کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 95
[سورة البقرة (2): آية 157]
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ قال ابن عباس: أي مغفرة من ربهم و منه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «اللهم صل على آل أبي أوفى» أي أغفر لهم و أرحمهم و إنما جمع الصلوات لأنه عنى مغفرة، بعد مغفرة و رحمة بعد رحمة وَ رَحْمَةٌ قال ابن عباس: و نعمة و الرحمة من اللّه إنعامه و إفضاله و إحسانه، و من الآدميين رقة و تعطف. و قيل: إنما ذكر الرحمة بعد الصلوات لأن الصلاة من اللّه الرحمة لاتساع المعنى و اتساع اللفظ و تفعل ذلك العرب كثيرا، إذا اختلف اللفظ، و اتفق المعنى، و قيل: كررهما للتأكيد أي عليهم رحمة بعد رحمة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ يعني إلى الاسترجاع. و قيل: إلى الجنة الفائزون بالثواب. و قيل: المهتدون إلى الحق و الصواب. و قال عمر بن الخطاب: نعم العدلان و نعمت العلاوة فالعدلان الصلاة و الرحمة و العلاوة الهداية.
(فصل: في ذكر أحاديث وردت في ثواب أهل البلاء و أجر الصابرين) (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من يرد اللّه به خيرا يصب منه» يعني يبتليه بالمصائب حتى يأجره على ذلك (ق) عن أبي سعيد و أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ما يصيب المؤمن من نصب و لا وصب و لا حزن و لا أذى و لا غم حتى الشوكة يشاكها إلّا كفر اللّه عنه بها خطاياه» النصب التعب و الإعياء و الوصب المرض (ق) عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حط اللّه عنه من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه و لا يزال المؤمن يصيبه البلاء، و مثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تحصد» الأرزة شجر معروف بالشام و يعرف في العراق، و مصر بالصنوبر و الصنوبر ثمرة الأرزة و قيل: الأرزة الثابتة في الأرض. عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إذا أراد اللّه بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا و إذا أراد اللّه بعبد شرّا أمسك عنه حتى يوافي يوم القيامة» و بهذا الإسناد عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء و إن اللّه إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، و من سخط فله السخط» أخرجه الترمذي. و له عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض» و له عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما يزال البلاء بالمؤمن و المؤمنة في نفسه و ولده حتى يلقى اللّه و ما عليه خطيئة» و قال حديث حسن صحيح (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «قال اللّه تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلّا الجنة عن سعد بن أبي وقاص و قال: قلت يا رسول اللّه أي الناس أشد بلاء قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، و إن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، و ما عليه خطيئة» أخرجه الترمذي و قال حديث حسن.
[سورة البقرة (2): آية 158]
قوله عز و جل: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الصفا جمع صفاة، و هي الصخرة الصلبة الملساء، و قيل هي الحجارة الصافية. و المروة الحجر الرخو، و جمعها مرو و مروات و هذان أصلهما في اللغة، و إنما عنى اللّه بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي المسعى، و لذلك أدخل فيهما الألف و اللام و شعائر اللّه أعلام دينه و أصلها من الإشعار و هو الإعلام واحدتها شعيرة و كل ما كان معلما لقربان يتقرب به إلى اللّه تعالى من صلاة،
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 96
و دعاء و ذبيحة فهو شعيرة من شعائر اللّه. و مشاعر الحج معالمه الظاهرة للحواس و يقال: شعائر الحج فالمطاف و الموقف و المنحر، كلها شعائر و المراد بالشعائر هنا المناسك التي جعلها اللّه أعلاما لطاعته فالصفا، و المروة منها حيث يسعى بينهما فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ قصد البيت هذا أصله في اللغة و في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة لإقامة المناسك أَوِ اعْتَمَرَ أي زار البيت و العمرة الزيارة ففي الحج و العمرة المشروعين قصد و زيارة فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أي فلا إثم عليه و أصله من جنح إذا مال عن القصد المستقيم أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي يدور بهما و يسعى بينهما. و سبب نزول هذه الآية، أنه كان على الصفا و المروة صنمان يقال لهما إساف و نائلة فكان إساف على الصفات و نائلة على المروة و كان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا، و المروة تعظيما للصنمين فلما جاء الإسلام و كسرت الأصنام، تحرج المسلمون عن السعي بين الصفا و المروة فأنزل اللّه هذه الآية و أذن في السعي بينهما و أخبر أنه من شعائر اللّه (ق) عن عاصم بن سليمان الأحول قال قلت لأنس: أ كنتم تكرهون السعي بين الصفا و المروة؟ فقال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل اللّه إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما . و في رواية قال: كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا و المروة حتى نزلت إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ .
(فصل) اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا و المروة في الحج و العمرة، فذهب جماعة إلى وجوبه و هو قول ابن عمر و جابر و عائشة و به قال الحسن: و إليه ذهب مالك و الشافعي و ذهب قوم إلى أنه تطوع. و هو قول ابن عباس: و به قال ابن سيرين و ذهب الثوري و أبو حنيفة إلى أنه ليس بركن و على من تركه دم و روي عن ابن الزبير و مجاهد و عطاء أن من تركه فلا شيء عليه و اختلفت الرواية عن أحمد في ذلك فروي عنه أن من ترك السعي بين الصفا و المروة لم يجزه حجه و روي عنه أنه لا شيء في تركه عمدا، و لا سهوا و لا ينبغي أن يتركه و نقل الجمهور عنه أنه تطوع و سبب هذا الاختلاف أن قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ يصدق عليه أنه لا إثم عليه في فعله، فدخل تحته الواجب و المندوب و المباح فظاهر هذه الآية، لا يدل على أن السعي بين الصفا و المروة واجب أو ليس بواجب، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام الثلاثة لا دلالة فيه على خصوصية أحدهما، فإذا لا بد من دليل خارج يدل على أن السعي واجب أو غير واجب فحجة الشافعي و من وافقه في أن السعي بين الصفا و المروة، ركن من أركان الحج و العمرة، ما روى الشافعي بسنده عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني بنت أبي تجزاة و اسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يسعى بين الصفا و المروة، فرأيته يسعى و إن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول: إني لأرى ركبته و سمعته يقول: «اسعوا فإن اللّه كتب عليكم السعي» و صححه الدار قطني (ق) عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أ رأيت قول اللّه: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه، أن لا يطوف بهما إنما نزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة و كانت مناة حذو قديد و كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا و المروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الآية (م) عن جابر في حديثه الطويل في صفة حجة الوداع قال: «ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: «إن الصفا و المروة من شعائر اللّه أبدأ بما بدأ اللّه به فبدأ بالصفا» الحديث فإذا ثبت أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم سعى وجب علينا السعي لقوله تعالى: فاتبعوه، و لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «خذوا عني مناسككم» و الأمر للوجوب و من القياس أن السعي أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم و يؤتى به في إحرام كامل فكان ركنا كطواف الزيارة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 97
و احتج أبو حنيفة و من لا يرى وجوب السعي بقوله: «فلا جناح عليه أن يطوف بهما». و هذا لا يقال في الواجبات ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فبين أنه تطوع و ليس بواجب. و أجيب عن الأول بأن قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ ليس فيه إلّا أنه لا إثم على فعله و هذا القدر مشترك بين الواجب، و غيره كما تقدم بيانه فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب. و عن الثاني و هو التمسك بقوله تعالى: وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فضعيف لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور، أولا بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئا آخر يدل على ذلك قول الحسن: إن المراد من قوله: وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً جميع الطاعات في الدين يعني فعل فعلا زائدا على ما افترض عليه من صلاة و صدقة و صيام و حج و عمرة، و طواف، و غير ذلك من أنواع الطاعات.
