کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 197
و قال: يا رب إني قد علمت إنك لتجمعها من بطون السباع و حواصل الطير و أجواف الدواب فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك، فأزداد يقينا فعاتبه اللّه تعالى: قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ يعني ألم تصدق قالَ بَلى يا رب قد علمت و آمنت وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي ليسكن قلبي عند المعاينة أراد إبراهيم عليه السلام أن يصير له علم اليقين عين اليقين لأن الخبر ليس كالمعاينة و قيل لما رأى الجيفة على البحر و قد تناولتها السباع و الطير و دواب البحر تفكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة و تطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه، و لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء اللّه الموتى و لا دافعا له و لكنه أحب أن يرى ذلك عيانا كما أن المؤمنين يحبون أن يروا نبيهم محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم، و يحبون رؤية اللّه تعالى في الجنة و يطلبونها، و يسألونه في دعائهم مع الإيمان بصحة ذلك و زوال الشك عنهم فكذلك أحب إبراهيم أن يصير الخبر له عيانا، و قيل: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمرود فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي و يميت فقال نمرود: أنا أحيي و أميت فقتل أحد الرجلين و أطلق الآخر فقال إبراهيم: إن اللّه تعالى يقصد إلى جسد ميت فيحييه فقال له نمرود أنت عاينته فلم يقدر إبراهيم أن يقول:
نعم فانتقل إلى حجة أخرى ثم سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي بقوة حجتي فإذا قيل: أنت عاينته فأقول نعم و قال سعيد بن جبير لما اتخذ اللّه إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له، فأتى إبراهيم و لم يكن في الدار فدخل داره و كان إبراهيم من أغير الناس و كان إذا خرج أغلق بابه فلما جاء، وجد في الدار رجلا فثار إليه ليأخذه و قال له. من أذن لك أن تدخل داري فقال: أذن لي رب الدار فقال: إبراهيم صدقت و عرف أنه ملك فقال له: من أنت قال: أنا ملك الموت جئتك أبشرك أن اللّه قد اتخذك خليلا فحمد اللّه عز و جل و قال له: ما علامة ذلك قال: أن يجيب اللّه دعاءك و يحيي الموتى بسؤالك فحينئذ قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي بأنك اتخذتني خليلا، و تجيبني إذا دعوتك و تعطيني إذا سألتك (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى. قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى و لكن ليطمئن قلبي و يرحم اللّه لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد و لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي».
(القول على معنى الحديث) و ما يتعلق به اختلف العلماء في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» على أقوال كثيرة فأحسنها و أصحها ما نقل المزني و غيره من العلماء أن الشك مستحيل في حق إبراهيم فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم و لقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أن إبراهيم لم يشك و إنما خص إبراهيم بالذكر لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك فنفى ذلك عنه، و قال الخطابي: ليس في قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم؛ اعتراف بالشك على نفسه، و لا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة اللّه تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بأن لا يشك و قال ذلك على سبيل التواضع و الهضم من النفس و كذلك قوله: لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي و فيه الإعلام بأن المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن من قبل زيادة العلم بالبيان، و العيان يفيد من المعرفة، و الطمأنينة ما لا يفيد الاستدلال و قيل: لما نزلت هذه الآية قال: قوم: شك إبراهيم و لم يشك نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: نحن أحق بالشك من إبراهيم و معناه أن هذا الذي تظنونه شكا أنا أولى به فإنه ليس بشك، و إنما هو طلب لمزيد اليقين و إنما رجح إبراهيم صلّى اللّه عليه و سلّم على نفسه صلّى اللّه عليه و سلّم تواضعا منه و أدبا، أو قيل أن يعلم أنه صلّى اللّه عليه و سلّم خير ولد آدم و أما تفسير الآية فقوله تعالى: و إذ قال إبراهيم: أي و اذكر يا محمد، إذ قال: إبراهيم، و قيل: إنه معطوف على قوله: «ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه» و التقدير ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قال يعني قال اللّه إبراهيم: «أولم تؤمن» الألف في أولم تؤمن من ألف إثبات و إيجاب كقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا. أي ألستم كذلك و المعنى أو لست قد
