کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج4، ص: 281
الخطاب بقوله: أَ لَمْ تَرَ لكلّ أحد يصلح لذلك، أو للرسول صلّى اللّه عليه و سلم أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي: يدخل كلّ واحد منهما في الآخر، و قد تقدّم تفسيره في سورة: الحج، و الأنعام وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ أي: ذللهما، و جعلهما منقادين بالطلوع، و الأفول تقديرا للآجال، و تتميما للمنافع، و الجملة معطوفة على ما قبلهما مع اختلافهما كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اختلف في الأجل المسمى ماذا هو؟ فقيل: هو يوم القيامة، و قيل: وقت الطلوع: و وقت الأفول، و الأوّل: أولى، و جملة:
وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ معطوفة على أن اللّه يولج، أي: خبير بما تعملونه من الأعمال؛ لا تخفى عليه منها خافية، لأن من قدر على مثل هذه الأمور العظيمة، فقدرته على العلم بما تعملونه بالأولى، قرأ الجمهور:
«تعملون» بالفوقية، و قرأ السلمي و نصر بن عامر و الدوري عن أبي عمرو: بالتحتية على الخبر، و الإشارة بقوله: ذلِكَ إلى ما تقدّم ذكره، و الباء في بِأَنَّ اللَّهَ للسببية، أي: ذلك بسبب أنه سبحانه هُوَ الْحَقُ و غيره الباطل، أو متعلقة بمحذوف، أي: فعل ذلك ليعلموا أنه الحق وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ قال مجاهد: الذي يدعون من دونه هو الشيطان، و قيل: ما أشركوا به من صنم، و هذا أولى وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ معطوفة على جملة «أن اللّه هو الحق» و المعنى: أن ذلك الصنع البديع الذي وصفه في الآيات المتقدّمة للاستدلال به على حقية اللّه، و بطلان ما سواه، و علوّه و كبريائه: هو العليّ في مكانته، ذو الكبرياء في ربوبيته، و سلطانه. ثم ذكر من عجيب صنعه، و بديع قدرته نوعا آخر فقال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ أي: بلطفه بكم، و رحمته لكم، و ذلك من أعظم نعمه عليكم لأنها تخلصكم من الغرق عند أسفاركم في البحر لطلب الرزق، و قرأ ابن هرمز «بنعمات اللّه» جمع نعمة لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ من للتبعيض، أي: ليريكم بعض آياته. قال يحيى بن سلام: و هو جري السفن في البحر بالريح.
و قال ابن شجرة: المراد بقوله: «من آياته ما يشاهدونه من قدرة اللّه. و قال النقاش: ما يرزقهم اللّه في البحر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ هذه الجملة تعليل لما قبلها، أي: إن فيما ذكر لآيات عظيمة لكل من له صبر بليغ، و شكر كثير يصبر عن معاصي اللّه و يشكر نعمه وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ شبه الموج لكبره: بما يظلّ الإنسان من جبل، أو سحاب، أو غيرهما، و إنما شبه الموج و هو واحد بالظلل.