و قال مجاهد: و من تطوع خيرا بالطواف بهما و هذا على قول من لا يرى الطواف بهما فرضا و قيل معناه و من تطوع خيرا فزاد في الطواف بعد الواجب و القول الأول أولى للعموم فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ أي مجاز على الطاعة عَلِيمٌ أي بنيته و حقيقة الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه و الشكر هو تصور النعمة، و إظهارها و اللّه تعالى لا يوصف بذلك لأنه لا يلحقه المنافع و المضار، فالشاكر في صفة اللّه تعالى مجاز فإذا وصف به أريد به أنه المجازي على الطاعة بالثواب، إلّا أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مظاهرة في الإحسان إليهم. قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): الآيات 159 الى 163]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى نزلت في علماء اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و آية الرجم و غيرها من الأحكام التي كانت في التوراة. و قيل: إن الآية على العموم فيمن كتم شيئا من أمر الدين لأن اللفظ عام و العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبت، و من قال بالقول الأول، و إنها في اليهود قال: إن الكتم لا يصح إلّا منهم لأنهم كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و معنى الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إلى بيانه و إظهاره، فمن كتم شيئا من أمر الدين فقد عظمت مصيبته (ق) عن أبي هريرة قال: لو لا آيتان أنزلهما اللّه في كتابه ما حدثت شيئا أبدا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى و قوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ إلى آخر الآيتين، و هل إظهار علوم الدين فرض كفاية أو فرض عين؟ فيه خلاف و الأصح، أنه إذا ظهر للبعض بحيث يتمكن كل واحد من الوصول إليه لم يبق مكتوما، و قيل: متى سئل العالم عن شيء يعلمه من أمر الدين يجب عليه إظهاره و إلّا فلا مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ يعني في التوراة من صفة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم فعلى هذا يكون المراد بالناس علماء بني إسرائيل، و من قال: إن المراد بالكتاب جميع ما أنزل اللّه على أنبيائه من الأحكام قال المراد بالناس العلماء كافة أُولئِكَ يعني الذين يكتمون ما أنزل اللّه من البينات و الهدى يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي يبعدهم من رحمته و أصل اللعن في اللغة الطرد و الإبعاد وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ قال ابن عباس: جميع الخلائق إلّا الجن و الإنس و ذلك أن البهائم تقول إنما منعنا القطر بمعاصي بني آدم. و قيل: اللاعنون هم الجن و الإنس لأنه وصفهم بوصف من يعقل و قيل: ما تلا عن اثنان من المسلمين إلّا رجعت إلى اليهود و النصارى الذين كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم ثم استثنى فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي ندموا على ما فعلوا فرجعوا عن الكفر إلى الإسلام وَ أَصْلَحُوا يعني الأعمال فيما بينهم و بين اللّه تعالى وَ بَيَّنُوا يعني ما كتموا من العلم فَأُولئِكَ
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 98
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي أتجاوز عنهم و أقبل توبتهم وَ أَنَا التَّوَّابُ أي المتجاوز عن عبادي الرجاع بقلوبهم المنصرفة عني إلي الرَّحِيمُ يعني بهم بعد إقبالهم علي. قوله عز و جل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ قيل: هذا اللعن يكون يوم القيامة يؤتى بالكافر فيوقف فيلعنه اللّه ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون. فإن قلت: الكافر لا يلعن نفسه و لا يلعنه أهل دينه و ملته فما معنى قوله و الناس أجمعين. قلت فيه أوجه: أحدها: أنه أراد بالناس من يعتد بلعنه و هم المؤمنون. الثاني: أن الكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة. الثالث: أنهم يلعنون الظالمين و الكفار من الظالمين فيكون قد لعن نفسه خالِدِينَ فِيها أي مقيمين في اللعنة و قيل: في النار و إنما أضمرت لعظم شأنها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون و لا يؤجلون. و قيل: لا ينظرون ليعتذروا. و قيل: لا ينظر إليهم نظر رحمة.
(فصل فيما يتعلق بهذه الآية من الحكم) قال العلماء: لا يجوز لعن كافر معين لأن حاله عند الوفاة لا يعلم فلعله يموت على الإسلام و قد شرط اللّه في هذه الآية إطلاق اللعنة على من مات على الكفر و يجوز لعن الكفار يدل عليه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» و ذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار، بدليل جواز قتاله و أما العصاة من المؤمنين فلا يجوز لعنة أحد منهم على التعيين و أما على الإطلاق فيجوز لما روي أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لعن اللّه السارق يسرق البيضة و الحبل فتقطع يده» و لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الواشمة و المستوشمة و آكل الربا و مؤكله و لعن من غير منار الأرض، و من انتسب لغير أبيه و كل هذه في الصحيح. قوله عز و جل: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ سبب نزول هذه الآية، أن كفار قريش قالوا: يا محمد صف لنا ربك و انسبه، فأنزل اللّه هذه الآية و سورة الإخلاص و معنى الوحدة الانفراد، و حقيقة الواحد هو الشيء الذي لا يتبعض و لا ينقسم و الواحد في صفة اللّه أنه واحد لا نظير له و ليس كمثله شيء و قيل واحد في ألوهيته و ربوبيته ليس له شريك لأن المشركين أشركوا معه الآلهة فكذبهم اللّه تعالى بقوله: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعني لا شريك له في ألوهيته و لا نظير له في الربوبية و التوحيد، هو نفي الشريك و القسيم و الشبيه فاللّه تعالى واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في مصنوعاته و واحد في ذاته لا قسيم له و واحد في صفاته لا يشبهه شيء من خلقه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للوحدانية بنفي غيره من الألوهية و إثباتها له سبحانه و تعالى: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ يعني أنه المولى لجميع النعم و أصولها و فروعها فلا شيء سواه بهذه الصفة لأن كل ما سواه إما نعمة و أما منعم عليه. و هو المنعم على خلقه الرحيم بهم. عن أسماء بنت يزيد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «اسم اللّه الأعظم في هاتين الآيتين: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ، و فاتحة آل عمران: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» أخرجه أبو داود و الترمذي و قال حديث صحيح. و قيل: لما نزلت هذه الآية. قال المشركون: إن محمدا يقول: «إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان صادقا» فأنزل اللّه تعالى:
[سورة البقرة (2): آية 164]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و علمه كيفية الاستدلال على وحدانية الصانع، وردهم إلى التفكر في آياته و النظر في عجائب مصنوعاته و إتقان أفعاله ففي ذلك دليل على وحدانيته إذ لو كان في الوجود صانعان لهذه الأفعال، لاستحال اتفاقهما على أمر واحد و لامتنع في أفعالهما التساوي في صفة الكمال فثبت بذاك أن خالق هذا
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 99
العالم و المدبر له واحد قادر مختار، فبين سبحانه و تعالى من عجائب مخلوقاته ثمانية أنواع أولها: إن في خلق السموات و الأرض و إنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى و وحد الأرض لأنها جنس واحد و هو التراب، و الآية في السماء هي سمكها و ارتفاعها بغير عمد، و لا علاقة و ما يرى فيها من الشمس و القمر و النجوم، و الآية في الأرض مدها و بسطها على الماء، و ما يرى فيها من الجبال و البحار و المعادن و الجواهر و الأنهار و الأشجار و الثمار و النبات. النوع الثاني قوله تعالى: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي تعاقبهما في المجيء و الذهاب و قيل اختلافهما في الطول و القصر و الزيادة و النقصان و النور و الظلمة. و إنما قدم الليل على النهار لأن الظلمة أقدم. و الآية في الليل و النهار أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب و المعيشة يكون في النهار و طلب النوم و الراحة يكون في الليل فاختلاف الليل و النهار إنما هو لتحصيل مصالح العباد. النوع الثالث قوله تعالى: وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ أي السفن واحدة و جمعه سواء، و سمي البحر بحرا لاتساعه و انبساطه، و الآية في الفلك تسخيرها و جريانها على وجه الماء و هي موقرة بالأثقال و الرجال فلا ترسب و جريانها بالريح مقبلة و مدبرة، و تسخير البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان الماء، و هيجان البحر فلا ينجي منه إلّا اللّه تعالى النوع الرابع قوله تعالى: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ يعني ركوبها و الحمل عليها في التجارات لطلب الأرباح، و الآية في ذلك أن اللّه تعالى لو لم يقو قلب من يركب هذه السفن لما تم الغرض في تجاراتهم، و منافعهم و أيضا فإن اللّه تعالى خص كل قطر من أقطار العالم بشيء معين، و أحوج الكل إلى الكل فصار ذلك سببا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن و خوض البحر و غير ذلك فالحامل ينتفع، لأنه يربح و المحمول إليه ينتفع بما حمل إليه. النوع الخامس قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ يعني المطر قيل أراد بالسماء السحاب سمي سماء لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء خلق اللّه الماء في السحاب، و منه ينزل إلى الأرض و قيل: أراد السماء بعينها خلق اللّه الماء في السماء و منه ينزل إلى السحاب ثم منه إلى الأرض فَأَحْيا بِهِ أي بالماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يبسها و جدبها سماه موتا مجازا لأنها إذا لم تنبت شيئا، و لم يصبها المطر فهي كالميتة، و الآية في إنزال المطر و إحياء الأرض به أن اللّه تعالى جعله سببا لإحياء الجميع من حيوان و نبات و نزوله عند وقت الحاجة إليه بمقدار المنفعة، و عند الاستسقاء و الدعاء و إنزاله بمكان دون مكان. النوع السادس قوله تعالى: وَ بَثَ أي فرق فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ قال ابن عباس: يريد كل ما دب على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس و غيرهم، و الآية في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد و هو آدم ثم ما فيهم من الاختلاف في الصور و الأشكال و الألوان و الألسنة و الطبائع و الأخلاق و الأوصاف إلى غير ذلك ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان. النوع السابع قوله تعالى: وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ يعني في مهابّها قبولا و دبورا و شمالا و جنوبا و نكباء و هي الريح التي تأتي من غير مهب صحيح، فكل ريح تختلف مهابها تسمى: نكباء و قيل: تصريفها في أحوال مهابها لينة و عاصفة و حارة و باردة و سميت ريحا لأنها تريح قال ابن عباس: أعظم جنود اللّه الريح و قيل ما هبت ريح إلّا لشفاء سقيم أو ضده. و قيل: البشارة في ثلاث رياح الصبا و الشمال و الجنوب و الدبور: هي الريح العقيم التي أهلكت بها عاد فلا بشارة فيها، و الآية في الريح أنها جسم لطيف لا يمسك و لا يرى و هي مع ذلك في غاية القوة تقلع الشجر و الصخر و تخرب البنيان العظيم و هي مع ذلك حياة الوجود فلو أمسكت طرفة عين لمات كل ذي روح و أنتن ما على وجه الأرض.
النوع الثامن قوله تعالى: وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي الغيم المذلل سمي سحابا لسرعة سيره كأنه يسحب. و الآية في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأدوية العظيمة يبقى معلقا بين السماء و الأرض، ففي هذه الأنواع الثمانية المذكورة في هذه الآية دلالة عظيمة على وجود الصانع القادر المختار، و أنه الواحد في ملكه فلا شريك له و لا نظير و هو المراد من قوله: «و إلهكم إله واحد لا إله إلّا
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 100
هو» و قوله: لَآياتٍ أي فيما ذكر من دلائل مصنوعاته الدالة على وحدانيته قيل إنما جمع آيات لأن في كل واحد مما ذكر من هذه الأنواع آيات كثيرة تدل على أن لها خالقا مدبرا مختارا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ينظرون بصفاء عقولهم و يتفكرون بقلوبهم، فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقا و مدبرا مختارا و صانعا قادرا على ما يريد. قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): آية 165]
وَ مِنَ النَّاسِ يعني المشركين مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يعني أصناما يعبدونها و الند المثل المنازع فعلى هذا الأصنام أندادا بعضها لبعض و ليست أندادا للّه تعالى و تعالى اللّه أن يكون له ند، أوله مثل منازع و قيل:
الأنداد الأكفاء من الرجال و هم رؤساؤهم و كبراؤهم الذين يطيعونهم في معصية اللّه تعالى: يُحِبُّونَهُمْ أي يودونهم و يميلون إليهم و الحب نقيض البغض و أحببت فلانا أي جعلته معرضا بأن تحبه و المحبة الإرادة كَحُبِّ اللَّهِ أي كحب المؤمنين للّه و المعنى: يحبون الأصنام كما يحب المؤمنون ربهم عزّ و جلّ. و قيل: معناه يحبونهم كحب اللّه فيكون المعنى أنهم يسوون بين الأصنام و بين اللّه في المحبة فمن قال بالقول الأول لم يثبت للكفار محبة اللّه تعالى و من قال بالقول الثاني أثبت للكفار محبة اللّه تعالى لكن جعلوا الأصنام شركاء له في الحب وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أي أثبت و أدوم على محبته لأنهم لا يختارون مع اللّه سواه، و المشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا آخر أحسن منه طرحوا الأول و اختاروا الثاني. و قيل: إن الكفار يعدلون عن أصنامهم في الشدائد و يقبلون إلى اللّه تعالى كما أخبر عنهم فإذا ركبوا في الفلك دعوا اللّه مخلصين له الدين. و المؤمنون لا يعدلون عن اللّه تعالى في السراء و لا في الضراء و لا في الشدة و لا في الرخاء و قيل: إن المؤمنين يوحدون ربهم و الكفار يعبدون أصناما كثيرة فتنقص المحبة لصنم واحد. و قيل: إنما هو قال وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأن اللّه أحبهم أولا فأحبوه و من شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم و سيأتي بسط الكلام في معنى المحبة عند قوله: يحبهم و يحبونه وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قرئ بالتاء و المعنى و لو ترى يا محمد الذين ظلموا. يعني أشركوا في شدة العذاب، لرأيت أمرا عظيما و قرئ بالياء و معناه و لو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب حين يقذف بهم في النار لعرفوا مضرة الكفر و أن ما اتخذوه من الأصنام لا ينفعهم إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً معناه لو رأى الذين كانوا يشركون في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرون العذاب أن القوة ثابتة للّه جميعا، و المعنى أنهم شاهدوا من قدرة اللّه تعالى ما تيقنوا معه أن القوة له جميعا، و أن الأمر ليس على ما كانوا عليه من الشرك و الجحود وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): الآيات 166 الى 167]
إِذْ تَبَرَّأَ أي تنزه و تباعد الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ أي القادة من مشركي الإنس من الأتباع و ذلك يوم القيامة حين يجمع القادة و الأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض عند نزول العذاب بهم و عجزهم عن دفعه عن أنفسهم فكيف عن غيرهم. و قيل: هم الشياطين يتبرؤون من الإنس، و القول هو الأول وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ يعني الوصلات التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها من قرابة و صداقة. و قيل: الأعمال التي كانت بينهم يعملونها في الدنيا. و قيل: العهود و الحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها. و أصل السبب في اللغة الحبل
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 101
الذي يصعد به النخل و سمي كل ما يتوصل به إلى شيء من ذريعة أو قرابة أو مودة سببا تشبيها بالحبل الذي يصعد به وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا يعني الأتباع لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من المتبوعين كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أي كما أراهم العذاب يريهم اللّه أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ لأنهم أيقنوا بالهلاك. و الحسرة الغم على ما فاته و شدة الندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، و المعنى أن اللّه تعالى يريهم السيئات التي عملوها، و ارتكبوها في الدنيا فيتحسرون لم عملوها؟. و قيل: يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها. و قيل: يرفع لهم منازلهم في الجنة فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يتحسرون و يندمون على ما فاتهم و لا ينفعهم الندم وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): الآيات 168 الى 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت في ثقيف و خزاعة و عامر بن صعصعة و بني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث و الأنعام و البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام. و الحلال المباح الذي أحله الشرع و انحلت عقدة الحظر عنه، و أصله من الحل الذي هو نقيض العقد. و الطيب ما يستلذ، و المسلم لا يستطيب إلّا الحلال و يعاف الحرام. و قيل: الطيب هو الطاهر لأن النجس تكرهه النفس و تعافه وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تسلكوا سبيله. و قيل معناه لا تأثموا به و لا تتبعوا آثاره و زلاته، و المعنى احذروا أن تتعدوا ما أحل اللّه لكم إلى ما يدعوكم إليه الشيطان. قيل: هي النذور في المعاصي. و قيل: هي المحقرات من الذنوب ثم بين علة هذا التحذير، بقوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة و قد أظهر اللّه تعالى عداوته بآية السجود لآدم ثم بين عداوته ما هي فقال تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ يعني بالإثم. و السوء ما يسوء صاحبه و يخزيه وَ الْفَحْشاءِ يعني بها المعاصي و ما قبح من قول أو فعل. قال ابن عباس: السوء ما لا حد فيه، و الفحشاء ما يجب فيه الحد. و قيل الفحشاء الزنا. و قيل هو البخل وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني من تحريم الحرث و الأنعام و يتناول ذلك جميع المذاهب الفاسدة التي لم يأذن فيها اللّه و لم ترد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.