کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج4، ص: 649
عليه سبحانه ما لا يليق بجنابه، و هذا إن كان من كلام اللّه سبحانه فقد نزه عما قالوه، و إن كان من تمام كلام رسوله الذي أمره بأن يقوله فقد أمره بأن يضمّ إلى ما حكاه عنهم بزعمهم الباطل تنزيه ربه و تقديسه فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا أي: اترك الكفار حيث لم يهتدوا بما هديتهم به و لا أجابوك فيما دعوتهم إليه يخوضوا في أباطيلهم، و يلهوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ و هو يوم القيامة، و قيل: العذاب في الدنيا، قيل: و هذا منسوخ بآية السيف، و قيل: هو غير منسوخ و إنما أخرج مخرج التهديد. قرأ الجمهور «يلاقوا» و قرأ مجاهد، و ابن محيصن، و ابن السميقع «حتّى يلقوا» بفتح الياء و إسكان اللام من غير ألف، و رويت هذه القراءة عن أبي عمرو وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ الجار و المجرور في الموضعين متعلق بإله لأنه بمعنى معبود أو مستحق للعبادة، و المعنى: و هو الذي معبود في السماء و معبود في الأرض، أو مستحق للعبادة في السماء، و العبادة في الأرض. قال أبو عليّ الفارسي: و إله في الموضعين مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: و هو الذي في السماء هو إله، و في الأرض هو إله، و حسن حذفه لطول الكلام، قال: و المعنى على الإخبار بإلاهيته، لا على الكون فيهما. قال قتادة: يعبد في السماء و الأرض، و قيل في:
بمعنى على، أي: هو القادر على السماء و الأرض كما في قوله: وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «1» و قرأ عمر ابن الخطاب، و عليّ بن أبي طالب، و ابن مسعود «و هو الذي في السماء اللّه و في الأرض اللّه» على تضمين العلم معنى المشتق فيتعلق به الجار و المجرور من هذه الحيثية وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أي: البليغ الحكمة الكثير العلم وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما تبارك تفاعل من البركة و هي كثرة الخيرات، و المراد بما بينهما: الهواء و ما فيه من الحيوانات وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: علم الوقت الذي يكون قيامها فيه وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازي كلّ أحد بما يستحقه من خير و شرّ، و فيه وعيد شديد. قرأ الجمهور «ترجعون» بالفوقية، و قرأ ابن كثير، و حمزة، و الكسائي بالتحتية وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ أي: لا يملك من يدعونه من دون اللّه من الأصنام و نحوها الشفاعة عند اللّه كما يزعمون أنهم يشفعون لهم. قرأ الجمهور «يدعون» بالتحتية، و قرأ السلمي و ابن وثاب بالفوقية إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ أي:
التوحيد وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أي: هم على علم و بصيرة بما شهدوا به، و الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا، و المعنى: إلا من شهد بالحق، و هم المسيح و عزير و بصيرة بما شهدوا به، و الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا، و المعنى: إلا من شهد بالحق، و هم المسيح و عزير و الملائكة، فإنهم يملكون الشفاعة لمن يستحقها. و قيل:
هو منقطع، و المعنى: لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء. و يجوز أن يكون المستثنى منه محذوفا، أي:
لا يملكون الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق. قال سعيد بن جبير و غيره: معنى الآية: أنه لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق، و آمن على علم و بصيرة. و قال قتادة: لا يشفعون لعابديها، بل يشفعون لمن شهد بالوحدانية. و قيل: مدار الاتصال في هذا الاستثناء على جعل الذين يدعون عاما لكل ما يعبد من دون اللّه، و مدار الانقطاع على جعله خاصا بالأصنام وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ اللام هي الموطئة للقسم، و المعنى: لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام من خلقهم أقرّوا و اعترفوا بأن خالقهم اللّه،
(1). طه: 71.
