کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج4، ص: 569
قال: عذابا دون العذاب، و قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ». و أخرج أحمد، و الترمذي و حسنه، و ابن أبي الدنيا، و الطبراني و ابن مردويه، و البيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «من ردّ عن عرض أخيه ردّ اللّه عن وجهه نار جهنّم يوم القيامة، ثم تلا إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا ». و أخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله.
[سورة غافر (40): الآيات 53 الى 65]
قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى هذا من جملة ما قصه اللّه سبحانه قريبا من نصره لرسله: أي:
آتيناه التوراة و النبوّة، كما في قوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ «1» قال مقاتل: الهدى من الضلالة: يعني التوراة وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ المراد بالكتاب التوراة، و معنى أورثنا أن اللّه سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم و توارثوها خلفا عن سلف.
و قيل: المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى، و هدى و ذكرى: في محل نصب على أنهما مفعول لأجله، أي: لأجل الهدى و الذكر، أو على أنهما مصدران في موضع الحال، أي:
هاديا و مذكرا، و المراد بأولي الألباب: أهل العقول السليمة. ثم أمر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلم بالصبر على الأذى فقال:
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ أي: اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل؛ إن وعد اللّه الذي وعد به رسله حقّ لا خلف فيه، و لا شك في وقوعه كما في قوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «2» و قوله:
(1). المائدة: 44.
(2). غافر: 51.
فتح القدير، ج4، ص: 570
وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «1» قال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه فقال: وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ قيل: المراد ذنب أمتك فهو على حذف مضاف، و قيل: المراد الصغائر عند من يجوّزها على الأنبياء، و قيل: هو مجرد تعبد له صلّى اللّه عليه و سلم بالاستغفار لزيادة الثواب، و قد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ أي: دم على تنزيه اللّه متلبسا بحمده، و قيل: المراد صلّ في الوقتين: صلاة العصر، و صلاة الفجر. قاله الحسن و قتادة، و قيل: هما صلاتان: ركعتان غدوة، و ركعتان عشية، و ذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ أي: بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة اللّه سبحانه إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ أي: ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق يحملهم على تكذيبك، و جملة ما هُمْ بِبالِغِيهِ صفة لكبر قال الزجاج: المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه، فجعله على حذف المضاف. و قال غيره: ما هم ببالغي الكبر. و قال ابن قتيبة: المعنى إن في صدورهم إلا كبر، أي: تكبر على محمد صلّى اللّه عليه و سلم و طمع أن يغلبوه و ما هم ببالغي ذلك، و قيل: المراد بالكبر الأمر الكبير، أي:
يطلبون النبوّة، أو يطلبون أمرا كبيرا يصلون به إليك من القتل و نحوه و لا يبلغون ذلك. و قال مجاهد: معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها. و المراد بهذه الآية المشركون، و قيل: اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء اللّه. ثم أمره اللّه سبحانه بأن يستعيذ باللّه من شرورهم فقال: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي: فالتجئ إليه من شرّهم، و كيدهم، و بغيهم عليك إنه السميع لأقوالهم؛ البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية. ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أي: أعظم في النفوس و أجلّ في الصدور، لعظم أجرامهما، و استقرارهما من غير عمد، و جريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فكيف ينكرون البعث و إحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ «2» قال أبو العالية: المعنى لخلق السموات و الأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. و قال يحيى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث، أي: هما أكبر من إعادة خلق الناس وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ بعظيم قدرة اللّه و أنه لا يعجزه شيء.
ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالا للباطل و الحق و أنهما لا يستويان فقال: وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أي: الذي يجادل بالباطل، و الذي يجادل بالحق وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لَا الْمُسِيءُ أي: و لا يستوي المحسن بالإيمان، و العمل الصالح؛ و المسيء بالكفر، و المعاصي، و زيادة «لا» في و لا المسيء للتأكيد قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ قرأ الجمهور «يتذكرون» بالتحية على الغيبة، و اختار هذه القراءة أبو عبيد، و أبو حاتم، لأن قبلها و بعدها على الغيبة لا على الخطاب، و قرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات، أي: تذكرا قليلا ما تتذكرون إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي: لا شك في مجيئها، و حصولها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ و لا يصدقونه لقصور أفهامهم و ضعف عقولهم عن إدراك
(1). الصافات: 171- 173.
(2). يس: 81.
