّ على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا، و قوله: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى متعلّق بآتية، أو بأخفيها، و ما مصدرية، أي: لتجزى كل نفس بسعيها، و السعي و إن كان ظاهرا في الأفعال، فهو هنا يعمّ الأفعال و التروك؛ للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أي: لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة، و التصديق بها، أو عن ذكرها و مراقبتها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها من الكفرة، و هذا النهي و إن كان للكافر بحسب الظاهر، فهو في الحقيقة نهي له صلّى اللّه عليه و سلّم عن الانصداد، أو عن إظهار اللين للكافرين، فهو من باب: لا أرينك هاهنا، كما هو معروف. و قيل: الضمير في «عنها» للصلاة و هو بعيد، و قوله: وَ اتَّبَعَ هَواهُ معطوف على ما قبله، أي: من لا يؤمن، و من اتبع هواه، أي: هوى نفسه بالانهماك في اللذات الحسية الفانية فَتَرْدى أي: فتهلك؛ لأن انصدادك عنها بصدّ الكافرين لك مستلزم للهلاك و مستتبع له.
و قد أخرج ابن المنذر و ابن مردويه، و البيهقي في الشعب، و ابن عساكر عن ابن عباس أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:
«أوّل ما نزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى، فأنزل اللّه طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ». و أخرج ابن جرير و ابن مردويه عنه قال: قالوا: لقد شقي هذا الرجل بربه، فأنزل اللّه هذه الآية. و أخرج ابن عساكر عنه أيضا قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل لئلا ينام، فأنزل اللّه هذه الآية. و أخرج البزار عن عليّ قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يراوح بين قدميه، يقوم على كلّ رجل حتى نزلت ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى و حسّن السّيوطي إسناده. و أخرج ابن مردويه عنه أيضا بأطول منه. و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ربما قرأ القرآن إذا صلى، فقام على رجل واحدة، فأنزل اللّه طه برجليك ف ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى . و أخرج ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عنه في قوله: طه قال: يا رجل. و أخرج الحارث بن أبي أسامة و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: طه بالنبطية. أي: طأ يا رجل. و أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: هو كقولك اقعد. و أخرج ابن جرير و ابن مردويه عنه قال: طه بالنبطية يا رجل. و أخرج ابن
(1). النور: 40.