کتابخانه تفاسیر
فتح القدير، ج5، ص: 624
يقال: نصره على عدوّه ينصره نصرا؛ إذا أعانه، و الاسم: النصرة، و استنصره على عدوّه؛ إذا سأله أن ينصره عليه، قال الواحدي: قال المفسرون: إِذا جاءَ ك يا محمد نَصْرُ اللَّهِ على من عاداك، و هم قريش وَ الْفَتْحُ فتح مكة، و قيل: المراد نصره صلّى اللّه عليه و سلّم على قريش من غير تعيين، و قيل: نصره على من قاتله من الكفار، و قيل: هو فتح سائر البلاد، و قيل: هو ما فتحه اللّه عليه من العلوم، و عبّر عن حصول النصر و الفتح بالمجيء للإيذان بأنهما متوجّهان إليه صلّى اللّه عليه و سلّم. و قيل: إذا: بمعنى: قد، و قيل: بمعنى إذ. قال الرازي: الفرق بين النصر و الفتح؛ أن الفتح هو تحصيل المطلوب الّذي كان منغلقا؛ كالسبب للفتح، فلهذا بدأ بذكر النصر و عطف عليه الفتح؛ أو يقال النصر كمال الدين، و الفتح: إقبال الدنيا الّذي هو تمام النعمة؛ أو يقال: النصر: الظفر، و الفتح: الجنة، هذا معنى كلامه. و يقال: الأمر أوضح من هذا و أظهر؛ فإن النصر: هو التأييد الّذي يكون به قهر الأعداء و غلبهم و الاستعلاء عليهم، و الفتح: هو فتح مساكن الأعداء و دخول منازلهم وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أي: أبصرت الناس من العرب و غيرهم يدخلون في دين اللّه الّذي بعثك به جماعات فوجا بعد فوج. قال الحسن: لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مكة قال العرب: أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم، و قد أجارهم اللّه من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، فكانوا يدخلون في دين اللّه أفواجا، أي: جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا، و اثنين اثنين، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. قال عكرمة و مقاتل: أراد بالناس: أهل اليمن، و ذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين. و انتصاب أفواجا على الحال من فاعل يدخلون، و محل قوله «يدخلون في دين اللّه» النصب على الحال إن كانت الرؤية بصرية، و إن كانت بمعنى العلم فهو في محل نصب على أنه المفعول الثاني. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ هذا جواب الشرط، و هو العامل فيه، و التقدير: فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر اللّه. و قال مكي: العامل في إذا هو جاء، و رجّحه أبو حيان و ضعف الأوّل بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها، و قوله: بِحَمْدِ رَبِّكَ في محل نصب على الحال، أي: فقل سبحان اللّه متلبسا بحمده، أو حامدا له. و فيه الجمع بين تسبيح اللّه المؤذن بالتعجب مما يسره اللّه له مما لم يكن يخطر بباله و لا بال أحد من الناس، و بين الحمد له على جميل صنعه له و عظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر و الفتح لأمّ القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة، و الأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم: هو مجنون، هو ساحر، هو شاعر، هو كاهن، و نحو ذلك. ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم بالاستغفار: أي اطلب منه المغفرة لذنبك هضما لنفسك و استقصارا لعملك، و استدراكا لما فرط منك من ترك ما هو الأولى، و قد كان صلّى اللّه عليه و سلّم يرى قصوره عن القيام بحق اللّه و يكثر من الاستغفار و التضرّع و إن كان قد غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخر. و قيل: إن الاستغفار منه صلّى اللّه عليه و سلّم و من سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم اللّه به، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم. و قيل: إنما أمره اللّه سبحانه بالاستغفار تنبيها لأمته و تعريضا بهم، فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار. و قيل: إن اللّه سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه. و قيل: المراد بالتسبيح هنا: الصلاة. و الأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سرورا بالنعمة،
فتح القدير، ج5، ص: 625
و فرحا بما هيأه اللّه من نصر الدين، و كبت أعدائه و نزول الذلة بهم و حصول القهر لهم. قال الحسن: أعلم اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قد اقترب أجله؛ فأمر بالتسبيح و التوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن يقول: «سبحانك اللهم و بحمدك اغفر لي إنك أنت التواب». قال قتادة و مقاتل: و عاش صلّى اللّه عليه و سلّم بعد نزول هذه السورة سنتين، و جملة إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً تعليل لأمره صلّى اللّه عليه و سلّم بالاستغفار، أي: من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم و يرحمهم بقبول توبتهم، و توّاب من صيغ المبالغة، ففيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين. و قد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلّت على نعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
و قد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول اللّه: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ فقالوا:
فتح المدائن و القصور، قال: فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: قلت مثل ضرب لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم نعيت له نفسه.
و أخرج البخاري و غيره عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا و لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلّا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول اللّه عزّ و جلّ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد اللّه و نستغفره إذا نصرنا و فتح علينا، و سكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أ كذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أعلمه اللّه له، قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ فذلك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فقال عمر: لا أعلم منها إلّا ما تقول. و أخرج ابن النجار عن سهل بن سعد عن أبي بكر أن سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ حين أنزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن نفسه نعيت إليه. و أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عائشة قالت: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يكثر من قول: سبحان اللّه و بحمده، و أستغفره و أتوب إليه، فقلت: يا رسول اللّه أراك تكثر من قول سبحان اللّه و بحمده و أستغفر اللّه و أتوب إليه، فقال: خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان اللّه و بحمده، و أستغفر اللّه و أتوب إليه، فقد رأيتها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ فتح مكة وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً- فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ».
و أخرج البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و غيرهم عن عائشة قالت: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يكثر أن يقول في ركوعه و سجوده: سبحانك اللهمّ و بحمدك اللهمّ اغفر لي، يتأوّل القرآن» يعني إذا جاء نصر اللّه و الفتح، و في الباب أحاديث. و أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «جاء أهل اليمن هم أرقّ قلوبا، الإيمان يمان، و الفقه يمان، و الحكمة يمانية». و أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: «بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في المدينة إذ قال: اللّه أكبر قد جاء نصر اللّه و الفتح، و جاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم، لينة طاعتهم، الإيمان يمان، و الفقه
فتح القدير، ج5، ص: 626
يمان، و الحكمة يمانية». و أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:
«إن الناس دخلوا في دين اللّه أفواجا و سيخرجون منه أفواجا». و أخرج الحاكم و صحّحه، عن أبي هريرة قال: «تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً قال: ليخرجنّ منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا».
فتح القدير، ج5، ص: 627
سورة المسد
و هي مكية بلا خلاف. و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس و ابن الزبير و عائشة قالوا: نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ بمكة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المسد (111): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
معنى تَبَّتْ : هلكت. و قال مقاتل: خسرت، و قيل: خابت. و قال عطاء: ضلّت. و قيل:
صفرت من كل خير، و خصّ اليدين بالتباب؛ لأن أكثر العمل يكون بهما. و قيل: المراد باليدين نفسه، و قد يعبّر باليد عن النفس، كما في قوله: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «1» أي: نفسك، و العرب تعبّر كثيرا ببعض الشيء عن كله، كقولهم: أصابته يد الدهر، و أصابته يد المنايا، كما في قول الشاعر:
لمّا أكبّت يد الرّزايا
عليه نادى ألا مجير
و أبو لهب اسمه: عبد العزّى بن عبد المطلب بن هاشم، و قوله: وَ تَبَ أي: هلك. قال الفراء:
الأوّل دعاء عليه، و الثاني خبر، كما تقول: أهلكه اللّه، و قد هلك. و المعنى: أنه قد وقع ما دعا به عليه. و يؤيده قراءة ابن مسعود: «و قد تبّ». و قيل: كلاهما إخبار، أراد بالأوّل هلاك عمله، و بالثاني هلاك نفسه.
و قيل: كلاهما دعاء عليه، و يكون في هذا شبه من مجيء العامّ بعد الخاص، و إن كان حقيقة اليدين غير مرادة، و ذكره سبحانه بكنيته لاشتهاره بها، و لكون اسمه كما تقدّم عبد العزى، و العزى: اسم صنم، و لكون في هذه الكنية ما يدلّ على أنه ملابس للنار؛ لأن اللهب هو لهب النار، و إن كان إطلاق ذلك عليه في الأصل لكونه كان جميلا، و أن وجهه يتلهب لمزيد حسنه كما تتلهب النار. قرأ الجمهور: «لهب» بفتح اللام و الهاء. و قرأ مجاهد و حميد و ابن كثير و ابن محيصن بإسكان الهاء، و اتفقوا على فتح الهاء في قوله: ذاتَ لَهَبٍ و روى صاحب الكشاف أنه قرئ «تبت يدا أبو لهب»، و ذكر وجه ذلك ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ أي: ما دفع عنه ما حلّ به من التباب و ما نزل به من عذاب اللّه ما جمع من المال و لا ما كسب من الأرباح و الجاه؛ أو المراد بقوله: ماله: ما ورثه من أبيه، و بقوله: وَ ما كَسَبَ الّذي كسبه بنفسه. قال مجاهد:
(1). الحج: 10.