فتح القدير، ج4، ص: 571
الحجة، و المراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث. ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه و لا شبهة، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله صلّى اللّه عليه و سلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه و هو وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قال أكثر المفسرين المعنى: وحدوني و اعبدوني أتقبل عبادتكم و أغفر لكم، و قيل: المراد بالدعاء: السؤال بجلب النفع، و دفع الضر. قيل: الأوّل أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة. قلت: بل الثاني أولى لأن معنى الدعاء حقيقة و شرعا: هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فاللّه سبحانه قد أمر عباده بدعائه و وعدهم بالإجابة و وعده الحق، و ما يبدل القول لديه، و لا يخلف الميعاد. ثم صرّح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي و هو الطلب هو من عبادته فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي: ذليلين صاغرين و هذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء اللّه، و فيه لطف بعباده عظيم و إحسان إليهم جليل؛ حيث توعد من ترك طلب الخير منه، و استدفاع الشرّ به بهذا الوعيد البالغ، و عاقبه بهذه العقوبة العظيمة. فيا عباد اللّه وجهوا رغباتكم و عوّلوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه، و أرشدكم إلى التعويل عليه، و كفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة، فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، و يغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، و ملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا و الدين، قيل: و هذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة؛ أي:
أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ «1» اللّه، قرأ الجمهور «سيدخلون» بفتح الياء و ضم الخاء مبنيا للفاعل، و قرأ ابن كثير و ابن محيصن و ورش و أبو جعفر بضم الياء و فتح الخاء مبنيا للمفعول. ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلما باردا تناسبه الراحة بالسكون و النوم وَ النَّهارَ مُبْصِراً أي: مضيئا لتبصروا في حوائجكم و تتصرفوا في طلب معايشكم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ النعم، و لا يعترفون بها، إما لجحودهم لها، و كفرهم بها كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر، و إهمالهم لما يجب من شكر المنعم، و هم الجاهلون ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ بين سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده قرأ الجمهور خالق بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأوّل عن المبتدأ، و قرأ زيد بن عليّ بنصبه على الاختصاص فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: فكيف تنقلبون عن عبادته و تنصرفون عن توحيده كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي: مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات اللّه المنكرون لتوحيده. ثم ذكر لهم سبحانه نوعا آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته و تفرّده بالإلهية فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً أي: موضع قرار فيها تحيون، و فيها تموتون وَ السَّماءَ بِناءً : أي سقفا قائما ثابتا. ثم بين بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد فقال: وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي: خلقكم في أحسن صورة. قال الزجاج: خلقكم أحسن الحيوان كله. قرأ الجمهور
(1). الأنعام: 41.
فتح القدير، ج4، ص: 572
«صوركم» بضم الصاد و قرأ الأعمش و أبو رزين بكسرها. قال الجوهري: و الصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي: المستلذات ذلِكُمُ المبعوث بهذه النعوت الجليلة اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي: كثرة خيره و بركته هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: الباقي الذي لا يفنى المنفرد بالألوهية فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة و العبادة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال الفراء: هو خبر و فيه إضمار أمره، أي: احمدوه.
