کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج4، ص: 652
سورة الدّخان
هي تسع و خمسون، و قيل سبع و خمسون آية، قال القرطبي هي مكية باتفاق إلا قوله: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ . و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس و عبد اللّه بن الزبير أن سورة الدخان نزلت بمكة. و أخرج الترمذي، و البيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ حم الدّخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك». قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، و عمرو بن أبي خثعم ضعيف. قال البخاري: منكر الحديث. و أخرج الترمذي، و محمد بن نصر، و ابن مردويه، و البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ حم الدّخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له». قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، و هشام بن المقدام يضعّف، و الحسن لم يسمع من أبي هريرة، كذا قال أيوب، و يونس بن عبيد، و علي بن زيد، و يشهد له ما أخرجه ابن الضريس، و البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فذكره، و ما أخرجه ابن الضريس عن الحسن مرفوعا بنحوه و هو مرسل، و ما أخرجه الدارمي، و محمد بن نصر عن أبي رافع قال: من قرأ الدّخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له و زوّج من الحور العين.
و أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ سورة حم الدّخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى اللّه له بيتا في الجنة».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله: حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ قد تقدّم في السورتين المتقدمتين قبل هذه السورة الكلام على هذا معنى و إعرابا، و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ جواب القسم، و إن جعلت الجواب حم كانت هذه الجملة مستأنفة، و قد أنكر بعض النحويين أن تكون هذه الجملة جوابا للقسم لأنها صفة للمقسم به؛ و لا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم، و قال الجواب إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ و اختاره ابن عطية، و قيل إن قوله:
فتح القدير، ج4، ص: 653
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ جواب ثان، أو: جملة مستأنفة مقرّرة للإنزال، و في حكم العلة له كأنه قال: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار، و الضمير في أنزلناه راجع إلى الكتاب المبين و هو القرآن. و قيل: المراد بالكتاب سائر الكتب المنزّلة، و الضمير في أنزلناه راجع إلى القرآن على معنى أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزّلة أنه أنزل القرآن، و الأوّل أولى. و الليلة المباركة: ليلة القدر كما في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» و لها أربعة أسماء: الليلة المباركة، و ليلة البراءة، و ليلة الصكّ، و ليلة القدر. قال عكرمة: الليلة المباركة هنا ليلة النصف من شعبان.
و قال قتادة: أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أمّ الكتاب و هو اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا، ثم أنزله اللّه سبحانه على نبيه صلّى اللّه عليه و سلم في الليالي و الأيام في ثلاث و عشرين سنة، و قد تقدّم تحقيق الكلام في هذا في البقرة عند قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» و قال مقاتل: كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام، و وصف اللّه سبحانه هذه الليلة بأنها مباركة لنزول القرآن فيها، و هو مشتمل على مصالح الدين و الدنيا، و لكونها تتنزّل فيها الملائكة و الروح، كما سيأتي في سورة القدر، و من جملة بركتها ما ذكره اللّه سبحانه هاهنا بقوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ و معنى يفرق: يفصل و يبين من قولهم: فرقت الشيء أفرقه فرقا، و الأمر الحكيم: المحكم، و ذلك أن اللّه سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة و موت و بسط و خير و شرّ و غير ذلك، كذا قال مجاهد و قتادة و الحسن و غيرهم: و هذه الجملة: إما صفة أخرى لليلة و ما بينهما اعتراض، أو: مستأنفة لتقرير ما قبلها. قرأ الجمهور «يفرق» بضمّ الياء و فتح الراء مخففا، و قرأ الحسن و الأعمش و الأعرج بفتح الياء و ضم الراء و نصب كل أمر و رفع حكيم على أنه الفاعل. و الحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان، لأن اللّه سبحانه أجملها هنا و بينها في سورة البقرة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ و بقوله في سورة القدر: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف و لا ما يقتضي الاشتباه أَمْراً مِنْ عِنْدِنا قال الزجاج و الفراء: انتصاب أمرا بيفرق، أي: يفرق فرقا، لأن أمرا بمعنى فرقا. و المعنى: إنا نأمر ببيان ذلك و نسخه من اللوح المحفوظ، فهو على هذا منتصب على المصدرية مثل قولك يضرب ضربا. قال المبرد: أمرا في موضع المصدر، و التقدير أنزلناه إنزالا. و قال الأخفش: انتصابه على الحال، أي: آمرين. و قيل: هو منصوب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، و فيه تفخيم لشأن القرآن، و تعظيم له. و قد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب أمرا اثني عشر وجها أظهرها ما ذكرناه. و قرأ زيد بن علي «أمر» بالرفع، أي: هو أمر إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ هذه الجملة: إما بدل من قوله: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أو: جواب ثالث للقسم، أو: مستأنفة، قال الرازي: المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ انتصاب رحمة على العلة، أي: أنزلناه للرحمة، قاله الزجاج. و قال المبرد: إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين، أي: إنا كنا مرسلين رحمة. و قيل: هي مصدر في موضع الحال، أي: راحمين، قاله الأخفش. و قرأ الحسن «رحمة» بالرفع على تقدير: هي رحمة
(1). القدر: 1.