و هي جمع، لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء، و يركب بعضه بعضا. و قيل: إن الموج في معنى الجمع؛ لأنه مصدر، و أصل الموج: الحركة، و الازدحام، و منه يقال: ماج البحر، و ماج الناس. و قرأ محمّد ابن الحنفية «موج كالظلال» جمع ظلّ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: دعوا اللّه وحده؛ لا يعوّلون على غيره في خلاصهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا يضرّ، و لا ينفع سواه، و لكنه تغلب على طبائعهم العادات، و تقليد الأموات، فإذا وقعوا في مثل هذه الحالة اعترفوا بوحدانية اللّه، و أخلصوا دينهم له طلبا للخلاص، و السلامة مما وقعوا فيه فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ صاروا على قسمين: فقسم مُقْتَصِدٌ أي: موف بما عاهد اللّه في البحر من إخلاص الدين له؛ باق على ذلك بعد أن نجاه اللّه من هول البحر، و أخرجه إلى البرّ سالما. قال الحسن: معنى مقتصد مؤمن متمسك بالتوحيد، و الطاعة. و قال مجاهد: مقتصد في القول؛ مضمر للكفر،
فتح القدير، ج4، ص: 282
و الأولى ما ذكرناه، و يكون في الكلام حذف، و التقدير: فمنهم مقتصد، و منهم كافر، و يدلّ على هذا المحذوف قوله: وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ الختر: أسوأ الغدر و أقبحه، و منه قول الأعشى:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله
حصن حصين و جار غير ختّار
قال الجوهري: الختر: الغدر، يقال خترة؛ فهو ختار. قال الماوردي: و هذا قول الجمهور. و قال ابن عطية: إنه الجاحد، و جحد الآيات: إنكارها، و الكفور: عظيم الكفر بنعم اللّه سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي: لا يغني الوالد عن ولده شيئا، و لا ينفعه بوجه من وجوه النفع لاشتغاله بنفسه. و قد تقدّم بيان معناه في البقرة وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ذكر سبحانه فردين من القرابات، و هو الوالد، و الولد، و هما الغاية في الحنوّ و الشفقة على بعضهم البعض، فما عداهما من القرابات لا يجزي بالأولى، فكيف بالأجانب. اللهمّ اجعلنا ممن لا يرجو سواك، و لا يعوّل على غيرك إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ لا يتخلف؛ فما وعد به من الخير و أوعد به من الشرّ، فهو كائن لا محالة فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا و زخارفها، فإنها زائلة ذاهبة وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قرأ الجمهور «الغرور» بفتح الغين المعجمة، و الغرور: هو الشيطان، لأن من شأنه أن يغرّ الخلق، و يمنيهم بالأماني الباطلة، و يلهيهم عن الآخرة، و يصدّهم عن طريق الحق. و قرأ سماك بن حرب و أبو حيوة و ابن السميقع بضم الغين مصدر غرّ يغرّ غرورا، و يجوز أن يكون مصدرا؛ واقعا وصفا للشيطان على المبالغة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: علم وقتها الذي تقوم فيه. قال الفراء: إن معنى هذا الكلام النفي، أي: ما يعلمه أحد إلا اللّه عزّ و جلّ. قال النحاس: و إنما صار فيه معنى النفي لما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال في قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ «1» إنها هذه وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ في الأوقات التي جعلها معينة لإنزاله و لا يعلم ذلك غيره وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ من الذكور و الإناث، و الصلاح و الفساد وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ من النفوس كائنة ما كانت من غير فرق بين الملائكة، و الأنبياء، و الجنّ، و الإنس ما ذا تَكْسِبُ غَداً من كسب دين أو كسب دنيا وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي: بأيّ مكان يقضي اللّه عليها بالموت.
قرأ الجمهور «و ينزل الغيث» مشدّدا. و قرأ ابن كثير، و أبو عمرو، و حمزة، و الكسائي مخففا. و قرأ الجمهور «بأيّ أرض» و قرأ أبيّ بن كعب و موسى الأهوازي «بأية» و جوّز ذلك الفراء و هي لغة ضعيفة. قال الأخفش: يجوز أن يقال مررت بجارية أيّ جارية. قال الزجاج: من ادّعى أنه يعلم شيئا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.
و قد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ختار) قال: جحاد. و أخرج ابن المنذر، و ابن أبي حاتم عنه في قوله: وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قال: هو الشيطان. و كذا قال مجاهد و عكرمة و قتادة. و أخرج الفريابي، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: «جاء رجل من أهل البادية إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال:
إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ و بلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ و قد علمت متى ولدت فأخبرني
(1). الأنعام: 59.
فتح القدير، ج4، ص: 283
متى أموت؟ فأنزل اللّه إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية». و أخرج ابن المنذر عن عكرمة نحوه و زاد:
و قد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟ و زاد أيضا أنه سأله عن قيام الساعة. و أخرج البخاري و مسلم و غيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا اللّه: لا يعلم ما في غد إلا اللّه، و لا متى تقوم السّاعة إلا اللّه، و لا ما في الأرحام إلا اللّه، و لا متى ينزل الغيث إلا اللّه، و ما تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا اللّه»، و في الصحيحين و غيرهما من حديث أبي هريرة في حديث سؤاله عن الساعة و جوابه بأشراطها، ثم قال: «خمس لا يعلمهنّ إلا اللّه» ثم تلا هذه الآية. و في الباب أحاديث.