و قد أخرج عبد بن حميد، و ابن أبي حاتم. قال السيوطي بسند صحيح عن أبي العالية قال: إن اليهود أتوا النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقالوا: إن الدجال يكون منا في آخر الزمان، و يكون في أمره فعظموا أمره، و قالوا: نصنع كذا و نصنع كذا، فأنزل اللّه إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ قال: لا يبلغ الذي يقول: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فأمر نبيه أن يتعوّذ من فتنة الدجال لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الدجال. و أخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية قال:
هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال. و أخرج عبد بن حميد، و ابن المنذر عن مجاهد في قوله:
إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ قال: عظمة قريش. و أخرج سعيد بن منصور، و ابن أبي شيبة، و أحمد، و عبد بن حميد، و البخاري في الأدب المفرد، و أبو داود، و الترمذي، و النسائي، و ابن ماجة، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و الطبراني، و ابن حبان، و الحاكم، و صححه، و ابن مردويه، و أبو نعيم في الحلية، و البيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «الدعاء هو العبادة، ثم قرأ وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي قال: عن دعائي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ». قال الترمذي: حسن صحيح. و أخرج ابن مردويه، و الخطيب عن البراء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إن الدعاء هو العبادة وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ». و أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قال: وحدوني أغفر لكم. و أخرج الحاكم و صححه عن جرير بن عبد اللّه في الآية قال: اعبدوني. و أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «الدعاء الاستغفار» و أخرج ابن أبي شيبة، و الحاكم، و أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من لم يدع اللّه يغضب عليه». و أخرج أحمد، و الحكيم الترمذي، و أبو يعلى، و الطبراني عن معاذ بن جبل عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لا ينفع حذر من قدر، و لكن الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل فعليكم بالدعاء». و أخرج الترمذي، و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «الدعاء مخّ العبادة». و أخرج ابن المنذر، و الحاكم و صححه عن ابن عباس قال: أفضل العبادة الدعاء، قرأ وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الآية. و أخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت: سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أيّ العبادة أفضل؟ فقال: دعاء المرء لنفسه. و أخرج ابن جرير، و ابن المنذر، و الحاكم و صححه، و ابن مردويه، و البيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا اللّه فليقل على أثرها: الحمد للّه ربّ العالمين، و ذلك قوله: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
فتح القدير، ج4، ص: 573
[سورة غافر (40): الآيات 66 الى 85]
أمر اللّه سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن اللّه نهاه عن عبادة غيره و أمره بالتوحيد فقال: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ و هي: الأصنام. ثم بين وجه النهي فقال: لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي و هي للأدلة العقيلة و النقلية، فإنها توجب التوحيد وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي:
استسلم له بالانقياد و الخضوع. ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة على التوحيد فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي: خلق أباكم الأوّل، و هو آدم، و خلقه من تراب يستلزم خلق ذرّيته منه ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ قد تقدم تفسير هذا في غير موضع ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي: أطفالا، و أفرده لكونه اسم جنس، أو على معنى يخرج كلّ واحد منكم طفلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و هي الحالة التي تجتمع فيها القوّة و العقل، و قد سبق بيان الأشدّ مستوفى في الأنعام، و اللام التعليلية في: لتبلغوا معطوفة على علة أخرى،
فتح القدير، ج4، ص: 574
ليخرجكم مناسبة لها، و التقدير: لتكبروا شيئا فشيئا، ثم لتبلغوا غاية الكمال، و قوله: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً معطوف على لتبلغوا، قرأ نافع، و حفص، و أبو عمرو، و ابن محيصن، و هشام «شيوخا» بضم الشين، و قرأ الباقون بكسرها، و قريء و شيخا على الإفراد لقوله طفلا، و الشيخ من جاوز أربعين سنة وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي: من قبل الشيخوخة وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي: وقت الموت أو يوم القيامة، و اللام هي لام العاقبة وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: لكي تعقلوا توحيد ربكم و قدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ أي: يقدر على الإحياء و الإماتة فَإِذا قَضى أَمْراً من الأمور التي يريدها فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير توقف، و هو تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها، و قد تقدّم تحقيق معناه في البقرة و فيما بعدها. ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات اللّه فقال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ و قد سبق بيان معنى المجادلة أَنَّى يُصْرَفُونَ أي: كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها، و أنها في أنفسها موجبة للتوحيد.