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 198
آمنت و صدقت أني أحيي الموتى قال بلى قد آمنت و صدقت و لكن ليطمئن قلبي يعني سألتك ذلك إرادة طمأنينة القلب و زيادة اليقين و قوة الحجة و قال ابن عباس: معناه و لكن لأرى من آياتك و أعلم أنك قد أجبتني قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قيل أخذ طاوسا و ديكا و حمامة و غرابا و قيل نسرا بدل الحمامة. فإن قلت لم خص الطير من جملة الحيوانات بهذه الحالة. قلت لأن الطير صفته الطيران في السماء و الارتفاع في الهواء، و كانت همة إبراهيم عليه السلام كذلك و هو العلو في الوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته. فإن قلت: لم خص هذه الأربعة الأجناس من الطير بالأخذ. قلت فيه إشارة ففي الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة، و الجاه و في النسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل و في الديك إشارة إلى شدة الشغف بحب النكاح و في الغراب إشارة إلى شدة الحرص، ففي هذه الطيور مشابهة لما في الإنسان من حب هذه الأوصاف و فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا ترك هذه الشهوات الذميمة لحق أعلى الدرجات في الجنة، و فاز بنيل السعادات فَصُرْهُنَ قرئ بكسر الصاد و معناه قطعهن و مزقهن و قرئ بضم الصاد و معناه أملهن إِلَيْكَ و وجههن و قيل: معناه اجمعهن و اضممهن إليك فمن فسره بالإمالة و الضم قال فيه إضمار و معناه فصرهن إليك ثم قطعهن فحذف اكتفاء بقوله:
ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً لأنه يدل عليه قال لمفسرون: أمر اللّه تعالى إبراهيم صلّى اللّه عليه و سلّم أن يذبح تلك الطيور و ينتف ريشها و أن يخلط ريشها و لحمها و دمها بعضه ببعض ففعل ثم أمره أن يجعل على كل جبل منهن جزءا. و اختلفوا في عدد الأجزاء و الجبال فقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أمر أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء و أن يجعلها أربعة أجبل على كل جبل ربعا من كل طائر، قيل: جبل على جهة الشرق و جبل على جهة الغرب، و جبل على جهة الشمال و جبل على جهة الجنوب و قيل جزأه سبعة أجزاء و وضعها على سبعة أجبل و أمسك رؤوسهن بيده ثم دعاهن فقال: تعالين بإذن اللّه تعالى: فجعلت كل قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى، و كل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى و كل عظم يطير إلى العظم الآخر و كل بضعة تطير إلى البضعة الأخرى، و إبراهيم ينظر حتى لقيت كل جثة بعضها ببعض في السماء بغير رؤوس ثم أقبلن سعيا إلى رؤوسهن كلما جاء طائر مال برأسه فإن كان رأسه دنا منه و إن لم يكن تأخر عنه حتى التقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً و قيل: المراد بالسعي الإسراع و العدو و قيل المشي، و الحكمة في سعي الطيور إليه دون الطيران، لأن ذلك أبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطيور أو أن أرجلها غير سليمة، فنفى اللّه تعالى هذه الشبهة بقوله: يَأْتِينَكَ سَعْياً و قيل: المراد بالسعي المشي و المراد بالمشي الطيران و فيه ضعف لأنه لا يقال: للطائر إذا طار سعى و قيل السعي هو الحركة الشديدة وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ يعني أنه تعالى غالب على جميع الأشياء لا يعجزه شيء حَكِيمٌ يعني في جميع أموره. قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): الآيات 261 الى 262]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل أراد به الإنفاق في الجهاد و قيل هو الإنفاق في جميع أبواب الخير و وجوه البر فيدخل فيه الواجب و التطوع، و فيه إضمار