فتح القدير، ج4، ص: 650
و لا يقدرون على الإنكار، و لا يستطيعون الجحود لظهور الأمر و جلائه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: فكيف ينقلبون عن عبادة اللّه إلى عبادة غيره، و ينصرفون عنها مع هذا الاعتراف، فإن المعترف بأن اللّه خالقه إذا عمد إلى صنم، أو حيوان و عبده مع اللّه، أو عبده و حده فقد عبد بعض مخلوقات اللّه، و في هذا من الجهل ما لا يقادر قدره. يقال أفكه يأفكه إفكا: إذا قلبه و صرفه عن الشيء. و قيل المعنى: و لئن سألت المسيح و عزيرا و الملائكة من خلقهم ليقولنّ اللّه، فأنى يؤفك هؤلاء الكفار في اتخاذهم لها آلهة. و قيل المعنى: و لئن سألت العابدين و المعبودين جميعا. قرأ الجمهور وَ قِيلِهِ بالنصب عطفا على محلّ الساعة، كأنه قيل: إنه يعلم الساعة و يعلم قيله أو عطفا على سرّهم و نجواهم، أي: يعلم سرّهم و نجواهم و يعلم قيله، أو عطفا على مفعول يكتبون المحذوف، أي: يكتبون ذلك، و يكتبون قيله، أو عطفا على مفعول يعلمون المحذوف، أي:
يعلمون ذلك، و يعلمون قيله، أو هو مصدر، أي: قال قيله، أو منصوب بإضمار فعل، أي: اللّه يعلم قيل رسوله، أو هو معطوف على محل بالحقّ، أي: شهد بالحق و بقيله، أو منصوب على حذف حرف القسم.
و من المجوّزين للوجه الأوّل المبرد و ابن الأنباري، و من المجوّزين للثاني الفراء و الأخفش، و من المجوّزين للنصب على المصدرية الفراء و الأخفش أيضا. و قرأ حمزة و عاصم «و قيله» بالجرّ عطفا على لفظ الساعة، أي: و عنده علم الساعة، و علم قيله، و القول و القال و القيل بمعنى واحد، أو: على أن الواو للقسم. و قرأ قتادة، و مجاهد، و الحسن، و أبو قلابة، و الأعرج، و ابن هرمز، و مسلم بن جندب «و قيله» بالرفع عطفا على علم الساعة، أي: و عنده علم الساعة، و عنده قيله، أو: على الابتداء، و خبره: الجملة المذكورة بعده، أو: خبره محذوف تقديره و قيله كيت و كيت، أو: و قيله مسموع. قال أبو عبيد: يقال قلت قولا و قيلا و قالا، و الضمير في و قيله راجع إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم. قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه، و قيل: الضمير عائد إلى المسيح، و على الوجهين فالمعنى: أنه قال مناديا لربه يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ الذين أرسلتني إليهم قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ .
ثم لما نادى ربه بهذا أجابه بقوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي أعرض عن دعوتهم وَ قُلْ سَلامٌ أي: أمري تسليم منكم، و متاركة لكم. قال عطاء: يريد مداراة حتى ينزل حكمي، و معناه: المتاركة. كقوله:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ . و قال قتادة: أمره بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخا بالسيف، و قيل: هي محكمة لم تنسخ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه تهديد شديد، و وعيد عظيم من اللّه عزّ و جلّ.
قرأ الجمهور «يعلمون» بالتحتية، و قرأ نافع و ابن عامر بالفوقية. قال الفراء: إن سلام مرفوع بإضمار عليكم.