قال ابن زيد: هم المشركون بدليل قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا قال القرطبي:
و قال أكثر المفسرين نزلت في القدرية. قال ابن سيرين: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت، و يجاب عن هذا بأن اللّه سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدلّ على غير ما قالوه، فقال: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي: بالقرآن، و هذا وصف لا يصحّ أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام، و الموصول إما في محل جرّ على أنه نعت للموصول الأوّل، أو بدل منه، و يجوز أن يكون في محل نصب على الذمّ، و المراد بالكتاب: إما القرآن، أو: جنس الكتب المنزلة من عند اللّه، و قوله: وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا معطوف على قوله بالكتاب، و يراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس، أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب: القرآن فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم، و وبال كفرهم، و في هذا وعيد شديد، و الظرف في قوله: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ متعلق بيعلمون، أي: فسوف يعلمون وقت كون الأغلال في أعناقهم وَ السَّلاسِلُ معطوف على الأغلال، و التقدير: إذ الأغلال و السلاسل في أعناقهم، و يجوز أن يرتفع السلاسل: على أنه مبتدأ، و خبره: محذوف لدلالة في أعناقهم عليه، و يجوز أن يكون خبره:
يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ بحذف العائد، أي: يسحبون بها في الحميم، و هذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل، و قرأ ابن عباس، و ابن مسعود، و عكرمة، و أبو الجوزاء بنصبها، و قرءوا «يسحبون» بفتح الياء مبنيا للفاعل، فتكون السلاسل مفعولا مقدّما، و قرأ بعضهم بجرّ السلاسل. قال الفراء: و هذه القراءة محمولة على المعنى، إذ المعنى: أعناقهم في الأغلال و السلاسل. و قال الزجاج: المعنى على هذه القراءة: و في السلاسل يسحبون، و اعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية، و محل يسحبون على تقدير عطف السلاسل على الأغلال، و على تقدير كونها: مبتدأ، و خبرها: في أعناقهم النصب على الحال، أو لا محل له، بل هو مستأنف جواب سؤال مقدّر، و الحميم: هو المتناهي في الحرّ، و قيل: الصديد و قد تقدّم تفسيره ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يقال سجرت التنور: أي أوقدته، و سجرته: ملأته بالوقود، و منه
فتح القدير، ج4، ص: 575
وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ «1» أي: المملوء، فالمعنى توقد بهم النار، أو تملأ بهم. قال مجاهد و مقاتل: توقد بهم النار فصاروا وقودها ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هذا توبيخ و تقريع لهم، أي: أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون اللّه قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي: ذهبوا، و فقدناهم فلا نراهم، ثم أضربوا عن ذلك، و انتقلوا إلى الإخبار بعدمهم، و أنه لا وجود لهم فقالوا: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي: لم نكن نعبد شيئا، قالوا هذا لما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة و الجهالة، و أنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر و لا يسمع، و لا يضرّ و لا ينفع، و ليس هذا إنكارا منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها، بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي: مثل ذلك الضلال يضلّ اللّه الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار، و الإشارة بقوله: ذلِكُمْ إلى الإضلال المدلول عليه بالفعل: أي ذلك الإضلال بسبب بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ أي: بما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي اللّه، و السرور بمخالفة رسله و كتبه، و قيل: بما كنتم تفرحون به من المال و الأتباع و الصحة، و قيل:
بما كنتم تفرحون به من إنكار البعث، و قيل: المراد بالفرح هنا: البطر و التكبر، و بالمرح: الزيادة في البطر.
و قال مجاهد و غيره: تمرحون: أي تبطرون و تأشرون. و قال الضحاك: الفرح السرور، و المرح: العدوان.
و قال مقاتل. المرح: البطر و الخيلاء ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ حال كونكم خالِدِينَ فِيها أي:
مقدّرين الخلود فيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن قبول الحق جهنم. ثم أمر اللّه سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و سلم بالصبر، فقال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ أي: وعده بالانتقام منهم كائن لا محالة، إما في الدنيا، أو في الآخرة، و لهذا قال: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في الدنيا بالقتل، و الأسر، و القهر، و ما في «فإما» زائدة على مذهب المبرد و الزجاج، و الأصل فإن نرك، و لحقت بالفعل دون التأكيد و قوله:
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ معطوف على نرينك، أي: أو نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنعذبهم وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أي: أنبأناك بأخبارهم و ما لقوه من قومهم وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ خبره و لا أوصلنا إليك علم ما كان بينه و بين قومه وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لا من قبل نفسه، و المراد بالآية: المعجزة الدالة على نبوّته فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي: إذا جاء الوقت المعين لعذابهم في الدنيا أو في الآخرة قُضِيَ بِالْحَقِ فيما بينهم فينجي اللّه بقضائه الحق عباده المحقين وَ خَسِرَ هُنالِكَ أي: في ذلك الوقت الْمُبْطِلُونَ الذين يتبعون الباطل، و يعملون به. ثم امتنّ سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ أي: خلقها لأجلكم، قال الزجاج: الأنعام هاهنا: الإبل، و قيل: الأزواج الثمانية لِتَرْكَبُوا مِنْها من للتبعيض، و كذلك في قوله: وَ مِنْها تَأْكُلُونَ و يجوز أن تكون لابتداء الغاية في الموضعين و معناها ابتداء الركوب، و ابتداء الأكل، و الأوّل أولى. و المعنى: لتركبوا بعضها و تأكلوا بعضها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أخر غير الركوب و الأكل من الوبر، و الصوف، و الشعر، و الزبد، و السمن، و الجبن، و غير ذلك وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ قال مجاهد، و مقاتل، و قتادة: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد،