کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 216
النساء النسيان فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى لو نسيت إحداهما تذكرها الأخرى فتقول حضرنا مجلس كذا و سمعنا كذا فيحصل بذلك الذكرى. و حكي عن سفيان بن عيينة أنه قال هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكرا و المعنى أن شهادتهما تصيرا كشهادة ذكر، و القول الأول أصح لأنه معطوف على تضل و هو النسيان. و قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا يعني إذا دعوا لتحمل الشهادة و سماهم شهداء لأنهم يكونون شهداء و هذا أمر إيجاب عند بعضهم. و قال قوم: يجب إذا لم يكن غيره فإن كان غيره فهو مخير، و قيل:
هو أمر ندب فهو مخير في جميع الأحوال. و قال بعضهم هذا في إقامة الشهادة و أدائها. و معنى الآية و لا يأب الشهداء إذا ما دعوا الأداء الشهادة التي تحملوها. و قيل: الآية في الأمرين جميعا يعني في التحمل و الأداء و الإقامة إذا كان عارفا. و قيل الشاهد بالخيار ما لم يشهد فإذا شهد وجب عليه الأداء وَ لا تَسْئَمُوا أي و لا تملوا و لا تضجروا أَنْ تَكْتُبُوهُ الضمير راجع إلى الحق أو الدين صَغِيراً كان أَوْ كَبِيراً يعني قليلا كان الحق أو الدين أو كثيرا إِلى أَجَلِهِ يعني إلى محل الحق و الدين ذلِكُمْ يعني ذلك الكتاب أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يعني أعدل عند اللّه لأنه أمر به و اتباع أمره أعدل من تركه، وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ يعني أن الكتابة تذكر الشهود وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا يعني و أحرى و أقرب إلى أن لا تشكوا في الشهادة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً أي إلّا أن تقع تجارة حاضرة يدا بيد تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ أي فيما بينكم ليس فيها أجل فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي لا ضرر عليكم أَلَّا تَكْتُبُوها يعني التجارة الحاضرة، و التجارة تقليب الأموال و تصريفها لطلب النماء و الزيادة بالأرباح، و إنما رخص اللّه تعالى في الكتابة و الإشهاد في هذا النوع من التجارة لكثرة ما يجري بين الناس، فلو كلفوا فيها الكتابة و الإشهاد لشق ذلك عليهم، و لأنه إذا أخذ كل واحد من المتبايعين حقه من صاحبه في ذلك المجلس لم يكن هناك خوف التجاحد فلا حاجة إلى الكتابة و الإشهاد وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ يعني فيما جرت العادة بالإشهاد فيه.
و اختلفوا في هذا الأمر فقيل هو للوجوب فيجب أن يشهد في صغير الحق و كبيره و نقده و نسيئته و قيل: هو أمر ندب و استحباب و هو قول الجمهور. و قيل إنه منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ .
و قوله تعالى: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ هذا نهي عن المضارة و أصله يضارر بكسر الراء الأولى و معناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب و الشاهد فيأبى أن يشهد أو يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه فيضر صاحب الحق أو من عليه الحق، و كذلك الشاهد و قيل: أصله يضارر بفتح الراء الأولى و معناه أن يدعو الرجل الكاتب و الشاهد و هما مشغولان فيقولان نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي: إن اللّه أمركما أن تجيبا إذا دعيتما و يلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهى عن مضارتهما، و أمر أن يطلب غيرهما وَ إِنْ تَفْعَلُوا يعني ما نهيتم عنه من الضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي معصية و خروج عن الأمر. وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا اللّه و احذروه فيما نهاكم عنه من المضارة و غيرها وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ يعني ما يكون إرشادا لكم في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشادا لكم في أمر الدين وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أن اللّه تعالى عليم بجميع مصالح عباده لا يخفى عليه شيء من ذلك. قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): آية 283]
وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي في سفر وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً يعني و لم تجدوا آلات الكتابة فَرِهانٌ جمع رهن و قرئ فرهان مَقْبُوضَةٌ يعني فارتهنوا ممن تدينونه رهونا مقبوضة لتكون وثيقة لكم بأموالكم، و أصل الرهن الدوام يقال: رهن الشيء إذا دام و ثبت، و الرهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه دينا. فإن قلت: لم شرط الارتهان في السفر مع عدم الكاتب و لا يختص به سفر دون حضر و قد صح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رهن
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 217
درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه إلى أجل، و لم يكن ذلك في سفر و لا عند عدم كاتب. قلت ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة دون الحضر، و لكن لما كان السفر مظنة لإعواز الكاتب. و الإشهاد أمر اللّه تعالى به على سبيل الإرشاد إلى حفظ الأموال لمن كان على سفر بأن يقيم التوثيق بالارتهان مقام الكتابة و الإشهاد. و اتفق العلماء على جواز الرهن في الحضر و السفر جميعا و مع وجود الكاتب و عدمه. و قال مجاهد:
لا يجوز إلّا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية و أجاب الجمهور عن ظاهر الآية أن الكلام إنما خرج على الأغلب لا على سبيل الشرط. و اتفق العلماء على أن الرهن لا يتم إلّا بالقبض و هو قوله تعالى: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يعني ارتهنوا و اقبضوا، لأن المقصود من الرهن هو استيثاق جانب صاحب الحق و ذلك لا يتم إلّا بالقبض فلو رهن و لم يسلم لم يجبر الراهن على التسليم، فإذا سلم الرهن لزم من جهته حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يعني فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق و لم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ يعني فليؤد المديون الذي عليه الحق الذي كان أمينا في ظن الدائن الذي هو صاحب الحق أمانته يعني حقه سمي الدين أمانة و إن كان مضمونا لائتمانه عليه حيث أمن من جحوده فلم يكتب و لم يشهد عليه و لم يأخذ منه رهنا حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن الذي ائتمنه و أن يؤدي إليه حقه الذي ائتمنه عليه و لم يرتهن منه عليه شيئا ثم زاد ذلك تأكيدا بقوله:
وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي المديون في أداء الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة و لا جحود بل يعامله المعاملة الحسنة كما أحسن ظنه فيه، ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال تعالى: وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ يعني إذا دعيتم إلى إقامتها و أدائها و ذلك لأن الشاهد متى امتنع من إقامة الشهادة و كتمها فقد أبطل بذلك حق صاحب الحق فلهذا نهى عن كتمان الشهادة و بالغ في الوعيد عليه فقال تعالى: وَ مَنْ يَكْتُمْها يعني الشهادة فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أي فاجر قلبه و الآثم الفاجر، و إنما أضيف الإثم إلى القلب لأن الأفعال من الدواعي و الصوارف إنما تحدث في القلب فلما كان الأمر كذلك أضيف الإثم إلى القلب قيل: ما أوعد اللّه على شيء كإيعاده عن كتمان الشهادة فإنه تعالى قال فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ و أراد به مسخ القلب نعوذ باللّه من ذلك وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يعني من بيان الشهادة و كتمانها ففيه و عيد و تحذير لمن كتم الشهادة و لم يظهرها. قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و أهلها له عبيد و هو مالكهم وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ و هذا يتناول حديث النفس و الخواطر الفاسدة التي ترد على القلب و لا يتمكن من دفعها، و المؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق: و أجيب عن هذا بأن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه و يعزم على إظهاره إلى الوجود، فهذا مما يؤاخذ الإنسان به. و القسم الثاني ما يخطر بالبال و لا يمكن دفعه عن نفسه لكن يكره و لا يعزم على فعله و لا إظهاره إلى الوجود فهذا معفو عنه بدليل قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ . و قال قوم: إن هذه الآية خاصة ثم اختلفوا في وجه تخصيصها فقال بعضهم: هي متصلة بالآية التي قبلها و إنما نزلت في كتمان الشهادة و معنى الآية وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أيها الشهود من كتمان الشهادة أي تخفوه أي تخفوا الكتمان يحاسبكم به اللّه و هذا ضعيف، لأن اللفظ هام و إن كان واردا عقيب قضية فلم يلزم صرفه إليها. و قال بعضهم: إن الآية نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين و المعنى: و إن تبدوا أي تظهروا ما في أنفسكم يعني من ولاية الكفار أو تخفوه فلا تظهروه يحاسبكم به اللّه.
و ذهب أكثر العلماء إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فقال قوم: هي منسوخة بالآية التي بعدها و يدل عليه ما روي عن
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 218
أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ، وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الآية. اشتد ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول اللّه كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة و الصيام و الجهاد و الصدقة و قد أنزلت عليك هذه الآية و لا نطيقها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أ تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا و عصبنا بل قول سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير فلما اقترأها القوم و ذلت بها ألسنتهم أنزل اللّه تعالى في أثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَ قالُوا: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما فعلوا ذلك نسخها اللّه عز و جل فأنزل اللّه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال نعم: «ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا» قال نعم ربنا: «و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به» قال نعم: «و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين» قال نعم أخرجه مسلم و له عن ابن عباس نحوه و فيه قد فعلت بدل نعم (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن اللّه تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا به و في رواية ما وسوست به صدورها» و قال قوم: إن الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد إلّا على الأمر و النهي و لا يرد على الإخبار. و قول اللّه تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ خبر فلا يرد عليه النسخ ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم: قد أثبت اللّه تعالى للقلب كسبا فقال: بما كسبت قلوبكم و ليس للّه عبد أسر عملا أو أعلنه من حركة جارحة أو همة قلب إلّا يعلمه اللّه ثم يخبره به و يحاسبه عليه ثم يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء، و قال آخرون في معنى الآية: إن اللّه تعالى يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم و أخفوه و عاقبهم عليه غير أن معاقبتهم على ما أخفوه أخف مما لم يعملوا به و هو ما يحدث لهم في الدنيا من النوائب و المصائب و الأمور التي يحزنون عليها و هذا قول عائشة عن أمية إنها سألت عائشة عن قول اللّه عز و جل وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ و عن قوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: هذه معاتبة اللّه العبد بما يصيبه من الحمى و النكبة حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها فيفزع لها، حتى أن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير» أخرجه الترمذي، و قال: حديث حسن غريب. و له عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إذا أراد اللّه بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، و إذا أراد اللّه بعبده الشر أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة». و قال قوم في معنى الآية و إن تبدوا ما في أنفسكم يعني مما عزمتم عليه أو تخفوه أي و لا تبدوه و أنتم عازمون عليه يحاسبكم به اللّه. فأما حديث النفس مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف اللّه نفسا إلّا وسعها و لا يؤاخذ به. قال عبد اللّه بن المبارك: قلت لسفيان: أ يؤاخذ العبد بالهمة؟
فقال: إذا كانت عزما أخذ بها و قيل معنى المحاسبة الإخبار و التعريف فيرجع معنى هذه المحاسبة إلى كونه تعالى عالما بكل ما في الضمائر و السرائر مما ظهر و خفي و معنى الآية: و إن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم و نويتم يحاسبكم به اللّه أي يخبركم به و يعرفكم إياه، ثم يغفر للمؤمنين إظهارا لفضله و يعذب الكافرين إظهارا لعدله. يروى عن ابن عباس و يدل عليه أنه قال: يحاسبكم به اللّه و لم يقل: يؤاخذكم به لأن المحاسبة غير المؤاخذة و يدل عليه أيضا ما روي عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في النجوى قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «يدني المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا و كذا فيقول:
أعرف رب أعرف مرتين فيقول اللّه: سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم ثم تطوى صحيفة حسابه، و أما الآخرون و هم الكفار و المنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين» أخرجاه في الصحيحين. و قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ قال ابن عباس: يغفر لمن
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 219