فتح القدير، ج4، ص: 284
سورة السّجدة
و هي مكية كما رواه ابن الضريس و ابن مردويه، و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس، و رواه ابن مردويه عن ابن الزبير. و أخرج ابن النجار عن ابن عباس قال: هي مكية سوى ثلاث آيات أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى تمام الآيات الثلاث، و كذا قال الكلبي، و مقاتل، و قيل: إلا خمس آيات من قوله: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ إلى قوله: الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ و قد ثبت عند مسلم، و أهل السنن من حديث أبي هريرة أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ب «الم تنزيل» السجدة، و «هل أتى على الإنسان» «1» .
و أخرجه البخاري و مسلم و غيرهما من حديثه أيضا. و أخرج أبو عبيد في فضائله و أحمد، و عبد بن حميد، و الدارمي، و الترمذي، و النسائي، و الحاكم و صححه، و ابن مردويه عن جابر قال: «كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم لا ينام حتى يقرأ «الم تنزيل» السّجدة، و «تبارك الذي بيده الملك» «2» ». و أخرج أبو نصر و الطبراني و البيهقي في سننه عن ابن عباس يرفعه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «من صلّى أربع ركعات خلف العشاء الأخيرة قرأ في الركعتين الأوليين «قل يا أيها الكافرون» و «قل هو الله أحد» و في الركعتين الأخريين «تبارك الذي بيده الملك» و «الم تنزيل» السجدة كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر». و أخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ «تبارك الذي بيده الملك» و «الم تنزيل» السجدة، بين المغرب و العشاء الآخرة فكأنّما قام ليلة القدر». و أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ في ليلة «الم تنزيل» السجدة، و «يس» و «اقتربت الساعة» و «تبارك الذي بيده الملك» كنّ له نورا و حرزا من الشيطان، و رفع في الدرجات إلى يوم القيامة».
و أخرج ابن الضريس عن المسيب بن رافع أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «الم تنزيل» تجيء لها جناحان يوم القيامة تظل صاحبها و تقول: لا سبيل عليه، لا سبيل عليه».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة السجده (32): الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(1). الإنسان: 1.
(2). الملك: 1.
فتح القدير، ج4، ص: 285
قوله: الم قد قدمنا الكلام على فاتحة هذه السورة، و على محلها من الإعراب في سورة البقرة، و في مواضع كثيرة من فواتح السور، و ارتفاع تَنْزِيلُ على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر؛ على تقدير أن: الم في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو خبر لقوله: الم على تقدير أنه اسم للسورة، و لا رَيْبَ فِيهِ في محل نصب على الحال، و يجوز أن يكون ارتفاع تنزيل على أنه مبتدأ؛ و خبره لا ريب فيه، و من ربّ العالمين في محل نصب على الحال، و يجوز أن تكون هذه كلها أخبارا للمبتدأ قبل تنزيل، أو لقوله: الم على تقدير أنه مبتدأ لا على تقدير أنه حروف مسروده على نمط التعديد. قال مكي: و أحسن الوجوه أن تكون «لا ريب فيه»: في موضع الحال، و «من رب العالمين»: الخبر، و المعنى على هذه الوجوه:
أن تنزيل الكتاب المتلوّ لا ريب فيه، و لا شكّ، و أنه منزل من ربّ العالمين، و أنه ليس بكذب، و لا سحر، و لا كهانة، و لا أساطير الأوّلين، و «أم» في أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ هي: المنقطعة التي بمعنى: بل و الهمزة، أي: بل أ يقولون هو مفترى، فأضرب عن الكلام الأوّل إلى ما هو معتقد الكفار مع الاستفهام المتضمن للتقريع و التوبيخ، و معنى «افتراه»: افتعله، و اختلقه. ثم أضرب عن معتقدهم إلى بيان ما هو الحق في شأن الكتاب فقال: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فكذبهم سبحانه في دعوى الافتراء، ثم بين العلة التي كان التنزيل لأجلها فقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ و هم العرب، و كانوا أمة أمية لم يأتهم رسول، و قيل:
قريش خاصة، و المفعول الثاني: لتنذر محذوف، أي: لتنذر قوما العقاب، و جملة ما أتاهم من نذير في محل نصب على الحال، و من قبلك: صفة لنذير. و جوّز أبو حيان أن تكون ما موصولة، و التقدير: لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير قبلك، و هو ضعيف جدّا، فإن المراد تعليل الإنزال بالإنذار لقوم لم يأتهم نذير قبله، لا تعليله بالإنذار لقوم قد أنذر بما أنذرهم به، و قيل: المراد بالقوم: أهل الفترة ما بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و سلم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ رجاء أن يهتدوا، أو كي يهتدوا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة الأعراف، و المراد من ذكرها هنا: تعريفهم كمال قدرته، و عظيم صنعه ليسمعوا القرآن، و يتأملوه، و معنى خلق: أوجد و أبدع. قال الحسن: الأيام هنا هي من أيام الدنيا، و قيل: مقدار اليوم: ألف سنة في سني الدنيا، قاله الضحاك. فعلى هذا المراد بالأيام هنا هي من أيام الآخرة؛ لا من أيام الدنيا، و ليست ثم للترتيب في قوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ و قد تقدّم تفسير هذا مستوفى ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أي: ليس لكم من دون اللّه، أو من دون عذابه من وليّ يواليكم، و يردّ عنكم عذابه، و لا شفيع يشفع لكم عنده أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ تذكر تدبر
فتح القدير، ج4، ص: 286
و تفكر، و تسمعون هذه المواعظ سماع من يفهم و يعقل حتى تنتفعوا بها يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ لما بين سبحانه خلق السموات و الأرض، و ما بينهما بين تدبيره لأمرها، أي: يحكم الأمر بقضائه و قدره من السماء إلى الأرض، و المعنى: ينزل أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة كما قال سبحانه:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ «1» و مسافة ما بين سماء الدنيا و الأرض التي تحتها نزولا و طلوعا ألف سنة من أيام الدنيا. و قيل المراد بالأمور: المأمور به من الأعمال، أي: ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض. و قيل: يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة، و غيرها نازلة أحكامها و آثارها إلى الأرض. و قيل: ينزل الوحي مع جبريل. و قيل: العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل كما في قوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ... يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ «2» و ما دون السموات موضع التصرّف.
قال اللّه: وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا «3» ثم لما ذكر سبحانه تدبير الأمر قال: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي: ثم يرجع ذلك الأمر و يعود ذلك التدبير إليه سبحانه في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا، و ذلك باعتبار مسافة النزول من السماء، و الطلوع من الأرض كما قدّمنا. و قيل:
إن المراد أنه يعرج إليه في يوم القيامة الذي مقداره ألف سنة من أيام الدنيا، و ذلك حين ينقطع أمر الدنيا، و يموت من فيها. و قيل: هي أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع من يرسله إليها من الملائكة، و المعنى: أنه يثبت ذلك عنده، و يكتب في صحف ملائكته ما عمله أهل الأرض في كلّ وقت من الأوقات؛ إلى أن تبلغ مدة الدنيا آخرها. و قيل: معنى يعرج إليه: يثبت في علمه موجودا بالفعل في برهة من الزمان؛ هي مقدار ألف سنة، و المراد طول امتداد ما بين تدبير الحوادث، و حدوثها من الزمان، و قيل: يدبر أمر الحوادث اليومية بإثباتها في اللوح المحفوظ؛ فتنزل بها الملائكة، ثم تعرج إليه في زمان هو كألف سنة من أيام الدنيا. و قيل: يقضي قضاء ألف سنة فتنزل به الملائكة، ثم تعرج بعد الألف لألف آخر. و قيل: المراد أن الأعمال التي هي طاعات يدبرها اللّه سبحانه، و ينزل بها ملائكته، ثم لا يعرج إليه منها إلا الخالص بعد مدّة متطاولة لقلّة المخلصين من عباده. و قيل: الضمير في يعرج يعود إلى الملك و إن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من السياق، و قد جاء صريحا في قوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ «4» و الضمير في إليه يرجع إلى السماء على لغة من يذكرها، أو إلى مكان الملك الذي يرجع إليه، و هو الذي أقرّه اللّه فيه. و قيل المعنى: يدبر أمر الشمس في طلوعها و غروبها، و رجوعها إلى موضعها من الطلوع في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة. و قيل المعنى: إن الملك يعرج إلى اللّه في يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة، لأن ما بين السماء و الأرض مسافة خمسمائة عام، فمسافة النزول من السماء إلى الأرض، و الرجوع من الأرض إلى السماء ألف عام، و قد رجح هذا جماعة من المفسرين منهم ابن جرير. و قيل: مسافة النزول ألف سنة، و مسافة الطلوع ألف سنة، روي ذلك عن الضحاك. و هذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة، و ليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدّة النهار بين ليلتين، و العرب قد تعبر عن المدة باليوم كما قال الشاعر:
(1). الطلاق: 12.