و قد أخرج ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و الحاكم و صححه، و البيهقي في البعث و النشور عن ابن عباس في قوله: وَ نادَوْا يا مالِكُ قال: يمكث عنهم ألف سنة ثم يجيبهم إِنَّكُمْ ماكِثُونَ . و أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة و أستارها، قرشيان و ثقفي، أو ثقفيان و قرشي، فقال واحد منهم: ترون أن اللّه يسمع كلامنا؟ فقال واحد منهم: إذا جهرتم سمع، و إذا أسررتم لم يسمع، فنزلت أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ الآية. و أخرج ابن جرير، و ابن المنذر و ابن أبي حاتم
فتح القدير، ج4، ص: 651
عن ابن عباس في قوله: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ يقول: إن يكن للرحمن ولد فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قال: الشاهدين. و أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في قوله: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ قال: هذا معروف من كلام العرب إن كان هذا الأمر قط: أي ما كان. و أخرج ابن جرير عن قتادة نحوه.
فتح القدير، ج4، ص: 652
سورة الدّخان
هي تسع و خمسون، و قيل سبع و خمسون آية، قال القرطبي هي مكية باتفاق إلا قوله: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ . و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس و عبد اللّه بن الزبير أن سورة الدخان نزلت بمكة. و أخرج الترمذي، و البيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ حم الدّخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك». قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، و عمرو بن أبي خثعم ضعيف. قال البخاري: منكر الحديث. و أخرج الترمذي، و محمد بن نصر، و ابن مردويه، و البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ حم الدّخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له». قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، و هشام بن المقدام يضعّف، و الحسن لم يسمع من أبي هريرة، كذا قال أيوب، و يونس بن عبيد، و علي بن زيد، و يشهد له ما أخرجه ابن الضريس، و البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فذكره، و ما أخرجه ابن الضريس عن الحسن مرفوعا بنحوه و هو مرسل، و ما أخرجه الدارمي، و محمد بن نصر عن أبي رافع قال: من قرأ الدّخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له و زوّج من الحور العين.
و أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ سورة حم الدّخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى اللّه له بيتا في الجنة».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله: حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ قد تقدّم في السورتين المتقدمتين قبل هذه السورة الكلام على هذا معنى و إعرابا، و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ جواب القسم، و إن جعلت الجواب حم كانت هذه الجملة مستأنفة، و قد أنكر بعض النحويين أن تكون هذه الجملة جوابا للقسم لأنها صفة للمقسم به؛ و لا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم، و قال الجواب إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ و اختاره ابن عطية، و قيل إن قوله:
فتح القدير، ج4، ص: 653
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ جواب ثان، أو: جملة مستأنفة مقرّرة للإنزال، و في حكم العلة له كأنه قال: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار، و الضمير في أنزلناه راجع إلى الكتاب المبين و هو القرآن. و قيل: المراد بالكتاب سائر الكتب المنزّلة، و الضمير في أنزلناه راجع إلى القرآن على معنى أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزّلة أنه أنزل القرآن، و الأوّل أولى. و الليلة المباركة: ليلة القدر كما في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» و لها أربعة أسماء: الليلة المباركة، و ليلة البراءة، و ليلة الصكّ، و ليلة القدر. قال عكرمة: الليلة المباركة هنا ليلة النصف من شعبان.
