کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

فى ظلال القرآن

الجزء الأول

تقديم مقدمة فهرس المجلد الأول

الجزء الثاني

فهرس المجلد الثاني

الجزء الثالث

فهرس المجلد الثالث الجزء الثامن

الجزء الرابع

فهرس المجلد الرابع

الجزء الخامس

فهرس المجلد الخامس

الجزء السادس

فهرس المجلد السادس(الأخير)

فى ظلال القرآن


صفحه قبل

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 19

بسم اللّه الرّحمن الرحيم سورة الفاتحة و أول سورة البقرة الجزء الأوّل‏

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 21

(1) سورة الفاتحة مكيّة و آياتها سبع‏

[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع، سبع عشرة مرة في كل يوم و ليلة على الحد الأدنى؛ و أكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن؛ و إلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا، غير الفرائض و السنن. و لا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- من حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».

إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، و كليات التصور الإسلامي، و كليات المشاعر و التوجهات، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، و حكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها ..

تبدأ السورة: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. و مع الخلاف حول البسملة: أ هي آية من كل سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند القراءة كل سورة، فإن الأرجح أنها آية من سورة الفاتحة، و بها تحتسب آياتها سبعا. و هناك قول بأن المقصود بقوله تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» .. و هو سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات‏ «مِنَ الْمَثانِي» لأنها يثنى بها و تكرر في الصلاة.

و البدء باسم اللّه هو الأدب الذي أوحى اللّه لنبيه- صلى اللّه عليه و سلم- في أول ما نزل من القرآن باتفاق، و هو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ...» .. و هو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن اللّه‏ «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ» .. فهو- سبحانه- الموجود الحق الذي يستمد منه كلّ موجود وجوده، و يبدأ منه كل مبدوء بدأه. فباسمه إذن يكون كل ابتداء. و باسمه إذن تكون كل حركة و كل اتجاه.

و وصفه- سبحانه- في البدء بالرحمن الرحيم، يستغرق كل معاني الرحمة و حالاتها .. و هو المختص‏

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 22

وحده باجتماع هاتين الصفتين، كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن. فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم؛ و لكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن. و من باب أولى أن تجتمع له الصفتان .. و مهما يختلف في معنى الصفتين: أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة، فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال؛ إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة و حالاتها و مجالاتها.

و إذا كان البدء باسم اللّه و ما ينطوي عليه من توحيد اللّه و أدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي ..

فإن استغراق معاني الرحمة و حالاتها و مجالاتها في صفتي‏ «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» يمثل الكلية الثانية في هذا التصور، و يقرر حقيقة العلاقة بين اللّه و العباد.

و عقب البدء باسم اللّه الرحمن الرحيم يجي‏ء التوجه إلى اللّه بالحمد و وصفه بالربوبية المطلقة للعالمين: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..

و الحمد للّه هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره للّه .. فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد و الثناء. و في كل لمحة و في كل لحظة و في كل خطوة تتوالى آلاء اللّه و تتواكب و تتجمع، و تغمر خلائقه كلها و بخاصة هذا الإنسان .. و من ثم كان الحمد للّه ابتداء، و كان الحمد للّه ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر: «وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَ الْآخِرَةِ ...» .

و مع هذا يبلغ من فضل اللّه- سبحانه- و فيضه على عبده المؤمن، أنه إذا قال: الحمد للّه. كتبها له حسنة ترجح كل الموازين .. في سنن ابن ماجه عن ابن عمر- رضي اللّه عنهما- أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- حدثهم أن عبدا من عباد اللّه قال: «يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك».

فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها. فصعدا إلى اللّه فقالا: يا ربنا، إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها. قال اللّه- و هو أعلم بما قال عبده-: «و ما الذي قال عبدي؟» قالا: يا رب، إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك. فقال اللّه لهما: «اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها» ..

و التوجه إلى اللّه بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره للّه- كما أسلفنا- أما شطر الآية الأخير: «رَبِّ الْعالَمِينَ» فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي، فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية .. و الرب هو المالك المتصرف، و يطلق في اللغة على السيد و على المتصرف للإصلاح و التربية ..

و التصرف للإصلاح و التربية يشمل العالمين- أي جميع الخلائق- و اللّه- سبحانه- لم يخلق الكون ثم يتركه هملا. إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح و يرعاه و يربيه. و كل العوالم و الخلائق تحفظ و تتعهد برعاية اللّه رب العالمين.