تقديره مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كَمَثَلِ حَبَّةٍ أي كمثل زارع حبة أَنْبَتَتْ يعني أخرجت تلك الحبة سَبْعَ سَنابِلَ جمع سنبلة فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ . فإن قلت فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها. قلت: ذلك غير مستحيل و ما لا يكون مستحيلا فضرب المثل به جائز و إن لم يوجد و المعنى في كل سنبلة مائة حبة إن جعل اللّه ذلك فيها، و قيل هو موجود في الدخن، و قيل: إن المقصود من الآية أنه إذا علم الإنسان الطالب للزيادة و الربح أنه إذا بذر حبة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 199
واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك، و لا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر عند اللّه في الآخرة أن لا يترك الإنفاق في سبيل اللّه، إذا علم أنه يحصل له بالواحد عشرة و مائة و سبعمائة وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ يعني أنه تعالى يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء و قيل معناه يضاعف على هذا و يزيد لمن يشاء من سبع إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما يشاء من الأضعاف مما لا يعلمه إلّا اللّه وَ اللَّهُ واسِعٌ أي غني يعطي عن سعة، و قيل واسع القدرة على المحازاة و على الجود و الإفضال عَلِيمٌ يعني بنية من ينفق في سبيله، و قيل عليم بمقادير الإنفاق و بما يستحق المنفق من الجزاء و الثواب عليه. قوله عز و جل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل: نزلت في عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف، أما عثمان فجهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها و أحلاسها فنزلت هذه الآية و قال عبد الرحمن بن سمر «و جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فرأيته يدخل يده فيها و يقلبها و يقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم فأنزل اللّه تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و أما عبد الرحمن فجاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قال: كان عندي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي و لعيالي أربعة آلاف و أربعة آلاف أخرجتها لربي عز و جل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بارك اللّه لك فيما أمسكت و فيما أعطيت»، و المعنى الذين يعينون المجاهدين في سبيل اللّه بالإنفاق عليهم في حوائجهم و مؤنتهم ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً أي لا يتبع نفقته التي أنفقها عليهم بالمن و الأذى و هو أن يمن عليه بعطائه فيقول: قد أعطيتك كذا و كذا فيعدد نعمه عليه فيكدرها عليه و الأذى هو أن يعيره فيقول: كم تسأل و أنت فقير أبدا و قد بليت بك و أراحني اللّه منك و أمثال ذلك. و المن في اللغة الإنعام، و المنة النعمة الثقيلة يقال: من فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة و يكون ذلك بالقول: أيضا و منه قول الشاعر:
فمني علينا بالسلام فإنما
كلامك ياقوت و در منظم
و من المن بالقول ما هو مستقبح بين الناس، مثل أن يمن على الإنسان بما أعطاه، قال عبد الرحمن بن يزيد كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا و رأيت أن سلامك يثقل عليه فلا تسلم عليه و العرب تمدح بترك المن و كتم النعمة و تذم على إظهارها و المن بها قال قائلهم في المدح بترك المن:
زاد معروفك عندي عظما
أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
و هو في العالم مشهور كبير
و قال قائلهم يذم المنان بالعطاء:
أتيت قليلا ثم أسرعت منة
فنيلك ممنون لذاك قليل
و أما الأذى فهو ما يصل إلى الإنسان من ضرر بقول أو فعل. إذا عرفت هذا فنقول المن هو إظهار المعروف إلى الناس، و المن عليهم به و الأذى هو أن يشكو منهم بسبب ما أعطاهم فحرم اللّه تعالى على عباده المن بالمعروف و الأذى فيه و ذم فاعله. فإن قلت: قد وصف اللّه تعالى نفسه بالمنان فما لفرق. قلت المنان في صفة اللّه تعالى معناه المتفضل فمن اللّه إفضال على عباده و إحسانه إليهم فجميع ما هم فيه منة منه سبحانه و تعالى و من العباد تعيير و تكدير فظهر الفرق بينهما. و قوله تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ يعني ثوابهم عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني في الآخرة وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني يوم القيامة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني على ما خلفوا من الدنيا.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 200
