کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 12
على المتدبر و المتفكر في القرآن العزيز من التأويل و المعاني ما لا يفتحه على غيره «و فوق كل ذي علم عليم» و اللّه أعلم.
فصل في معنى التفسير و التأويل:
فأما التفسير فأصله في اللغة من الفسر، و هو كشف ما غطى، و هو بيان المعاني المعقولة فكل ما يعرف به الشيء و معناه فهو تفسير. و قد يقال فيما يختص بمفردات الألفاظ و غريبها تفسير. و قيل هو من التفسرة و هو الدليل الذي ينظر فيه الطبيب فيكشف عن علة المريض فكذلك المفسر يكشف عن معنى الآية و شأنها و قصتها.
و أما التأويل فاشتقاقه من الأول و هو الرجوع إلى الأصل يقال أولته فأول أي صرفته فانصرف، و هو رد الشيء إلى الغاية و المراد منه بيان غايته المقصودة منه فالتأويل بيان المعاني و الوجوه المستنبطة الموافقة للفظ الآية. و الفرق بين التفسير و التأويل أن التفسير يتوقف على النقل المسموع و التأويل يتوقف على الفهم الصحيح و اللّه أعلم.
(القول في الاستعاذة) و لفظها المختار أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم لموافقة قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ و معنى أعوذ باللّه ألتجئ إليه و أمتنع به مما أخشاه من عاذ يعوذ، و الشيطان أصله من شطن أي تباعد من الرحمة و قيل من شاط يشيط إذا هلك و احترق غضبا و الشيطان اسم لكل عارم عات من الجن و الإنس و شيطان الجن مخلوق من قوة النار فلذلك فيه القوة الغضبية الرجيم فعيل بمعنى فاعل أي يرجم بالوسوسة و الشر و قيل بمعنى مفعول أي مرجوم بالشهب عند استراق السمع، و قيل مرجوم بالعذاب و قيل مرجوم بمعنى مطرود عن الرحمة و عن الخيرات و عن منازل الملأ الأعلى. و أما حكم الاستعاذة ففيه مسائل.
المسألة الأولى: اتفق الجمهور على أن الاستعاذة سنة في الصلاة فلو تركها لم تبطل صلاته سواء تركها عمدا أو سهوا، و يستحب لقارئ القرآن خارج الصلاة أن يتعوذ أيضا. و حكي عن عطاء وجوبها سواء كانت في الصلاة أو غيرها. و قال ابن سيرين إذا تعوذ الرجل في عمره مرة واحدة كفى في إسقاط الوجوب، دليل الوجوب ظاهر قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ* و الأمر للوجوب، و أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم واظب على التعوذ فيكون واجبا، و دليل الجمهور أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة و تأخير البيان عن وقته غير جائز. و أجيب عن قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ* بأن معناه عند جماهير العلماء إذا أردت القراءة فاستعذ كقوله: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا» معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة. و أجيب عن مواظبة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بأنه صلّى اللّه عليه و سلّم واظب على أشياء كثيرة من أفعال الصلاة ليست بواجبة كتكبيرات الانتقالات و التسبيحات في الصلاة فكان التعوذ مثلها.
المسألة الثانية: وقت الاستعاذة قبل القراءة عند الجمهور سواء كان في الصلاة أو خارجها، و حكي عن النخعي أنه بعد القراءة، و هو قول داود و إحدى الروايتين عن ابن سيرين حجة الجمهور ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول: سبحانك اللهم و بحمدك و تبارك اسمك و تعالى جدك و لا إله غيرك. ثم يقول: اللّه أكبر كبيرا، ثم يقول: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه و نفخه و نفثه» أخرجه الترمذي و قال هذا الحديث أشهر حديث في الباب و قد تكلم في بعض رجاله و قال أحمد لا يصح و لأبي داود و النسائي عن أبي سعيد نحوه. و عن جبير بن مطعم أنه رأى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم صلّى صلاة قال عمر و لا أدري أي صلاة هي قال: اللّه أكبر كبيرا و الحمد للّه كثيرا ثلاثا و سبحان اللّه بكرة و أصيلا ثلاثا أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم من نفخة و نفثه و همزه، قال نفخه الكبر و نفثه الشعر و همزه الموتة» أخرجه أبو داود و قيل الموتة الجنون لأن من جن فقد مات عقله. و قيل همزه هو الذي يوسوسه في الصلاة و نفخه هو الذي يلقيه من
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 13
الشبه في الصلاة ليقطع عليه صلاته.، و احتج مخالف الجمهور بظاهر قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ و أجيب عنه بما تقدم. و قال مالك: لا يتعوذ في المكتوبة و يتعوذ في قيام رمضان بعد القراءة. لنا ما تقدم من الأدلة.
المسألة الثالثة: المختار من لفظ الاستعاذة عند الشافعي أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، و به قال أبو حنيفة لموافقة قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ و لحديث جبير بن مطعم. و قال أحمد الأولى أن يقول أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم جمعا بين هذه الآية و بين قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ و لحديث أبي سعيد. و قال الثوري و الأوزاعي: الأولى أن يقول: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم إن اللّه هو السميع العليم، و بالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل شيء يشغله عن اللّه تعالى. و من لطائف الاستعاذة أن قوله أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم إقرار من العبد بالعجز و الضعف و اعتراف من العبد بقدرة البارئ عزّ و جلّ و أنه هو الغني القادر على دفع جميع المضرات و الآفات و اعتراف من العبد أيضا بأن الشيطان عدو مبين، ففي الاستعاذة التجاء إلى اللّه تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغوي الفاجر، و أنه لا يقدر على دفعه عن العبد إلّا اللّه تعالى و اللّه أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 15
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
و هي سبع آيات بالاتفاق و سبع و عشرون كلمة و مائة و أربعون حرفا. و اختلف العلماء في نزولها فقيل نزلت بمكة و هو قول أكثر العلماء. و قيل نزلت بالمدينة و هو قول مجاهد. و قيل نزلت مرتين بمكة و مرة بالمدينة و سبب ذلك التنبيه على شرفها و فضلها و لها عدة أسماء و كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى و فضله. (فأول ذلك فاتحة الكتاب) سميت بذلك لأن بها افتتح القرآن، و بها تفتتح كتابة المصاحف، و بها تفتتح الصلاة. (الثاني سورة الحمد) سميت بذلك لافتتاحها بالحمد للّه (الثالث أم القرآن) و أم الكتاب، سميت بذلك لأنها أصل القرآن و أم كل شيء أصله، و قيل هي إمام لما يتلوها من السور. (الرابع السبع المثاني) سميت بذلك لأنها تثنى في الصلاة و يقرأ بها في كل ركعة، و قيل لأن اللّه تعالى استثناها لهذه الأمة و ادخرها لهم لم ينزلها على غيرهم و قيل لأنها أنزلت مرتين (الخامس الوافية) سميت بذلك لأنها لا تقسم في القراءة في الصلاة كما يقسم غيرها من السور (السادس الكافية) سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها في الصلاة و لا يكفي عنها غيرها.
(فصل: في ذكر فضلها) (خ) عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت يا رسول إلي إني كنت أصلي فقال: ألم يقل اللّه استجيبوا للّه و للرسول إذا دعاكم ثم قال لي لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له يا رسول ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قال: الحمد للّه رب العالمين هي السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته و رواه مالك في الموطأ عنه و قال فيه إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم نادى أبي بن كعب و هو يصلي و ذكر نحوه و فيه حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزبور مثلها و رواه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خرج على أبيّ و هو يصلي و ذكر نحو رواية الموطأ و قال فيه حديث حسن صحيح عن أبيّ بن كعب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما أنزل اللّه في التوراة و لا في الإنجيل مثل أم القرآن و هي السبع المثاني و هو مقسومة بيني و بين عبدي، و لعبدي ما سأل» أخرجه الترمذي و النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «الحمد للّه رب العالمين أم القرآن و أم الكتاب و السبع المثاني» أخرجه أبو داود و الترمذي و قال حديث حسن صحيح (م) عن ابن عباس قال: بينا جبريل قاعد عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سمع نقيصا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 16
اليوم و لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم و قال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته (قوله سمع نقيضا) هو بالقاف و الضاد المعجمة أي صوتا كصوت فتح الباب (م) عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج غير تمام» قال فقلت يا أبا هريرة إنا أحيانا نكون وراء الإمام فغمز ذراعي و قال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: قال اللّه تبارك و تعالى: «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد للّه رب العالمين قال اللّه حمدني عبدي، و إذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي، و إذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدني و ربما قال فوض إليّ عبدي، و إذا قال إياك نعبد و إياك نستعين قال هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل، و إذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين قال: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل».
(قوله: فهي خداج) أي ناقصة (قوله: فغمز ذراعي) أي كبس ساعدي بيده. (قوله قسمت الصلاة) أراد بالصلاة هنا القراءة لأنه فسرها بها و لأن القراءة ركن من أركانها و جزء من أجزائها. (قوله: نصفين) حقيقة هذه القسمة التي جعلها بينه و بين عبده راجعة إلى المعنى لا إلى اللفظ لأن هذه السورة من جهة المعنى نصفها ثناء و نصفها مسألة و دعاء و قسم الثناء انتهى عند قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ من قسم الدعاء و لهذا قال هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل. (قوله: حمدني عبدي و مجدني) أي أثنى علي لأن الحمد هو الثناء بجميل الفعال و التمجيد الثناء بصفات الجلال و قيل التحميد و التمجيد التعظيم (قوله: و ربما قال فوض إلي عبدي) وجه مطابقة هذا لقوله مالك يوم الدين يقال فلان فوض أمره إلى فلان إذا رده إليه و عول فيه عليه و في الحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة و أنها متعينة و هو مذهب الشافعي و جماعة و ستأتي هذه المسألة إن شاء اللّه تعالى بعد ذكر تفسير الفاتحة، و اللّه أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الباء في بسم اللّه حرف خافض يخفض ما بعده مثل من و عن و المتعلق به مضمر محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: أبدأ بسم اللّه أو باسم اللّه أبدأ أو أقرأ، و إنما طولت الباء في بسم اللّه و أسقطت الألف طلبا للخفة، و قيل لما أسقطوا الألف ردوا طولها على الباء ليدل طولها على الألف المحذوفة و أثبتت الألف في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ* لقلة استعماله و قيل إنما طولوا الباء لأنهم أرادوا أن يستفتحوا كتاب اللّه بحرف معظم و قيل الباء حرف منخفض الصورة فلما اتصل باسم اللّه ارتفع و استعلى و قيل إن عمر بن عبد العزيز كان يقول لكتابه طولوا الباء من بسم اللّه و أظهروا السين و دوروا الميم تعظيما لكتاب اللّه عز و جل. و الاسم هو المسمى عينه و ذاته قال اللّه تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى ثم نادى الاسم فقال يا يحيى و قال سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ، و تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ و هذا القول ليس بقوي، و الصحيح المختار أن الاسم غير المسمى و غير التسمية، فالاسم ما تعرف به ذات الشيء، و ذلك لأن الاسم هو الأصوات المقطعة و الحروف المؤلفة الدالة على ذات ذلك الشيء المسمى به، فثبت بهذا أن الاسم غير المسمى و أيضا قد تكون الأسماء كثيرة و المسمى واحد كقوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى . و قد يكون الاسم واحدا و المسميات به كثيرة كالأسماء المشتركة و ذلك يوجب المغايرة و أيضا فقوله: فَادْعُوهُ بِها أمر أن يدعي اللّه تعالى بأسمائه فالاسم آلة الدعاء و المدعو هو اللّه تعالى فالمغايرة حاصلة بين ذات المدعو و بين اللفظ المدعو به. و أجيب عن قوله تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى بأن المراد ذات الشخص المعبر عنه بيحيى لا نفس الاسم. و أجيب عن قوله تعالى سبح اسم ربك و تبارك اسم ربك بأن معنى هذه الألفاظ يقتضي إضافة الاسم إلى اللّه تعالى و إضافة الشيء إلى
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 17
نفسه محال و قيل كما يجب تنزيه ذاته سبحانه و تعالى عن النقص فكذلك يجب تنزيه أسمائه و كون الاسم غير التسمية هو أن التسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء، و الاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة و الفرق ظاهر. و اختلفوا في اشتقاق الاسم فقال البصريون من السمو و هو العلو، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر به و علا عليه، فكأنه علا على معناه و صار علما له. و قال الكوفيون من السمة و هي العلامة فكأنه علامة لمسماه، و حجة البصريين لو كان الاسم اشتقاقه من السمة لكان تصغيره وسيم و جمعه أوسام و أجمعوا على أن تصغيره سمي و جمعه أسماء و أسام (اللّه) هو اسم علم خاص للّه تعالى تفرد به الباري سبحانه و تعالى ليس بمشتق و لا يشركه فيه أحد و هو الصحيح المختار دليله قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا يعني لا يقال لغيره اللّه، و قيل هو مشتق من أله يأله إلاهة مثل عبد الرجل يعبد عبادة دليله «و يذرك و آلهتك» أي و عبادتك و معناه المستحق للعبادة دون غيره. و قيل: من الوله و هو الفزع لأن الخلق يولهون إليه أي يفزعون إليه في حوائجهم، قال بعضهم:
ولهت إليكم في بلايا تنوبني
فألفتكم فيها كرائم محتد
و قيل أصله أله، يقال: ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فكأن الخلق يسكنون إليه و يطمئنون بذكره، و قيل أصله ولاه فأبدلت الواو همزة سمي بذلك لأن كل مخلوق و إله نحوه إما بالتخير أو بالإرادة و من هذا قيل اللّه محبوب كل الأشياء يدل عليه، «و إن من شيء إلا يسبح بحمده» و من خصائص هذا الاسم أنك إذا حذفت منه شيئا بقي الباقي يدل عليه فإن حذفت الألف بقي اللّه، و إن حذفت اللام و أثبت الألف بقي إله، و إن حذفتهما بقي له و إن حذفت الألف و اللامين معا بقي هو و الواو عوض عن الضمة. و ذهب بعضهم إلى أن هذا الاسم هو الاسم الأعظم لأنه يدل على الذات و باقي الأسماء تدل على الصفات (الرحمن الرحيم) قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، قيل: هما بمعنى مثل ندمان و نديم و معناهما ذو الرحمة و إنما جمع بينهما للتأكيد، و قيل: ذكر أحدهما بعد الآخر تطميعا لقلوب الراغبين إليه، و قيل الرحمن فيه معنى العموم و الرحيم فيه معنى الخصوص فالرحمن بمعنى الرزاق في الدنيا و هو على العموم لكافة الخلق المؤمن و الكافر و الرحيم بمعنى الغفور الكافي للمؤمنين في الآخرة فهو على الخصوص، و لذلك قيل رحمن الدنيا و رحيم الآخرة و رحمة اللّه إرادة الخير و الإحسان لأهله، و قيل هي ترك عقوبة من يستحق العقاب و إسداء الخير و الإحسان إلى من لا يستحق فهو على الأول صفة ذات، و على الثاني صفة فعل، و قيل الرحمن بكشف الكروب و الرحيم بغفر الذنوب، و قيل:
الرحمن بتبيين الطريق، و الرحيم بالعصمة و التوفيق.
(فصل: في حكم البسملة) و فيه مسألتان: (الأولى) في كون البسملة الفاتحة و غيرها من السور سوى سورة براءة. اختلف العلماء في ذلك، فذهب الشافعي و جماعة من العلماء إلى أنها آية من الفاتحة و من كل سورة ذكرت في أولها سوى سورة براءة، و هو قول ابن عباس و ابن عمر و أبي هريرة و سعيد بن جبير و عطاء و ابن المبارك و أحمد في إحدى الروايتين عنه و إسحاق، و نقل البيهقي هذا القول عن علي بن أبي طالب و الزهري و الثوري و محمد بن كعب. و ذهب الأوزاعي و مالك و أبو حنيفة إلى أن البسملة ليست بآية من الفاتحة، زاد أبو داود و لا من غيرها من السور، و إنما هي بعض آية في سورة النمل، و إنما كتبت للفصل و التبرك قال مالك و لا يستفتح بها في الصلاة المفروضة، و للشافعي قول إنها ليست من أوائل السور مع القطع بأنها من الفاتحة. فأما حجة من منع كون البسملة آية من الفاتحة و من غيرها فحديث أنس المشهور المخرج في الصحيحين و حديث عائشة قالت: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يفتتح الصلاة بالتكبير و القراءة بالحمد للّه رب العالمين» قالوا و لأن أول ما نزل به جبريل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ و لم يذكر البسملة في أولها فدلّ على أنها ليست منها قالوا و لأن محل القرآن لا يثبت إلا بالتواتر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 18
و الاستفاضة و لأن الصحابة أجمعوا على عدد كثير من السور منها سورة الملك ثلاثون آية و سورة الكوثر ثلاث آيات و سورة الإخلاص أربع آيات فلو كانت البسملة منها لكانت خمسا. و أما حجة من ذهب إلى إثباتها في أوائل السور من جهة النقل فقد صح عن أم سلمة «أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية منها» و عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قال هي فاتحة الكتاب قيل فأين السابعة قال بسم اللّه الرحمن الرحيم أخرجهما ابن خزيمة و غيره، و روى عن ابن عباس:
«أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان لا يعلم فصل السورة و في رواية انقضاء السورة حتى ينزل عليه بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» أخرجه أبو داود و الحاكم أبو عبد اللّه في مستدركه و قال فيه: إنه صحيح على شرط الشيخين. و روى الدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إذا قرأ تم الحمد للّه فاقرؤوا بسم اللّه الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن و أم الكتاب و السبع المثاني و بسم اللّه الرحمن الرحيم أحد آياتها» قال الدارقطني في رجال إسناده كلهم ثقات و روى موقوفا، و روى الدار قطني عن أم سلمة «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين إلى آخرها قطعها آية آية و عدّها عد الأعراب، و عدّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية و لم يعد عليهم» و أخرج مسلم في أفراده عن أنس قال: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين أظهرنا إذ غفا غفوة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول اللّه؟ قال أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الحديث. قال البيهقي: أحسن ما احتج به أصحابنا في أن بسم اللّه الرحمن الرحيم من القرآن و أنها من فواتح السور سوى سورة براءة ما رويناه في جمع الصحابة كتاب اللّه عز و جل في المصاحف و أنهم كتبوا فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم على رأس كل سورة سوى سورة براءة فكيف يتوهم متوهم أنهم كتبوا فيها مائة و ثلاثة عشر آية ليست في القرآن، قال و قد علمنا بالروايات الصحيحة عن ابن عباس أنه كان يعد بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من الفاتحة و روى الشافعي بسنده عن ابن عمر أنه كان لا يدع بسم اللّه الرحمن الرحيم لأمّ القرآن و السورة التي بعدها زاد غيره عنه إنه كان يقول لما كتبت في المصحف لم لم تقرأ و روى الشافعي عن ابن عباس أنه كان يفعله و يقول انتزع الشيطان منهم خير آية في القرآن. و في أفراد البخاري من حديث أنس «أنه سئل كيف كانت قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال كانت مدّا ثم قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم يمد اللّه و يمد الرحمن و يمد الرحيم» فقد ثبت بهذه الأدلة الصحيحة الواضحة أن البسملة من الفاتحة من كل موضع ذكرت فيه و أيضا فأجمع الصحابة على إثباتها في المصاحف، و أنهم طلبوا بكتابة المصاحف تجريد كلام اللّه عز و جل المنزل على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم قرآنا و تدوينه مخافة من أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، و لهذا لم يكتبوا فيه لفظة آمين، و إن كان قد ورد أنه كان يقولها بعد الفاتحة فلو لم تكن البسملة من القرآن في أوائل السور لما كتبوها و كان حكمها حكم آمين.