و الصلة بين الخالق و الخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت و في كل حالة.

و الربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل، و الغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة. و كثيرا ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف باللّه بوصفه الموجد الواحد للكون، و الاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة. و لقد يبدو هذا غريبا مضحكا. و لكنه كان و ما يزال.

و لقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 23

لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏» .. كما قال عن جماعة من أهل الكتاب: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. و كانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، تعج بالأرباب المختلفة، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون! فإطلاق الربوبية في هذه السورة، و شمول هذه الربوبية للعالمين جميعا، هي مفرق الطريق بين النظام و الفوضى في العقيدة. لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد، تقر له بالسيادة المطلقة، و تنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة، و عنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب .. ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية اللّه الدائمة و ربوبيته القائمة. و إلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا و لا تفتر و لا تغيب، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن اللّه أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به، لأن اللّه أرقى من أن يفكر فيما هو دونه! فهو لا يفكر إلا في ذاته! و أرسطو- و هذا تصوره- هو أكبر الفلاسفة، و عقله هو أكبر العقول! لقد جاء الإسلام و في العالم ركام من العقائد و التصورات و الأساطير و الفلسفات و الأوهام و الأفكار ..

يختلط فيها الحق بالباطل، و الصحيح بالزائف، و الدين بالخرافة، و الفلسفة بالأسطورة .. و الضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات و ظنون، و لا يستقر منها على يقين.

و كان التيه الذي لا قرار فيه و لا يقين و لا نور، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها، و صفاته و علاقته بخلائقه، و نوع الصلة بين اللّه و الإنسان على وجه الخصوص.

و لم يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون، و في أمر نفسه و في منهج حياته، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته و تصوره لإلهه و صفاته، و قبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء و هذا التيه و هذا الركام الثقيل.

و لا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام، و حتى يرود هذا التيه من العقائد و التصورات و الأساطير و الفلسفات و الأوهام و الأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري، و التي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير. (و سيجي‏ء في استعراض سور القرآن الكثير منها، مما عالجه القرآن علاجا وافيا شاملا كاملا).

و من ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، و تحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر اللّه و صفاته، و علاقته بالخلائق، و علاقة الخلائق به على وجه القطع و اليقين.

و من ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل، الذي لا تشوبه شائبة من قريب و لا من بعيد .. هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام، و ظل يجلوها في الضمير، و يتتبع فيه كل هاجسة و كل شائبة حول حقيقة التوحيد، حتى يخلصها من كل غبش. و يدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها و هم في صورة من الصور ..

كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات اللّه و بخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة.

فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات و العقائد كما تخبط فيه الأوهام و الأساطير ..

مما يتعلق بهذا الأمر الخطير، العظيم الأثر في الضمير الإنساني. و في السلوك البشري سواء.

و الذي يراجع لجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات اللّه و صفاته و علاقته بمخلوقاته، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة .. الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه .. قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر، و إلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير .. و لكن مراجعة ذلك الركام تكشف‏

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 24

عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة- و تقوم في تحرير الضمير البشري و إعتاقه؛ و إطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب و شتى الأوهام و الأساطير! و إن جمال هذه العقيدة و كمالها و تناسقها و بساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها .. كل هذا لا ينجلى للقلب و العقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد و التصورات، و الأساطير و الفلسفات! و بخاصة موضوع الحقيقة الإلهية و علاقتها بالعالم .. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب و العقل، رحمة بما فيها من جمال و بساطة، و وضوح و تناسق، و قرب و أنس، و تجاوب مع الفطرة مباشر عميق.

«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة و حالاتها و مجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة، في آية مستقلة، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة؛ و لتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب و مربوبيه. و بين الخالق و مخلوقاته .. إنها صلة الرحمة و الرعاية التي تستجيش الحمد و الثناء. إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة و تنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.

إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم و الأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها و ثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق. و لا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في «العهد القديم» كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين‏ «1» .