[سورة البقرة (2): الآيات 263 الى 264]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام حسن ورد جميل على الفقير السائل و قيل: عدة حسنة توعده بها، و قيل: دعاء صالح تدعو له بظهر الغيب وَ مَغْفِرَةٌ أي تستر عليه خلته و فقره و لا تهتك ستره و قيل هو أن يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه حالة رده خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يعني هذا القول المعروف و المغفرة خير من الصدقة التي تدفعها إلى الفقير يَتْبَعُها أَذىً و هو أن يعطي الفقير الصدقة و يمن عليه بها و يعيره بقول أو يؤذيه بفعل وَ اللَّهُ غَنِيٌ أي مستغن عن صدقة العباد و الغنى الكامل الغني الذي لا يحتاج إلى أحد و ليس كذلك إلّا اللّه تعالى حَلِيمٌ يعني أنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة على من يمن على عباده و يؤذي بصدقته. قوله عز و جل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ يعني أجور صدقاتكم بِالْمَنِّ وَ الْأَذى يعني على السائل الفقير، و قال ابن عباس بالمن على اللّه تعالى و الأذى لصاحبها ثم ضرب اللّه تعالى لذلك مثلا فقال تعالى كَالَّذِي أي كإبطال الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ أي مراءاة لهم و سمعة ليروا نفقته و يقولوا: إنه سخي كريم وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يعني أن الرياء يبطل الصدقة و لا تكون النفقة مع الرياء من فعل المؤمنين لكن من فعل المنافقين لأن الكافر معلن بكفره غير مراء به فَمَثَلُهُ أي مثل هذا المرائي بصدقته و سائر أعماله كَمَثَلِ صَفْوانٍ هو الحجر الأملس الصلب و هو واحد و جمع فمن جعله جمعا قال واحده صفوانه و من جعله واحدا قال جمعه صفي عَلَيْهِ تُرابٌ أي على ذلك الصفوان تراب فَأَصابَهُ وابِلٌ يعني المطر الشديد العظيم القطر فَتَرَكَهُ صَلْداً يعني ترك المطر ذلك الصفوان صلدا أملس لا شيء عليه من ذلك التراب، فهذا مثل ضربه اللّه تعالى لنفقة المنافق و المرائي و المؤمن المنان بصدقته يؤذي الناس يرى الناس أن لهؤلاء أعمالا في الظاهر، كما يرى التراب على الصفوان فإذا جاء المطر أذهبه و أزاله و كذلك حال هؤلاء يوم القيامة، تبطل أعمالهم و تضمحل لأنها لم تكن للّه تعالى كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي لا يقدرون على ثواب شيء مما عملوا في الدنيا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني الذين سبق في علمه أنهم يموتون على الكفر. روى البغوي بسنده عن محمود بن لبيد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إنما أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: يا رسول اللّه و ما الشرك الأصغر قال: الرياء يقال لهم يوم تجازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» (م) عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «قال اللّه تبارك و تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته و شركه». قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): الآيات 265 الى 266]
وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضا اللّه وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني على الإنفاق في طاعة اللّه تعالى و تصديقا بثوابه، و قيل: معناه إن أنفسهم موقنة مصدقة بوعد اللّه إياها فيما أنفقت و قيل:
إحسانا و قيل تصديقا و المعنى أنهم يخرجون زكاة أموالهم، و ينفقون أموالهم في سائر وجوه البر و الطاعات طيبة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 201