(2). البقرة: 185.
فتح القدير، ج4، ص: 654
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لمن دعاه الْعَلِيمُ بكل شيء. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم قدرته الباهرة فقال: رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما قرأ الجمهور «رب» بالرفع عطفا على السميع العليم، أو: على أنه مبتدأ، و خبره: لا إله إلا هو، أو: على أنه خبر، لمبتدأ محذوف، أي: هو ربّ، و قرأ الكوفيون رَبِ بالجرّ: على أنه بدل من ربك، أو: بيان له، أو نعت إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنه ربّ السموات و الأرض و ما بينهما، و قد أقرّوا بذلك كما حكاه اللّه عنهم في غير موضع، و جملة: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مستأنفة مقرّرة لما قبلها، أو خبر ربّ السموات كما مرّ، و كذلك جملة: يُحْيِي وَ يُمِيتُ فإنها مستأنفة مقرّرة لما قبلها رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ، أي: هو ربكم، أو: على أنه بدل من ربّ السموات، أو: بيان، أو نعت له، و قرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه، و ابن محيصن، و ابن أبي إسحاق، و أبو حيوة، و الحسن بالجرّ، و وجه الجرّ ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجرّ في ربّ السموات بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شكّ من التوحيد و البعث، و في إقرارهم بأن اللّه خلقهم، و خالق سائر المخلوقات، و أن ذلك منهم على طريقة اللعب و الهزو، و محلّ يلعبون: الرفع على أنه خبر ثان، أو: النصب على الحال فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأن كونهم في شك و لعب يقتضي ذلك؛ و المعنى: فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين، و قيل المعنى: احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين.
و قد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي؟ فقيل إنه من أشراط الساعة، و أنه يمكث في الأرض أربعين يوما. و قد ثبت في الصحيح أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة، و قيل: إنه أمر قد مضى، و هو ما أصاب قريشا بدعاء النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم حتى كان الرجل يرى بين السماء و الأرض دخانا، و هذا ثابت في الصحيحين و غيرهما: و ذلك حين دعا عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط و جهد حتى أكلوا العظام، و كان الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه و بينها كهيئة الدخان من الجهد، و قيل: إنه يوم فتح مكة، و سيأتي في آخر البحث بيان ما يدلّ على هذه الأقوال. و قوله: يَغْشَى النَّاسَ صفة ثانية لدخان، أي: يشملهم، و يحيط بهم هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي: يقولون هذا عذاب أليم، أو: قائلين ذلك، أو: يقول اللّه لهم ذلك رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي: يقولون ذلك، و قد روي أنهم أتوا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و قالوا: إن كشف اللّه عنا هذا العذاب أسلمنا، و المراد بالعذاب الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان، أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة، أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. و الراجح منها أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد، و شدّة الجوع، و لا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر و لا ينافيه أيضا ما قيل إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: كيف يتذكرون و يتعظون بما نزل بهم وَ الحال أن قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر الدين و الدنيا
فتح القدير، ج4، ص: 655
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم، و لم يكتفوا بمجرّد الإعراض عنه، بل جاوزوه وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: قالوا: إنما يعلمه القرآن بشر و قالوا إنه مجنون، فكيف يتذكر هؤلاء و أنى لهم الذكرى. ثم لما دعوا اللّه بأن يكشف عنهم العذاب و أنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: إنا نكشفه عنهم كشفا قليلا، أو زمانا قليلا ثم أخبر اللّه سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك، و لا يفون بما وعدوا به من الإيمان فقال: إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي: إلى ما كنتم عليه من الشرك، و قد كان الأمر هكذا، فإن اللّه سبحانه لما كشف عنهم ذلك العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر و العناد، و قيل المعنى: إنكم عائدون إلينا بالبعث و النشور، و الأوّل أولى يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى الظرف منصوب بإضمار اذكر، و قيل: هو بدل من يوم تأتي السماء، و قيل:
هو متعلق بمنتقمون، و قيل: بما دلّ عليه منتقمون و هو ننتقم. و البطشة الكبرى: هي يوم بدر، قاله الأكثر.