فتح القدير، ج5، ص: 628
و ما كسب من ولد، و ولد الرجل من كسبه، و يجوز أن تكون «ما» في قوله: ما أَغْنى استفهامية، أي: أيّ شيء أغنى عنه؟ و كذا يجوز في قوله: وَ ما كَسَبَ أن تكون استفهامية، أي: و أيّ شيء كسب؟ و يجوز أن تكون مصدرية، أي: و كسبه. و الظاهر أن ما الأولى نافية، و الثانية موصولة. ثم أوعده سبحانه بالنار فقال: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ قرأ الجمهور: «سيصلى» بفتح الياء و إسكان الصاد و تخفيف اللام، أي: سيصلى هو بنفسه، و قرأ أبو رجاء و أبو حيوة و ابن مقسم و الأشهب العقيلي و أبو السّمّال و الأعمش و محمد بن السّميقع بضم الياء و فتح الصاد و تشديد اللام، و رويت هذه القراءة عن ابن كثير، و المعنى سيصليه اللّه، و معنى ذاتَ لَهَبٍ ذات اشتعال و توقد، و هي نار جهنم وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ معطوف على الضمير في يصلى، و جاز ذلك للفصل، أي: و تصلى امرأته نارا ذات لهب، و هي أمّ جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، و كانت تحمل الغضى و الشوك، فتطرحه بالليل على طريق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، كذا قال ابن زيد و الضحاك و الربيع بن أنس و مرّة الهمداني. و قال مجاهد و قتادة و السدي: إنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس. و العرب تقول: فلان يحطب على فلان؛ إذا نمّ به، و منه قول الشاعر:
إنّ بني الأدرم حمّالو الحطب
هم الوشاة في الرّضا و في الغضب
عليهم اللّعنة تترى و الحرب و قال آخر:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة
و لم تمش بين النّاس بالحطب الرّطب
و جعل الحطب في هذا البيت رطبا؛ لما فيه من التدخين الّذي هو زيادة في الشر، و من الموافقة للمشي بالنميمة، و قال سعيد بن جبير: معنى حمالة الحطب أنها حمالة الخطايا و الذنوب، من قولهم: فلان يحتطب على ظهره، كما في قوله: وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «1» و قيل: المعنى: حمالة الحطب في النار. قرأ الجمهور: «حمالة» بالرفع على الخبرية على أنها جملة مسوقة للإخبار بأن امرأة أبي لهب حمالة الحطب، و أما على ما قدّمنا من عطف و امرأته على الضمير في تصلى، فيكون رفع حمالة على النعت لامرأته، و الإضافة حقيقية لأنها بمعنى المضيّ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي حمالة. و قرأ عاصم بنصب «حمالة» على الذمّ، أو على أنه حال من امرأته. و قرأ أبو قلابة: «حاملة الحطب» فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ الجملة في محل نصب على الحال من امرأته، و الجيد: العنق، و المسد: الليف الّذي تفتل منه الحبال، و منه قول النابغة:
مقذوفة بدخيس النّحض بازلها
له صريف صريف القعو بالمسد «2»
(1). الأنعام: 31.
(2). «مقذوفة»: مرمية باللحم. «الدخيس»: الّذي قد دخل بعضه في بعض من كثرته. «النحض»: اللحم.
«البازل»: الكبير. «الصريف»: الصيح. «القعو»: ما يضم البكرة إذا كان خشبا.
فتح القدير، ج5، ص: 629
و قول الآخر:
يا مسد الخوص تعوّذ منّي
إن كنت لدنا ليّنا فإنّي
و قال أبو عبيدة: المسد: هو الحبل يكون من صوف. و قال الحسن: هي حبال تكون من شجر ينبت باليمن تسمى بالمسد. و قد تكون الحبال من جلود الإبل أو من أوبارها. قال الضحاك و غيره: هذا في الدنيا، كانت تعير النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بالفقر، و هي تحتطب في حبل تجعله في عنقها، فخنقها اللّه به فأهلكها، و هو في الآخرة حبل من نار. و قال مجاهد و عروة بن الزبير: هو سلسلة من نار تدخل في فيها و تخرج من أسفلها. و قال قتادة:
هو قلادة من ودع كانت لها. قال الحسن: إنما كان خرزا في عنقها. و قال سعيد بن المسيب: كان لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: و اللات و العزّى لأنفقنها في عداوة محمد، فيكون ذلك عذابا في جسدها يوم القيامة. و المسد: الفتل، يقال: مسد حبله يمسده مسدا؛ أجاد فتله.
و قد أخرج البخاري و مسلم و غيرهما عن ابن عباس قال: «لما نزلت: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» خرج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه، فاجتمعوا إليه، فقال: أ رأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أ كنتم مصدّقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد؛ فقال أبو لهب: تبا لك إنما جمعتنا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَ ». قال: خسرت. و أخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، و إن ابنه من كسبه، ثم قرأت: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ قالت: و ما كسب ولده.
و أخرج عبد الرزاق و الحاكم و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: وَ ما كَسَبَ قال: كسبه ولده. و أخرج ابن جرير، و البيهقي في الدلائل، و ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قال:
كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ليعقره و أصحابه، و قال: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ نقالة الحديث حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قال: هي حبال تكون بمكة. و يقال: المسد: العصا التي تكون في البكرة.
و يقال المسد: قلادة من ودع. و أخرج ابن أبي حاتم و أبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر قالت «لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب و لها ولولة، و في يدها فهر «2» ، و هي تقول:
مذمّما أبينا
و دينه قلينا
و أمره عصينا
و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جالس في المسجد و معه أبو بكر، فلما رآه أبو بكر قال: يا رسول اللّه قد أقبلت، و أنا أخاف أن تراك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: إنها لن تراني و قرأ قرآنا، اعتصم به، كما قال تعالى: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «3» فأقبلت حتى وقفت على أبي
(1). الشعراء: 214.
(2). «الفهر»: الحجر.
(3). الإسراء: 45.
فتح القدير، ج5، ص: 630