کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 56
قوله: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يعني أنهم أشداء أقوياء في أنفسهم و على أعدائهم يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني أنهم ينصرون دين اللّه وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ يعني لا يخافون عدل عادل في نصرهم الدين و ذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار و يخافون لومهم فبين اللّه تعالى في هذه الآية أن من كان قويا في الدين فإنه لا يخاف في نصره لدين اللّه بيده أو بلسانه لومة لائم و هذه صفة المؤمنين المخلصين إيمانهم للّه تعالى (ق).
عن عبادة بن الصامت قال: بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على السمع و الطاعة في العسر و اليسر و المنشط و المكره على أن لا ننازع الأمر أهله و على أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في اللّه لومة لائم ثم قال تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصفهم بمحبة اللّه و لين جانبهم للمؤمنين و شدتهم على الكافرين و أنهم يجاهدون في سبيل اللّه و لا يخافون لومة لائم كل ذلك من فضل اللّه تعالى تفضل بهم عليهم و من إحسانه إليهم وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يعني أنه تعالى واسع الفضل عليم بمن يستحقه.
[سورة المائدة (5): الآيات 55 الى 56]
قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود و قال: أوالي اللّه و رسوله و المؤمنين يعني أصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم و قال جابر بن عبد اللّه:
نزلت في عبد اللّه بن سلام و ذلك أنه جاء إلى محمد صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه إن قومنا قريظة و النضير قد هجرونا و فارقونا و أقسموا أن لا يجالسونا، فنزلت هذه الآية، فقرأ: عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال عبد اللّه بن سلام: رضينا باللّه ربّا و برسوله نبيا و بالمؤمنين أولياء.
و قيل: الآية عامة في حق جميع المؤمنين لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فعلى هذا يكون قوله تعالى:
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ صفة لكل مؤمن و يكون المراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين لأن المنافقين كانوا يدعون أنهم مؤمنون إلا أنهم لم يكونوا يداومون على فعل الصلاة و الزكاة فوصف اللّه تعالى المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة يعني بتمام ركوعها و سجودها في مواقيتها و يؤتون الزكاة يعني و يؤدون زكاة أموالهم إذا وجبت عليهم.
أما قوله تعالى و هم راكعون فعلى هذا التفسير فيه وجوه:
أحدها: أن المراد من الركوع هنا الخضوع و المعنى أن المؤمنين يصلون و يزكون و هم منقادون خاضعون لأوامر اللّه و نواهيه.
الوجه الثاني: أن يكون المراد منه أن من شأنهم إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و إنما خص الركوع بالذكر تشريفا له.
الوجه الثالث: قيل إن هذه الآية نزلت و هم ركوع. و قيل: نزلت في شخص معين و هو علي بن أبي طالب.
قال السدي: مر بعلي سائل و هو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، فعلى هذا قال العلماء: العمل القليل في الصلاة لا يفسدها و القول بالعموم أولى و إن كان قد وافق وقت نزولها صدقة علي بن أبي طالب و هو راكع. و يدل على ذلك ما روي عن عبد الملك بن سليمان قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عن هذه الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا من هم؟ فقال: المؤمنون، فقلت: إن ناسا يقولون هو علي، فقال: علي من الذين آمنوا.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 57
و قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني و من يتول القيام بطاعة اللّه و نصر رسوله و المؤمنين. قال ابن عباس: يريد المهاجرين و الأنصار و من يأتي بعدهم فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ يعني أنصار دين اللّه هُمُ الْغالِبُونَ لأن اللّه ناصرهم على عدوهم و الحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه و هم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه يعني أهمه.
[سورة المائدة (5): الآيات 57 الى 59]
قوله عز و جل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً قال ابن عباس: كان رفاعة بن زيد بن التابوت و سويد بن الحارث قد أظهر الإسلام ثم نافقا و كان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. و معنى: اتخذوا دينكم هزوا و لعبا هو إظهارهم الإسلام بألسنتهم قولا و هم على ذلك يبطنون الكفر و يسرونه مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود وَ الْكُفَّارَ يعني عبدة الأصنام و إنما فصل بين أهل الكتاب و الكفار و إن كان أهل الكتاب من الكفر لأن كفر المشركين من عبدة الأصنام أغلظ و أفحش من كفر أهل الكتاب أَوْلِياءَ يعني لا تتخذوهم أولياء و المعنى أن أهل الكتاب و الكفار اتخذوا دينكم يا معشر المؤمنين هزوا و سخرية فلا تتخذوهم أنتم أولياء و أنصارا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مؤمنين حقا لأن المؤمن يأبى موالاة أعداء اللّه عز و جل.