أنفسهم بما أنفقوا على يقين بثواب اللّه و تصديق بوعده يعلمون أن ما أنفقوا خير لهم مما تركوا و قيل معناه على يقين بإخلاف اللّه عليهم و قيل: معناه أنهم يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم قيل: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كانت للّه خالصة أمضاها، و إن خالطه شك أو رياء أمسك كَمَثَلِ جَنَّةٍ أي بستان قال الفراء إذا كان في البستان نخل فهو جنة و إن كان فيه كرم فهو فردوس بِرَبْوَةٍ هي المكان المرتفع عن الأرض المستوي لأن ما ارتفع من الأرض عن مسيل الماء و الأودية كان ثمرها أحسن و أزكى إذا كان لها من الماء ما يرويها و قيل:
هي الأرض المستوية الجيدة الطيبة إذا أصابها المطر انتفخت و ربت فإذا كانت الأرض بهذه الصفة كثر ريعها و حملت أشجارها أَصابَها وابِلٌ و هو المطر الكثير الشديد قال بعضهم:
ما روضة من رياض الحزن معشبة
خضراء جاد عليها وابل هطل
أراد بالحزن ما غلظ و ارتفع من الأرض فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ أي فأعطت ثمرتها مثلين قيل إنها حملت في سنة من الريع ما يحمله غيرها في سنتين و قيل أضعفت فحملت في السنة مرتين فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ أي طش و هو المطر الخفيف الضعيف، و المعنى إن لم يكن أصابها وابل و أصابها طل فتلك حال هذه الجنة في تضاعف ثمرها فإنها لا تنقص بالطل عن مقدار ثمرها بالوابل و هذا مثل ضربه اللّه تعالى: لعمل المؤمن المخلص في إنفاقه و سائر أعماله، يقول اللّه تعالى كما أن هذه الجنة تريع و تزكو في كل حال و لا تخلف سواء كان المطر قليلا أو كثيرا فكذلك يضعف اللّه صدقة المؤمن المخلص في صدقته و إنفاقه الذي لا يمن و لا يؤذي سواه قلت نفقته أو كثرت وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني أن اللّه تعالى لا تخفى عليه نفقة المخلص في صدقته الذي لا يمن بها و لا يؤذي و الذي يمن بصدقته و يؤذي قوله عز و جل: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ هذه متصلة بما قبلها و هو قوله تعالى. لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى أ يود يعني أ يحب أحدكم أن تكون له جنة أي بستان من نخيل و أعناب إنما خصهما بالذكر لأنهما أشرف الفواكه و أحسنها و لما فيهما من الغذاء و التفكه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني أن جري الأنهار فيها من تمام حسنها، و سبب لزيادة ثمرها لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لأن ذلك من تمام كمال البستان و حسنه وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ يعني صاحب هذه الجنة كثرت جهات حاجاته و لم يكن له كسب غيرها فحينئذ يكون في غاية الاحتياج إلى تلك الجنة فإن قلت: كيف عطف و أصابه الكبر على أ يود، و كيف يجوز عطف الماضي على المستقبل قلت فيه و جهان أحدهما أن يكون له جنة حال ما أصابه الكبر و الوجه الثاني أنه عطف على المعنى، فكأنه قيل أ يود أحدكم لو كانت له جنة و أصابه الكبر وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ يعني له أولاد صغار عجزت عن الحركة بسبب الضعف و الصغر فَأَصابَها يعني أصاب تلك الجنة إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ الإعصار ريح ترتفع إلى السماء و تستدير كأنها عمود و هذا مثل ضربه اللّه تعالى لعمل المنافق و المرائي يقول مثل عمل المنافق و المرائي بعمله في حسنه كحسن جنة ينتفع بها صاحبها فلما كبر و ضعف و صار له أولاد ضعاف أصاب جنته إعصار فيه نار فأحرقها و هو أحوج ما يكون إليها فحصل في قلبه من الغم و الحسرة ما لا يعلمه إلّا اللّه تعالى لكبره و ضعفه و ضعف أولاده فهو لا يجد ما يعود به على أولاده، و هم لا يجدون ما يعودون به عليه فبقوا جميعا متحيرين عجزة لا حيلة بأيديهم، فكذلك حال من أتى يوم القيامة بأعمال حسنة و لم يقصد بها وجه اللّه تعالى، فيبطلها اللّه تعالى، و هو في غاية الحاجة إليها حين لا مستعتب له و لا توبة. و قال عبيد بن عمير: قال عمر يوما لأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيمن ترون نزلت هذه الآية أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ قالوا: اللّه أعلم فغضب عمر و قل قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر قل يا ابن أخي و لا تحقرن نفسك فقال ضرب اللّه مثلا لعمل قال لأي عمل قال لرجل غني يعمل بطاعة اللّه ثم بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ يعني كما بين اللّه تعالى لكم أمر النفقة المقبولة، و غير المقبولة كذلك يبين اللّه لكم من الآيات سوى ذلك لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي فتتعظوا و قال ابن