و قال قتادة: أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أمّ الكتاب و هو اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا، ثم أنزله اللّه سبحانه على نبيه صلّى اللّه عليه و سلم في الليالي و الأيام في ثلاث و عشرين سنة، و قد تقدّم تحقيق الكلام في هذا في البقرة عند قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» و قال مقاتل: كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام، و وصف اللّه سبحانه هذه الليلة بأنها مباركة لنزول القرآن فيها، و هو مشتمل على مصالح الدين و الدنيا، و لكونها تتنزّل فيها الملائكة و الروح، كما سيأتي في سورة القدر، و من جملة بركتها ما ذكره اللّه سبحانه هاهنا بقوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ و معنى يفرق: يفصل و يبين من قولهم: فرقت الشيء أفرقه فرقا، و الأمر الحكيم: المحكم، و ذلك أن اللّه سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة و موت و بسط و خير و شرّ و غير ذلك، كذا قال مجاهد و قتادة و الحسن و غيرهم: و هذه الجملة: إما صفة أخرى لليلة و ما بينهما اعتراض، أو: مستأنفة لتقرير ما قبلها. قرأ الجمهور «يفرق» بضمّ الياء و فتح الراء مخففا، و قرأ الحسن و الأعمش و الأعرج بفتح الياء و ضم الراء و نصب كل أمر و رفع حكيم على أنه الفاعل. و الحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان، لأن اللّه سبحانه أجملها هنا و بينها في سورة البقرة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ و بقوله في سورة القدر: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف و لا ما يقتضي الاشتباه أَمْراً مِنْ عِنْدِنا قال الزجاج و الفراء: انتصاب أمرا بيفرق، أي: يفرق فرقا، لأن أمرا بمعنى فرقا. و المعنى: إنا نأمر ببيان ذلك و نسخه من اللوح المحفوظ، فهو على هذا منتصب على المصدرية مثل قولك يضرب ضربا. قال المبرد: أمرا في موضع المصدر، و التقدير أنزلناه إنزالا. و قال الأخفش: انتصابه على الحال، أي: آمرين. و قيل: هو منصوب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، و فيه تفخيم لشأن القرآن، و تعظيم له. و قد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب أمرا اثني عشر وجها أظهرها ما ذكرناه. و قرأ زيد بن علي «أمر» بالرفع، أي: هو أمر إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ هذه الجملة: إما بدل من قوله: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أو: جواب ثالث للقسم، أو: مستأنفة، قال الرازي: المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ انتصاب رحمة على العلة، أي: أنزلناه للرحمة، قاله الزجاج. و قال المبرد: إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين، أي: إنا كنا مرسلين رحمة. و قيل: هي مصدر في موضع الحال، أي: راحمين، قاله الأخفش. و قرأ الحسن «رحمة» بالرفع على تقدير: هي رحمة
(1). القدر: 1.
(2). البقرة: 185.
فتح القدير، ج4، ص: 654
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لمن دعاه الْعَلِيمُ بكل شيء. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم قدرته الباهرة فقال: رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما قرأ الجمهور «رب» بالرفع عطفا على السميع العليم، أو: على أنه مبتدأ، و خبره: لا إله إلا هو، أو: على أنه خبر، لمبتدأ محذوف، أي: هو ربّ، و قرأ الكوفيون رَبِ بالجرّ: على أنه بدل من ربك، أو: بيان له، أو نعت إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنه ربّ السموات و الأرض و ما بينهما، و قد أقرّوا بذلك كما حكاه اللّه عنهم في غير موضع، و جملة: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مستأنفة مقرّرة لما قبلها، أو خبر ربّ السموات كما مرّ، و كذلك جملة: يُحْيِي وَ يُمِيتُ فإنها مستأنفة مقرّرة لما قبلها رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ، أي: هو ربكم، أو: على أنه بدل من ربّ السموات، أو: بيان، أو نعت له، و قرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه، و ابن محيصن، و ابن أبي إسحاق، و أبو حيوة، و الحسن بالجرّ، و وجه الجرّ ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجرّ في ربّ السموات بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شكّ من التوحيد و البعث، و في إقرارهم بأن اللّه خلقهم، و خالق سائر المخلوقات، و أن ذلك منهم على طريقة اللعب و الهزو، و محلّ يلعبون: الرفع على أنه خبر ثان، أو: النصب على الحال فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأن كونهم في شك و لعب يقتضي ذلك؛ و المعنى: فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين، و قيل المعنى: احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين.