قوله تعالى: وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً قال الكلبي: كان منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا نادى إلى الصلاة و قام المسلمون إليها، قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا و صلوا لا صلوا و يضحكون على طريق الاستهزاء فأنزل اللّه هذه الآية. و قال السدي: نزلت هذه الآية في رجل من النصارى كان بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا اللّه و أشهد أن محمدا رسول اللّه يقول حرق الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار و هو و أهله نيام فطارت منها شرارة فاحترق البيت و احترق هو و أهله. و قيل: إن الكفار و المنافقين كانوا إذا سمعوا حسدوا المسلمين على ذلك فدخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئا لم يسمع بمثله فيما مضى من الأمم قبلك فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت الأنبياء قبلك و لو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فما أقبح هذا الصوت و ما أسمج هذا الأمر؟ فأنزل اللّه عز و جل: وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ الآية و أنزل وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ يعني أن هزؤهم و لعبهم من أفعال السفهاء و الجهال الذين لا عقل لهم.
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلم يعني: قل يا محمد لهؤلاء اليهود و النصارى الذي اتخذوا دينك هزوا و لعبا هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا و هذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب و المعنى هل تجدون علينا في الدين إلا الإيمان باللّه و بما أنزل إلينا و بما أنزل على جميع الأنبياء من قبل و هذا ليس مما ينكر أو ينقم منه و هذا كما قال بعضهم:
و لا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهنّ فلول من قراع الكتائب
يعني أنه ليس فيهم عيب إلا ذلك و هذا ليس بعيب بل هو مدح عظيم لهم. قال ابن عباس: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب و رافع بن أبي رافع و عازوراء و زيد و خالد و أزار بن أبي أزار و أشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أؤمن باللّه و ما أنزل إلينا و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 58
و يعقوب و الأسباط- إلى قوله- و نحن له مسلمون الآية فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، و قالوا: و اللّه لا نؤمن بمن آمن به، فأنزل اللّه هذه الآية. و قيل: إنهم قالوا و اللّه ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا و الآخرة منكم و لا دينا شرا من دينكم فأنزل اللّه هذه الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ و هذا هو ديننا الحق و طريقنا المستقيم فلم تنقمونه علينا وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ يعني إنما كرهتم إيماننا و نقمتموه علينا مع علمكم بأننا على الحق بسبب فسقكم و إقامتكم على الدين الباطل لحب الرياسة و أخذ الأموال بالباطل و إنما قال أكثركم لأن اللّه يعلم أن من أهل الكتاب من يؤمن باللّه و برسوله. قوله عز و جل:
[سورة المائدة (5): الآيات 60 الى 63]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ هذا جواب لليهود لما قالوا ما نعرف دينا شرا من دينكم. و المعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين قالوا هذه المقالة هل أخبركم بشر من ذلك الذي ذكرتم و نقمتم علينا من إيماننا باللّه و بما أنزل علينا مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ يعني جزاء.
فإن قلت: المثوبة مختصة بالإحسان لأنها في معنى الثواب، فكيف جاءت في الإساءة؟. قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله: تحية بينهم ضرب وجيع.
فإن قلت: هذا يقتضي أن الموصوفين بذلك الدين محكوم عليهم بالشر لأنه تعالى قال بشر من ذلك و معلوم أن الأمر ليس كذلك فما جوابه؟. قلت: جوابه أن الكلام خرج على حسب قولهم و اعتقادهم، فإن اليهود حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر فقال لهم: هب أن الأمر كذلك لكن من لعنه اللّه و غضب عليه و مسخ صورته شر من ذلك.
و قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ معناه هل أنبئكم بمن لعنه اللّه أو هو من لعنه اللّه و معنى لعنه اللّه: أبعده و طرده عن رحمته وَ غَضِبَ عَلَيْهِ يعني و انتقم منه لأن الغضب إرادة الانتقام من العصاة وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ يعني من اليهود من لعنه اللّه و غضب عليه و منهم من جعلهم قردة و خنازير قال ابن عباس: إن الممسوخين كلاهما أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة و مشايخهم مسخوا خنازير.
و قيل إن مسخ القردة كان من أصحاب السبت من اليهود و مسخ الخنازير كان في الذين كفروا بعد نزول المائدة في زمن عيسى عليه السلام و لما نزلت هذه الآية عيّر المسلمون اليهود و قالوا لهم: يا إخوان القردة و الخنازير و افتضحوا بذلك وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ يعني: و جعل منهم عبد الطاغوت، يعني من أطاع الشيطان فيما سول له و الطاغوت هو الشيطان. و قيل: هو العجل. و قيل: هو الكهان و الأحبار. و جملته أن كل من أطاع أحدا في معصية اللّه فقد عبده و هو الطاغوت أُولئِكَ يعني الملعونين و المغضوب عليهم و الممسوخين شَرٌّ مَكاناً يعني من غيرهم و نسب الشر إلى المكان و المراد به أهله فهو من باب الكناية و قيل: أراد أن مكانهم سقر و لا مكان أشد شرا منه وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ يعني و أخطأ عن قصد طريق الحق.
قوله تعالى: وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا قال قتادة: نزلت في أناس من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 59
فأخبروه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به و هم متمسكون بضلالتهم و كفرهم فكان هؤلاء يظهرون الإيمان و هم في ذلك منافقون، فأخبر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه و سلم بحالهم و شأنهم وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ يعني: إنهم دخلوا كافرين و خرجوا كما دخلوا كافرين لم يتعلق بقلوبهم شيء من الإيمان فهم كافرون في حالتي الدخول و الخروج وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ يعني من الكفر الذي في قلوبهم.
قوله عز و جل: وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلم. و ترى يا محمد كثيرا من اليهود و كلمة «من» يحتمل أن تكون للتبعيض. و لعل هذه الأفعال المذكورة في هذه الآية ما كان يفعلها كل اليهود فلذا قال تعالى:
و ترى كثيرا منهم يُسارِعُونَ . المسارعة في الشيء: المبادرة إليه بسرعة لكن لفظة المسارعة إنما تستعمل في الخير. و منه قوله تعالى: يسارعون في الخيرات و ضدها العجلة، و تقال في الشر في الأغلب و إنما ذكرت لفظة في قوله يسارعون فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ الفائدة و هي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيها. و الإثم اسم جامع لجميع المعاصي و المنهيات فيدخل تحته العدوان و أكل السحت، فلهذا ذكر اللّه العدوان و أكل السحت بعد الإثم و المعاصي و قيل الإثم ما كتموه من التوراة و العدوان ما زادو فيها و السحت هو الرشا و ما يأكلونه من غير وجهه لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني لبئس العمل كان هؤلاء اليهود يعملون و هو مسارعتهم إلى الإثم و العدوان و أكلهم السحت.
قوله تعالى: لَوْ لا يعني هلا و هي هنا بمعنى التحضيض و التوبيخ يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل و الأحبار علماء أهل التوراة و قال غيره كلهم من اليهود لأنه متصل بذكرهم عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ يعني الكذب وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ و المعنى هلا نهى الأحبار و الرهبان، اليهود عن قولهم الإثم و أكلهم السحت لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني الأحبار و الرهبان إذا لم ينهوا غيرهم عن المعاصي. و هذا يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأن اللّه تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية. قال ابن عباس: ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية. و قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
[سورة المائدة (5): آية 64]
قوله عز و جل: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ نزلت هذه الآية في فنحاص اليهودي. قال ابن عباس: إن اللّه قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالا و أخصبهم ناحية فلما عصوا اللّه و محمدا صلى اللّه عليه و سلم و كذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة.
فعند ذلك قال فنحاص: يد اللّه مغلولة يعني محبوسة مقبوضة عن الرزق و البذل و العطاء. فنسبوا اللّه تعالى إلى البخل و القبض تعالى اللّه عن قولهم علوّا كبيرا، و لما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص و لم ينهه بقية اليهود و رضوا بقوله، لا جرم لأن اللّه تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخبارا عنهم: و قالت اليهود يد اللّه مغلولة. يعني نعمته مقبوضة عنا. و قيل: معناه يد اللّه مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بقدر ما يبر به قسمه و ذلك قدر ما عبد آباؤنا العجل.