(2). الرعد: 2.
(3). الفرقان: 50.
(4). المعارج: 4.
فتح القدير، ج4، ص: 287
يومان يوم مقامات و أندية
و يوم سير إلى الأعداء تأويب «1»
فإن الشاعر لم يرد يومين مخصوصين، و إنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين، فعبر عن كلّ واحد من الشطرين بيوم. قرأ الجمهور «يعرج» على البناء للفاعل. و قرأ ابن أبي عبلة على البناء للمفعول، و الأصل يعرج به، ثم حذف حرف الجار فاستتر الضمير. و قد استشكل جماعة الجمع بين هذه الآية و بين قوله سبحانه: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «2» فقيل في الجواب إن يوم القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا، و لكنه باعتبار صعوبته و شدة أهواله على الكفار كخمسين ألف سنة، و العرب تصف كثيرا يوم المكروه بالطول، كما تصف يوم السرور بالقصر كما قال الشاعر «3» :
و يوم كظلّ الرمح قصّر طوله
دم الزّقّ عنّا و اصطفاق المزاهر
و قول الآخر:
و يوم كإبهام القطاة قطعته و قيل: إن يوم القيامة فيه أيام؛ فمنها ما مقداره ألف سنة، و منها ما مقداره خمسون ألف سنة. و قيل:
هي أوقات مختلفة يعذب الكافر بنوع من أنواع العذاب ألف سنة، ثم ينقل إلى نوع آخر فيعذب به خمسين ألف سنة. و قيل: مواقف القيامة خمسون موقفا كلّ موقف ألف سنة، فيكون معنى يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ أنه يعرج إليه في وقت من تلك الأوقات، أو موقف من تلك المواقف. و حكى الثعلبي عن مجاهد و قتادة و الضحاك أنه أراد سبحانه في قوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل، و المراد: أنه يسير جبريل و من معه من الملائكة في ذلك المقام إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة، في مقدار يوم واحد من أيام الدنيا، و أراد بقوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ المسافة التي بين الأرض و بين سماء الدنيا هبوطا و صعودا، فإنها مقدار ألف سنة من أيام الدنيا. و قيل: إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر، و ذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين و انقطع؛ لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة، فقوله:
فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ يعني: يدبر الأمر في زمان، يوم منه: ألف سنة. فكم يكون الشهر منه؟ و كم تكون السنة منه؟ و على هذا فلا فرق بين ألف سنة، و بين خمسين ألف سنة. و قيل: غير ذلك.
و قد وقف حبر الأمة ابن عباس لما سئل عن الآيتين، كما سيأتي في آخر البحث إن شاء اللّه. قرأ الجمهور مِمَّا تَعُدُّونَ بالفوقية على الخطاب، و قرأ الحسن و السلمي و ابن وثاب و الأعمش بالتحتية على الغيبة، و الإشارة بقوله: ذلِكَ إلى اللّه سبحانه باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف، و هو مبتدأ و خبره عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أي: العالم بما غاب عن الخلق، و ما حضرهم. و في هذا: معنى التهديد لأنه سبحانه إذا علم
(1). التأويب: سير النهار كله إلى الليل، يقال: أوّب القوم تأويبا، أي ساروا إلى الليل، و البيت لسلامة بن جندل.
(2). المعارج: 4.