و قد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي؟ فقيل إنه من أشراط الساعة، و أنه يمكث في الأرض أربعين يوما. و قد ثبت في الصحيح أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة، و قيل: إنه أمر قد مضى، و هو ما أصاب قريشا بدعاء النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم حتى كان الرجل يرى بين السماء و الأرض دخانا، و هذا ثابت في الصحيحين و غيرهما: و ذلك حين دعا عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط و جهد حتى أكلوا العظام، و كان الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه و بينها كهيئة الدخان من الجهد، و قيل: إنه يوم فتح مكة، و سيأتي في آخر البحث بيان ما يدلّ على هذه الأقوال. و قوله: يَغْشَى النَّاسَ صفة ثانية لدخان، أي: يشملهم، و يحيط بهم هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي: يقولون هذا عذاب أليم، أو: قائلين ذلك، أو: يقول اللّه لهم ذلك رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي: يقولون ذلك، و قد روي أنهم أتوا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و قالوا: إن كشف اللّه عنا هذا العذاب أسلمنا، و المراد بالعذاب الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان، أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة، أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. و الراجح منها أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد، و شدّة الجوع، و لا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر و لا ينافيه أيضا ما قيل إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: كيف يتذكرون و يتعظون بما نزل بهم وَ الحال أن قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر الدين و الدنيا
فتح القدير، ج4، ص: 655
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم، و لم يكتفوا بمجرّد الإعراض عنه، بل جاوزوه وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: قالوا: إنما يعلمه القرآن بشر و قالوا إنه مجنون، فكيف يتذكر هؤلاء و أنى لهم الذكرى. ثم لما دعوا اللّه بأن يكشف عنهم العذاب و أنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: إنا نكشفه عنهم كشفا قليلا، أو زمانا قليلا ثم أخبر اللّه سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك، و لا يفون بما وعدوا به من الإيمان فقال: إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي: إلى ما كنتم عليه من الشرك، و قد كان الأمر هكذا، فإن اللّه سبحانه لما كشف عنهم ذلك العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر و العناد، و قيل المعنى: إنكم عائدون إلينا بالبعث و النشور، و الأوّل أولى يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى الظرف منصوب بإضمار اذكر، و قيل: هو بدل من يوم تأتي السماء، و قيل:
هو متعلق بمنتقمون، و قيل: بما دلّ عليه منتقمون و هو ننتقم. و البطشة الكبرى: هي يوم بدر، قاله الأكثر.
و المعنى: أنهم لما عادوا إلى التكذيب و الكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم اللّه منهم بوقعة بدر. و قال الحسن و عكرمة: المراد بها عذاب النار، و اختار هذا الزجاج، و الأوّل أولى. قرأ الجمهور نَبْطِشُ بفتح النون و كسر الطاء: أي: نبطش بهم، و قرأ الحسن و أبو جعفر بضم الطاء و هي لغة، و قرأ أبو رجاء و طلحة بضم النون و كسر الطاء.
و قد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قال: أنزل القرآن في ليلة القدر و نزل به جبريل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما لجواب الناس. و أخرج محمد بن نصر، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم عنه في قوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ قال: يكتب من أمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق و موت، و حياة و مطر، حتى يكتب الحاج: يحج فلان، و يحج فلان. و أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ قال: أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء و السعادة، فإنه في كتاب اللّه لا يبدّل و لا يغير. و أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و الحاكم و صححه، و البيهقي في الشعب [عن ابن عباس] «1» قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق و قد وقع اسمه في الموتى ثم قرأ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الآية، يعني ليلة القدر، قال: ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت أو حياة أو رزق، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها. و أخرج ابن زنجويه و الديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح و يولد له و قد خرج اسمه في الموتى». و أخرجه ابن أبي الدنيا، و ابن جرير عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، و هذا مرسل و لا تقوم به حجة و لا تعارض بمثله صرائح القرآن. و ما روي في هذا فهو إما مرسل أو غير صحيح. و قد أورد ذلك صاحب الدرّ المنثور.
و أورد ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، و ذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله في ليلة مباركة. و أخرج البخاري، و مسلم، و غيرهما عن ابن مسعود أن قريشا لما استعصت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أبطئوا عن الإسلام قال: اللهمّ أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابهم قحط و جهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه و بينها كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل اللّه فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