و القول الأول أصح، لقوله تعالى: ينفق كيف يشاء. و اعلم أن غل اليد و بسطها مجاز عن البخل و الجود بدليل قوله تعالى لنبيه صلى اللّه عليه و سلم وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ و السبب أن اليد آلة لكل
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 60
الأعمال لا سيما لدفع المال و إنفاقه و إمساكه فأطلقوا اسم السبب على المسبب و أسندوا الجود و البخل إلى اليد مجازا فقيل للجواد الكريم فياض اليد و مبسوط اليد و قيل للبخيل مقبوض اليد.
و قوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا يعني: أمسكت أيديهم عن كل خير و طردوا عن رحمة اللّه.
قال الزجاج: رد اللّه عليهم فقال: أنا الجواد الكريم و هم البخلاء و أيديهم هي المغلولة الممسوكة. و قيل:
هذا دعاء على اليهود علمنا اللّه كيف ندعو عليهم؟ فقال: غلت أيديهم أي في نار جهنم. فعلى هذا هو من الغل حقيقة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم و طرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول و معنى لعنوا بما قالوا عذبوا بسبب ما قالوا فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة و خنازير و ضربت عليهم الذلة و المسكنة و الجزية و في الآخرة لهم عذاب النار.
و قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يعني أنه تعالى جواد كريم ينفق كيف يشاء و هذا جواب لليهود ورد عليهم ما افتروه و اختلقوه على اللّه تعالى عن قولهم علوا كبيرا و إنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم.
و أما الكلام في اليد فقد اختلف العلماء في معناها على قولين: أحدهما و هو مذهب جمهور السلف و علماء أهل السنة و بعض المتكلمين أن يد اللّه صفة من صفات ذاته كالسمع و البصر و الوجه فيجب علينا الإيمان بها و التسليم و نمرها كما جاءت في الكتاب و السنة بلا كيف و لا تشبيه و لا تعطيل قال اللّه تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «عن يمين الرحمن و كلتا يديه يمين».
و القول الثاني: قول جمهور المتكلمين و أهل التأويل، فإنهم قالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه، أحدها:
الجارحة و هي معلومة. و ثانيهما: النعمة. يقال: لفلان عندي يد أشكره عليها. و ثالثها: القدرة قال اللّه تعالى:
أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ فسروه بذوي القوى و العقول لا يدلك بهذا الأمر و المعنى سلب كمال القدرة. و رابعها:
الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه و منه قوله تعالى الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أي يملك ذلك، أما الجارحة فمنتفية في صفة اللّه عز و جل لأن العقل دل على أنه يمتنع أن تكون يد اللّه عبارة عن جسم مخصوص و عضو مركب من الأجزاء و الأبعاض تعالى اللّه عن الجسمية و الكيفية و التشبيه علوا كبيرا فامتنع بذلك أن تكون يد اللّه بمعنى الجارحة و أما سائر المعاني، التي فسرت اليد بها فحاصلة، لأن أكثر العلماء من المتكلمين زعموا أن اليد في حق اللّه عبارة عن القدرة و عن الملك و عن النعمة و هاهنا إشكالان:
أحدهما: أن اليد إذا فسرت بمعنى القدرة فقدرة اللّه واحدة و نص القرآن ناطق بإثبات اليدين في قوله تعالى بل يداه مبسوطتان و أجيب عن هذا الإشكال بأن اليهود لما جعلوا قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ كناية عن البخل أجيبوا على وفق كلامهم فقال: بل يداه مبسوطتان. أي ليس الأمر على ما وصفتموه من البخل بل هو جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه فقد أعطى عل أكمل الوجوه.