و المعنى: أنهم لما عادوا إلى التكذيب و الكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم اللّه منهم بوقعة بدر. و قال الحسن و عكرمة: المراد بها عذاب النار، و اختار هذا الزجاج، و الأوّل أولى. قرأ الجمهور نَبْطِشُ بفتح النون و كسر الطاء: أي: نبطش بهم، و قرأ الحسن و أبو جعفر بضم الطاء و هي لغة، و قرأ أبو رجاء و طلحة بضم النون و كسر الطاء.
و قد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قال: أنزل القرآن في ليلة القدر و نزل به جبريل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما لجواب الناس. و أخرج محمد بن نصر، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم عنه في قوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ قال: يكتب من أمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق و موت، و حياة و مطر، حتى يكتب الحاج: يحج فلان، و يحج فلان. و أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ قال: أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء و السعادة، فإنه في كتاب اللّه لا يبدّل و لا يغير. و أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و الحاكم و صححه، و البيهقي في الشعب [عن ابن عباس] «1» قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق و قد وقع اسمه في الموتى ثم قرأ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الآية، يعني ليلة القدر، قال: ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت أو حياة أو رزق، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها. و أخرج ابن زنجويه و الديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح و يولد له و قد خرج اسمه في الموتى». و أخرجه ابن أبي الدنيا، و ابن جرير عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، و هذا مرسل و لا تقوم به حجة و لا تعارض بمثله صرائح القرآن. و ما روي في هذا فهو إما مرسل أو غير صحيح. و قد أورد ذلك صاحب الدرّ المنثور.
و أورد ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، و ذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله في ليلة مباركة. و أخرج البخاري، و مسلم، و غيرهما عن ابن مسعود أن قريشا لما استعصت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أبطئوا عن الإسلام قال: اللهمّ أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابهم قحط و جهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه و بينها كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل اللّه فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ
(1). ما بين حاصرتين مستدرك من: الدر المنثور (7/ 400)
فتح القدير، ج4، ص: 656
مُبِينٌ الآية، فأتي النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم فقيل: يا رسول اللّه استسق اللّه لمضر، فاستسقى لهم فسقوا، فأنزل اللّه إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل اللّه يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فانتقم اللّه منهم يوم بدر، فقد مضى البطشة و الدخان و اللزام. و قد روي عن ابن مسعود نحو هذا من غير وجه، و روي نحوه عن جماعة من التابعين. و أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و الحاكم عن ابن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس فقال: لم أنم هذه الليلة، فقلت لم؟ قال: طلع الكوكب فخشيت أن يطرق الدخان. قال ابن كثير: و هذا إسناد صحيح، و كذا صححه السيوطي و لكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية. و قد عرّفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، و بين كون الدّخان من آيات الساعة و علاماتها و أشراطها.
فقد وردت أحاديث صحاح و حسان و ضعاف بذلك، و ليس فيها أنه سبب نزول الآية، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها، و الواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين و غيرهما أن دخان قريش عند الجهد و الجوع هو سبب النزول، و بهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي هو من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره و غيره، و هكذا يندفع قول من قال إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكا بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال: كان يوم فتح مكة دخان و هو قول اللّه فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي اللّه عنه ظنّ من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية، و لهذا لم يصرّح بأنه سبب نزولها. و أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: قال ابن عباس قال ابن مسعود: البطشة الكبرى يوم بدر و أنا أقول هي يوم القيامة. قال ابن كثير: و هذا إسناد صحيح. و قال ابن كثير قبل هذا: فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر، و هذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدّخان بما تقدّم، و روي أيضا عن ابن عباس من رواية العوفي عنه و عن أبيّ ابن كعب و جماعة و هو محتمل. و الظاهر أن ذلك يوم القيامة و إن كان يوم بدر يوم بطشه كبرى أيضا انتهى.
قلت: بل الظاهر أنه يوم بدر، و إن كان يوم القيامة يوم بطشه أكبر من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الإنس و الجنّ.
[سورة الدخان (44): الآيات 17 الى 37]
فتح القدير، ج4، ص: 657
قوله: وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي: ابتليناهم، و معنى الفتنة هنا أن اللّه سبحانه أرسل إليهم رسله، و أمروهم بما شرعه لهم فكذبوهم، أو وسع عليهم الأرزاق فطغوا و بغوا. قال الزجاج: بلوناهم، و المعنى: عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسل إليهم، و قرئ فَتَنَّا بالتشديد وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي: كريم على اللّه كريم في قومه. و قال مقاتل: حسن الخلق بالتجاوز و الصفح. و قال الفراء: كريم على ربه إذ اختصه بالنبوّة أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أن هذه هي المفسرة لتقدّم ما هو بمعنى القول، و يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، و المعنى: أن الشأن و الحديث أدّوا إليّ عباد اللّه، و يجوز أن تكون مصدرية، أي:
بأن أدّوا؛ و المعنى: أنه طلب منهم أن يسلموا إليه بني إسرائيل. قال مجاهد: المعنى أرسلوا معي عباد اللّه و أطلقوهم من العذاب، فعباد اللّه على هذا مفعول به. و قيل: المعنى: أدّوا إليّ عباد اللّه ما وجب عليكم من حقوق اللّه، فيكون منصوبا على أنه منادى مضاف. و قيل: أدّوا إليّ سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربكم إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ هو تعليل لما تقدّم، أي: رسول من اللّه إليكم أمين على الرسالة غير متهم وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي: لا تتجبروا و تتكبروا عليه بترفعكم عن طاعته، و متابعة رسله، و قيل: لا تبغوا على اللّه، و قيل: لا تفتروا عليه، و الأوّل أولى، و به قال ابن جريج، و يحيى بن سلام، و جملة: إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ تعليل لما قبله من النهي، أي: بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها. و قال قتادة: بعذر بين.
و الأوّل أولى، و به قال يحيى بن سلام. قرأ الجمهور بكسر همزة إِنِّي و قرئ بالفتح بتقدير اللام وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ استعاذ باللّه سبحانه لما توعدوه بالقتل، و المعنى: من أن ترجمون. قال قتادة: ترجموني بالحجارة، و قيل: تشتمون، و قيل: تقتلون وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي: إن لم تصدّقوني؛ و تقرّوا بنبوّتي؛ فاتركوني و لا تتعرّضوا لي بأذى. قال مقاتل: دعوني كفافا لا عليّ و لا لي، و قيل: كونوا بمعزل عني، و أنا بمعزل منكم إلى أن يحكم اللّه بيننا، و قيل: فخلوا سبيلي، و المعنى متقارب.
ثم لما لم يصدّقوه و لم يجيبوا دعوته، رجع إلى ربه بالدعاء كما حكى اللّه عنه بقوله: فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ قرأ الجمهور بفتح الهمزة على إضمار حرف الجرّ: أي: دعاه بأن هؤلاء، و قرأ الحسن، و ابن أبي إسحاق، و عيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول، و في الكلام حذف، أي: فكفروا فدعا ربه، و المجرمون: الكافرون، و سماه دعاء مع أنه لم يذكر إلا مجرّد كونهم مجرمين، لأنهم قد استحقوا بذلك الدعاء عليهم فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أجاب اللّه سبحانه دعاءه، فأمره أن يسري ببني إسرائيل ليلا، يقال سرى و أسرى لغتان، قرأ الجمهور فَأَسْرِ بالقطع، و قرأ أهل الحجاز بالوصل، و وافقهم ابن كثير، فالقراءة الأولى من أسرى، و الثانية من سرى، و الجملة بتقدير القول: أي فقال اللّه لموسى أسر بعبادي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ
فتح القدير، ج4، ص: 658
أي: يتبعكم فرعون و جنوده، و قد تقدّم في غير موضع خروج فرعون بعدهم وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي: ساكنا، يقال رها يرهو رهوا: إذا سكن لا يتحرّك. قال الجوهري: يقال افعل ذلك رهوا، أي: ساكنا على هيئتك، و عيش راه: أي ساكن، و رها البحر سكن، و كذا قال الهروي و غيره، و هو المعروف في اللغة، و منه قول الشاعر:
و الخيل تمرح رهوا في أعنّتها
كالطير تنجو من الشرنوب ذي الوبر
أي: و الخيل تمرح في أعنتها ساكنة، و المعنى: اترك البحر ساكنا على صفته بعد أن ضربته بعصاك، و لا تأمره أن يرجع كما كان ليدخله آل فرعون بعدك و بعد بني إسرائيل فينطبق عليهم فيغرقون. و قال أبو عبيدة:
رها بين رجليه يرهو رهوا: أي فتح .. قال، و منه قوله: وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً و المعنى: اتركه منفرجا كما كان بعد دخولكم فيه، و كذا قال أبو عبيد: و به قال مجاهد و غيره. قال ابن عرفة: و هما يرجعان إلى معنى واحد، و إن اختلف لفظاهما، لأن البحر إذا سكن جريه انفرج. قال الهروي: و يجوز أن يكون رهوا نعتا لموسى، أي: سر ساكنا على هيئتك. و قال كعب و الحسن رهوا: طريقا. و قال الضحاك: و الربيع سهلا.
و قال عكرمة: يبسا كقوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً و على كل تقدير، فالمعنى اتركه ذا رهو أو اتركه رهوا على المبالغة في الوصف بالمصدر إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي: إن فرعون و قومه مغرقون.