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 202
عباس: لعلكم تتفكرون يعني في زوال الدنيا و إقبال الآخرة. قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أي من خيار ما كسبتم و جيده و قيل: من حلالات ما كسبتم بالتجارة و الصناعة و فيه دليل على إباحة الكسب و أنه ينقسم إلى طيب و خبيث. عن خولة الأنصارية قالت:
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «إن هذا المال خضر حلو من أصابه بحق بورك له فيه، و رب متخوض فيما شاءت نفسه من مال اللّه و رسوله ليس له يوم القيامة إلّا النار» أخرجه الترمذي. المتخوض الذي يأخذ المال من غير وجهه كما يخوض الإنسان في الماء يمينا و شمالا (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن حلال أم من حرام» (خ) عن المقدام أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده و إن نبي اللّه داود كان يأكل من عمل يده» عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، و إن أولادكم من كسبكم» أخرجه الترمذي و النسائي. و اختلفوا في المراد بقوله تعالى: أَنْفِقُوا فقيل: المراد به الزكاة المفروضة لأن الأمر للوجوب و الزكاة واجبة فوجب صرف الآية إليها و قيل: المراد به صدقة التطوع و قيل: إنه يتناول الفرض و النفل جميعا لأن المفهوم من هذا الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك و هذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض و النفل فوجب أن يدخل تحت هذا الأمر فعلى القول الأول أن المراد من هذا الإنفاق هو الزكاة يتفرع عليه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان فيدخل فيه زكاة الذهب و الفضة و النعم و عروض التجارة، لأن ذلك يوصف بأنه مكتسب و ذهب جمهور العلماء إلى وجوب الزكاة في مال التجارة و قال داود الظاهري: لا تجب الزكاة بحكم التجارة في العروض إلّا أن ينوي به التجارة في حال تملكه، و دليل الجمهور ما روي عن سمرة بن جندب قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يأمرنا بإخراج الصدقة من الذي يعد للبيع» أخرجه أبو داود و عن أبي عمرو بن خماس أن أباه قال: مررت بعمر بن الخطاب و على عنقي أدمة أحملها فقال عمر ألا تؤدي زكاتك يا خماس فقلت مالي غير هذا واهب في القرظ قال: ذاك مال فضع فوضعها فحسبها فأخذ منها الزكاة فإذا حال الحول على عروض التجارة قوم فإن بلغ قيمته عشرين دينارا أو مائتي درهم أخرج منه ربع العشر.
المسألة الثانية: في قوله تعالى: وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض من النبات مما يزرع الآدميون، لكن جمهور العلماء خصصوا هذا العموم فأوجبوا الزكاة في النخيل، و الكروم و فيما يقتات و يدخر من الحبوب و أوجب أبو حنيفة الزكاة في كل ما يقصد من نبات الأرض، كالفواكه و البقول و الخضراوات كالبطيخ و القثاء و الخيار و نحو ذلك، دليل الجمهور ما روي عن معاذ:
«أنه كتب إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يسأله عن الخضراوات و هي البقول فقال: ليس فيها شيء» أخرجه الترمذي. و قال هذا الحديث ليس بصحيح و ليس يصح عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في هذا الباب شيء و إنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، مرسلا و العمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس في الخضراوات صدقة. قلت و حديث موسى بن طلحة أخرجه الشيخ مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد اللّه بن تيمية الحراني في أحكامه عن عطاء بن السائب قال: «أراد عبد اللّه بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات صدقة فقال له:
موسى بن طلحة: ليس ذلك لك إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقول: ليس في ذلك صدقة» رواه الأثرم في سننه و هو أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله به و قال الزهري و الأوزاعي و مالك تجب الزكاة في الزيتون، و تجب في الثمار عند
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 203
بدو الصلاح و هو أن يحمر البسر و يصفر و وقت الإخراج بعد الاجتناء و الجفاف، و في الحبوب عند الاشتداد و وقت الإخراج بعد الدراس و التصفية.