يشاء الذنب العظيم و يعذب من يشاء على الذنب الصغير لا يسأل عما يفعل و هم يسألون وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على كل شيء كامل القدرة فيغفر للمؤمنين فضلا و يعذب الكافرين عدلا. قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): آية 285]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم فأنزل اللّه آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ الآية لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: قد فعلت ربنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال: قد فعلت ربنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال قد فعلت أخرجه الترمذي، و قال حديث حسن. قال الزجاج: لما ذكر اللّه في هذه السورة فرض الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الطلاق و الإيلاء و الحيض و الجهاد و أقاصيص الأنبياء و ما ذكر من كلام الحكماء ختم السورة بذكر تصديق نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين بجميع ذلك و معنى آمن الرسول صدق الرسول يعني محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم و المعنى صدق الرسول أن هذا القرآن و جملة ما فيه من الشرائع و الأحكام منزل من عند اللّه عز و جل: وَ الْمُؤْمِنُونَ أي و صدق المؤمنون بذلك أيضا كُلٌ أي كل واحد من المؤمنين آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ فهذه أربع مراتب من أصول الإيمان و ضرورياته، فأما الإيمان باللّه فهو أن يؤمن بأن اللّه واحد أحد لا شريك له و لا نظير له و يؤمن بجميع أسمائه الحسنى و صفاته العليا و أنه حي عالم قادر على كل شيء، و أما الإيمان بالملائكة فهو أن يؤمن بوجودهم و أنهم معصومون مطهرون و أنهم السفرة الكرام البررة و أنهم الوسائط بين اللّه تعالى و بين رسله. و أما الإيمان بكتبه فهو أن يؤمن بأن الكتب المنزلة من عند اللّه هي وحي اللّه إلى رسله، و أنها حق و صدق من عند اللّه بغير شك و لا ارتياب، و أن القرآن لم يحرف و لم يبدل و لم يغير، و أنه مشتمل على المحكم و المتشابه، و أن محكمه يكشف عن متشابهه. و أما الإيمان بالرسل فهو أن يؤمن بأنهم رسل اللّه إلى عباده و أمناؤه على وحيه، و أنهم معصومون و أنهم أفضل الخلق، و أن بعضهم أفضل من بعض و قد أنكر بعضهم ذلك و تمسك بقوله تعالى:
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ . و أجيب عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر و هو إثبات نبوة الأنبياء و الرد على اليهود و النصارى الذين يقرون بنبوة موسى و عيسى و ينكرون نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و قد ثبت بالنص الصريح تفضيل بعض الأنبياء على بعض بقوله: «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض» و معنى قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فتؤمن ببعض و نكفر ببعض كما فعلت اليهود و النصارى بل نؤمن بجميع رسله، و في الآية إضمار تقديره و قالوا: يعني المؤمنين لا نفرق بين أحد من رسله وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا يعني سمعنا قولك و أطعنا أمرك، و المعنى قال المؤمنون: سمعنا قول ربنا فيما أمرنا به، و أطعناه فيما ألزمنا من فرائضه، و استعبدنا به من طاعته، و سلمنا له فيما أمرنا به و نهانا عنه، غُفْرانَكَ رَبَّنا أي نسألك غفرانك ربنا، أو يكون المعنى اغفر لنا غفرانك ربنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ يعني قالوا، إليك يا ربنا مرجعنا و معادنا فاغفر ذنوبنا. روى البغوي بغير سند عن حكيم بن جابر: «أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: إن اللّه عز و جل قد أثنى عليك و على أمتك فسل تعطه».
قال بتلقين اللّه تعالى غفرانك ربنا و إليك المصير. قوله عز و جل:
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 220
[سورة البقرة (2): آية 286]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قيل: يحتمل أن يكون ابتداء خبر من اللّه تعالى و يحتمل أن يكون حكاية عن المؤمنين و فيه إضمار كأنه قال اللّه تعالى عنهم و قالوا: لا يكلف اللّه نفسا إلّا وسعها يعني طاقتها و الوسع اسم لما يسع الإنسان و لا يضيق عليه. قال ابن عباس و أكثر المفسرين إن هذه الآية نسخت حديث النفس و الوسوسة و ذلك أنه لما نزل و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ضج المؤمنون منها و قالوا: يا رسول اللّه نتوب من عمل اليد و الرجل و اللسان فكيف نتوب من الوسوسة و حديث النفس؟ فنزلت هذا الآية. و المعنى أنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة و حديث النفس؟ كان ذلك ما لم تطيقوه و قال ابن عباس في رواية عنه: هم المؤمنون خاصة وسع اللّه عليهم أمر دينهم و لم يكلفهم ما لا يستطيعون. كما قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و قال تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و سئل سفيان بن عيينة عن قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قال: إلّا يسرها و لم يكلفها فوق طاقتها و هذا قول حسن، لأن الوسع ما دون الطاقة و قيل معناه أن اللّه تعالى لا يكلف نفسا إلّا وسعها فلا يتعبدها بما لا تطيق. لَها ما كَسَبَتْ يعني للنفس ما عملت من الخير فلها أجره و ثوابه.
وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ يعني من الشر عليها وزره و عقابه و قيل في معنى الآية: إن اللّه تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره.
قوله عز و جل: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا و هذا تعليم من اللّه تعالى عباده المؤمنين كيف يدعونه و معناه قولوا: ربنا لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا و إنما جاء بلفظ المفاعلة و هو فعل واحد لأن المسيء قد أمكن من نفسه و طرق السبيل إليها بفعله فكأنه أعدى عليه من يعاقبه بذنبه و يأخذه به. إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا فيه و جهان: أحدهما أنه من النسيان الذي هو السهو و هو ضد التذكر قيل: كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطئوا عجلت لهم العقوبة فيحرم عليهم شيء مما كان حلالا لهم من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر اللّه المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك. فإن قلت: أليس فعل الناسي في محل العفو بدليل قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه» فإذا كان النسيان في محل العفو قطعا فما معنى العفو عنه بالدعاء؟ قلت: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن النسيان على ضربين: أما الأول: فهو ما كان من العبد على وجه التضييع و التفريط، و هو ترك ما أمر بفعله كمن رأى على ثوبه دما فأخر إزالته، عنه ثم نسي فصلى فيه، و هو على ثوبه فيعد مقصرا إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالته أما إذا لم يره فيعذر فيه و كذا لو ترك ما أمر بفعله على وجه السهو أو ارتكب منهيا عنه من غير قصد إليه كأكل آدم عليه السلام من الشجرة التي نهى عنها على وجه النسيان من غير عزم على المخالفة كما قال تعالى: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فمثل هذا يجب أن يسأل اللّه تعالى أن يعفو له عن ذلك. و أما الضرب الثاني فهو كمن ترك صلاة ثم نسيها أو ترك دراسة القرآن بعد أن حفظه حتى نسيه فهذا لا يعذر بنسيانه و سهوه لأنه فرط فثبت أن النسيان على قسمين و إذا كان كذلك صح طلب العفو و الغفران عن النسيان. الوجه الثاني من الجواب أن الصحابة رضي اللّه عنهم كانوا من المتقين للّه حق تقاتة فإن صدر منهم ما لا ينبغي فلا يكون إلا على سبيل السهو و النسيان فطلبهم العفو و الغفران لما يقع منهم على سبيل السهو و النسيان إنما هو لشدة خوفهم و تقواهم. الوجه الثالث أن المقصود من هذا الدعاء هو التضرع و التذلل للّه تعالى. و أما الخطأ في قوله أو أخطأنا فعلى وجهين أيضا: أحدهما أن يأتي العبد ما نهي عنه بقصد و إرادة فذلك خطأ منه و هو به مأخوذ فيحسن طلب العفو و الغفران لذلك الفعل الذي ارتكبه. الوجه الثاني أن يكون الخطأ على
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 221
سبيل الجهل و الظن لأن له فعله كمن ظن أن وقت الصلاة لم يدخل و هو في يوم غيم فأخرها حتى خرج وقتها فهذا من الخطأ الموضوع عن العبد. لكن طلب العفو و الغفران لسبب تقصيره و قوله: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً يعني عهدا ثقيلا و ميثاقا غليظا فلا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه و تركه كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود فلم يقوموا به فعذبتهم عليه، و قيل معناه و لا تشدد علينا كما شددت على اليهود من قبلنا و ذلك أن اللّه تعالى فرض عليهم خمسين صلاة و أمرهم بأداء ربع أموالهم زكاة و من أصاب منهم ثوبه نجاسة قطعها و من أصاب ذنبا أصبح و ذنبه مكتوب على بابه. و نحو هذا من الأثقال و الآصار التي كتبت عليهم فسأل المسلمون ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات و العهود الثقيلة و قد أجاب اللّه تعالى دعاءهم برحمته و خفف عنهم بفضله و كرمه فقال تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «و قيل الإصر ذنب لا توبة له فسأل المؤمنون ربهم أن يعصمهم من مثله رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ يعني لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به لثقل حمله علينا و تكليف ما لا يطاق على وجهين: أحدهما ما ليس في قدرة العبد احتماله كتكليف الأعمى النظر و الزمن العدو فهذا النوع من التكليف الذي لا يكلف اللّه به عبده بحال. الوجه الثاني من تكليف ما لا يطاق هو ما في قدره العبد احتماله مع المشقة الشديدة و الكلفة العظيمة كتكليف الأعمال الشاقة و الفرائس الثقيلة كما كان في ابتداء الإسلام صلاة الليل واجبة و نحوه. فهذا الذي سأل المؤمنون ربهم لا يحملهم ما لا طاقة لهم به و استدل بهذه الآية من يقول إن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزا لما حسن طلب تخفيفة بالدعاء من اللّه تعالى.
و قيل في قوله و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به هو حديث النفس و الوسوسة و قيل هيجان الغلمة و قيل هو الحب و قيل هو شماتة الأعداء و قيل: هو الفرقة و القطيعة و قيل هو مسخ القردة و الخنازير نعوذ باللّه من ذلك كله وَ اعْفُ عَنَّا أي تجاوز عن ذنوبنا و امحها عنا وَ اغْفِرْ لَنا أي استر علينا ذنوبنا و لا تفضحنا وَ ارْحَمْنا أي تغمدنا برحمة تنجينا بها من عقابك فإنه ليس بناج من عقابك إلّا من رحمته. و قيل: إنا لا ننال العمل بطاعتك و لا نترك معصيتك إلّا برحمتك، و أصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم و إذا وصف بها اللّه تعالى فليس يراد بها إلّا الإحسان المجرد و التفضل على العباد دون الرقة. و قيل: إن طلب العفو هو أن يسقط عنه عقاب ذنوبه، و طلب المغفرة هو أن يستر عليه صونا له من الفضيحة كأن العبد يقول: أطلب منك العفو و إذا عفوت عني فاستره علي فإذا عفا اللّه تعالى عن العبد و ستره طلب الرحمة التي هي الإنعام و الإحسان ليفوز بالنعيم و الثواب أَنْتَ مَوْلانا أي ناصرنا و حافظنا و ولينا و متولي أمورنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ يعني الجاحدين الذين عبدوا غيرك و جحدوا وحدانيتك. قال ابن عباس في قوله غفرانك ربنا قال قد غفرت لكم. و في قوله: لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال لا أؤاخذكم ربنا و لا تحمل علينا إصرا قال: لا أحمل عليكم و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به.
قال: لا أحملكم و اعف عنا، و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. قال قد عفوت عنكم و غفرت لكم و رحمتكم و نصرتكم على القوم الكافرين. كان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال آمين. (م) عن عبد اللّه بن مسعود قال: لما أسرى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى و هي في السادسة و إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها. و إليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال فراش من ذهب قال فأعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثلاثا أعطي الصلوات الخمس و خواتيم سورة البقرة و غفر لمن لا يشرك باللّه من أمته شيئا من المقحمات. المقحمات: الذنوب العظام التي تولج مرتكبها النار و أصل الاقتحام الولوج. (ق) عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه معناه كفتاه من كل ما يحذر من كل هامة و شيطان فلا يقربه تلك الليلة و قيل كفتاه عن قيام الليل. (م) عن ابن عباس قال بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضا من فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 222