«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» .. و هذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها، كلية الاعتقاد بالآخرة .. و الملك أقصى درجات الاستيلاء و السيطرة. و يوم الدين هو يوما الجزاء في الآخرة .. و كثيرا ما اعتقد الناس بألوهية اللّه، و خلقه للكون أول مرة؛ و لكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء .. و القرآن يقول عن بعض هؤلاء: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ»* .. ثم يحكي عنهم في موضع آخر: «بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون: هذا شي‏ء عجيب. أ إذا متنا و كنا ترابا؟

ذلك رجع بعيد»! و الاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر و قلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض؛ فلا تستبد بهم ضرورات الأرض. و عندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات. و لا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، و في مجال الأرض المحصور. و عندئذ يملكون العمل لوجه اللّه و انتظار الجزاء حيث يقدره اللّه، في الأرض أو في الدار الآخرة سواء، في طمأنينة للّه، و في ثقة بالخير، و في إصرار على الحق، و في سعة و سماحة و يقين .. و من ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات و الرغائب، و الطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض و قيمها و موازينها و التعلق بالقيم الربانية و الاستعلاء على منطق الجاهلية. مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها اللّه الرب لعباده، و الصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.

(1) و كانت الأرض كلها لغة واحدة و كلاما واحدا. و كان أنهم لما رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شنعار فأقاموا هناك. و قال بعضهم لبعض تعالوا نصنع لبنا و ننضجه طبخا فكان لهم اللبن بدل الحجارة و الحمر كان لهم بدل الطين. و قالوا تعالوا نبن لنا مدينة و برجا رأسه إلى السماء و نقم لنا اسما كي لا نتبدد على وجه الأرض كلها. فنزل الرب لينظر المدينة و البرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. و قال الرب هو ذا هم شعب واحد و لجميعهم لغة واحدة و هذا ما أخذوا يفعلونه. و الآن لا يكفون عما هموا به حتى يصنعوه. هلم نهبط و نبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها و كفوا عن بناء المدينة. و لذلك سميت بابل لأن الرب هناك بلبل لغة الأرض كلها. و من هناك شتتهم الرب على كل وجهها.

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 25

و ما تستقيم الحياة البشرية على منهج اللّه الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر. و ما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير. و ما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها، و أن يضحي لنصرة الحق و الخير معتمدا على العوض الذي يلقاه فيها ..

و ما يستوي المؤمنون بالآخرة و المنكرون لها في شعور و لا خلق و لا سلوك و لا عمل. فهما صنفان مختلفان من الخلق. و طبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل و لا تلتقيان في الآخرة في جزاء .. و هذا هو مفرق الطريق ..

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .. و هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة. فلا عبادة إلا للّه، و لا استعانة إلا باللّه.

و هنا كذلك مفرق طريق .. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، و بين العبودية المطلقة للعبيد! و هذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام. و التحرر من عبودية النظم، و التحرر من عبودية الأوضاع. و إذا كان اللّه وحده هو الذي يعبد، و اللّه وحده هو الذي يستعان، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم و الأوضاع و الأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير و الأوهام و الخرافات ..

و هنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية، و من القوى الطبيعية ..

فأما القوى الإنسانية- بالقياس إلى المسلم- فهي نوعان: قوة مهتدية، تؤمن باللّه، و تتبع منهج اللّه ..

و هذه يجب أن يؤازرها، و يتعاون معها على الخير و الحق و الصلاح .. و قوة ضالة لا تتصل باللّه و لا تتبع منهجه. و هذه يجب أن يحاربها و يكافحها و يغير عليها.

و لا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية. فهي بضلالها عن مصدرها الأول- قوة اللّه- تفقد قوتها الحقيقية. تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها. و ذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب، فما يلبث أن ينطفى‏ء و يبرد و يفقد ناره و نوره، مهما كانت كتلته من الضخامة. على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها و حرارتها و نورها: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» ..

غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول، و باستمدادها من النبع الواحد للقوة و للعزة جميعا.

و أما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف و الصداقة، لا موقف التخوف و العداء. ذلك أن قوة الإنسان و قوة الطبيعة صادرتان عن إرادة اللّه و مشيئته. محكومتان بإرادة اللّه و مشيئته، متناسقتان متعاونتان في الحركة و الاتجاه.

إن عقيدة المسلم توحي إليه أن اللّه ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا؛ و أن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها. و يتعرف إليها، و يتعاون و إياها، و يتجه معها إلى اللّه ربه و ربها.

و إذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها و لم يتعرف إليها، و لم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها.

و لقد درج الغربيون- ورثة الجاهلية الرومانية- على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: «قهر الطبيعة» .. و لهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة باللّه، و بروح الكون المستجيب للّه.

صفحه بعد