الإشكال الثاني: أن اليد إذا فسرت بالنعمة فنص القرآن ناطق بتثنية اليد و نعم اللّه غير محصورة و لا معدودة و منه قوله تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها و أجيب عن هذا الإشكال بأن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها مثل: نعمة الدنيا و نعمة الدين و نعمة الظاهر و نعمة الباطن و نعمة النفع و نعمة الدفع. فالمراد بالتثنية، المبالغة في وصف النعمة. أجاب أصحاب القول عن هذا بأن قالوا: إن اللّه تعالى أخبر عن آدم أنه خلقه بيديه و لو كان معنى خلقه لآدم بقدرته أو بنعمته أو بملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم لأن جميع خلقه مخلوقون بقدرته و جميعهم في ملكه و متقلبون في نعمه فلما خص اللّه آدم عليه السلام بقوله تعالى لما خلقت بيدي دون خلقه علم بذلك اختصاصه و تشريفه على غيره. و نقل الإمام فخر الدين
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 61
الرازي عن أبي الحسن الأشعري قولا: أن اليد صفة قائمة بذات اللّه و هي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال و الذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه على سبيل الكرامة لآدم و اصطفائه له فلو كانت اليد عبارة عن القدرة امتنع كون آدم مصطفى بذلك لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق و التكوين على سبيل الاصطفاء هذا آخر كلامه. و أجيب عن قولهم:
إن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع كثيرة بأن الاسم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجمع و لا يؤدي عن الجنس أيضا قالوا و خطأ في كلام العرب أن يقال ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم لأن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما و لكن الواحد يؤدي عن جنسه، كما تقول العرب: ما أكثر الدرهم في أيدي الناس. بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم، لأن الواحد يؤدي عن الجمع فثبت بهذا البيان قول من قال: إن اليد صفة للّه تعالى تليق بجلاله و إنها ليست بجارحة، كما نقول: المجسمة تعالى اللّه عن قولهم علوّا كبيرا يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يعني أنه تعالى يرزق كما يريد و يختار فيوسع على من يشاء و يقتّر على من يشاء لا اعتراض عليه في ملكه و لا فيما يفعله (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: قال اللّه تبارك و تعالى لما أنفق عليك و قال يد اللّه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل و النهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات و الأرض فإنه لم ينقص ما بيده و كان عرشه على الماء و بيده الميزان يرفع و يخفض و هذا الحديث أيضا أحد أحاديث الصفات فيجب الإيمان به و إمراره كما جاء من غير تشبيه و لا تكييف.
و قوله تعالى: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً يعني كلما نزلت عليك آية من القرآن كفروا بها فازدادوا شدة في كفرهم و طغيانا مع طغيانهم و المراد بالكثير علماء اليهود و قيل إقامتهم على كفرهم زيادة منهم فيه وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني: ألقينا العداوة و البغضاء بين اليهود و النصارى. و قيل: ألقى ذلك بين طوائف اليهود، فجعلهم مختلفين في دينهم متعادين متباغضين إلى يوم القيامة، فإن بعض اليهود جبرية، و بعضهم قدرية، و بعضهم مشبهة و كذلك النصارى فرق كالملكانية، و النسطورية، و اليعقوبية، و المارونية.
فإن قلت: فهذا المعنى أيضا حاصل بين فرق المسلمين فكيف يكون ذلك عيبا على اليهود و النصارى حتى يذموا به. قلت: هذه البدع التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبي صلى اللّه عليه و سلم و عصر الصحابة و التابعين.
أما في الصدر الأول، فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيبا على اليهود و النصارى في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ يعني كلما أفسد اليهود و خالفوا حكم اللّه يبعث اللّه عليهم من يهلكهم. أفسدوا فبعث اللّه عليهم بختنصر البابلي ثم أفسدوا فبعث اللّه عليهم طيطوس الرومي ثم أفسدوا فسلط اللّه عليهم المجوس و هم الفرس ثم أفسدوا. و قالوا: يد اللّه مغلولة فبعث اللّه المسلمين فلا تزال اليهود في ذلة أبدا و قال مجاهد: معنى الآية كلما مكروا في حرب محمد صلى اللّه عليه و سلم أطفأه اللّه تعالى و قال السدي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء ليفسدوا به أمر محمد صلى اللّه عليه و سلم فرّقه اللّه تعالى و كلما أوقدوا نارا في حرب محمد صلى اللّه عليه و سلم أطفأها اللّه و أخمد نارهم و قذف في قلوبهم الرعب و قهرهم و نصر نبيه و دينه وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعني و يجتهدون في دفع الإسلام و محو ذكر محمد صلى اللّه عليه و سلم من كتبهم. و قيل: إنهم يسعون بالمكر و الكيد و الحيل و ليس يقدرون على غير ذلك وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ يعني أن اللّه لا يحب من كانت هذه صفته. قال قتادة: لا نلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها و هم أبغض خلق اللّه إليه.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 62
[سورة المائدة (5): الآيات 65 الى 67]
قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و صدقوه فيما جاء به وَ اتَّقَوْا يعني اليهودية و النصرانية لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني: لمحونا عنهم ذنوبهم التي عملوها قبل الإسلام لأن الإسلام يجب ما قبله وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ يعني مع المسلمين يوم القيامة وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ يعني أقاموا أحكامهما بحدودهما و عملوا بما فيهما من الوفاء بالعهود و التصديق بمحمد صلى اللّه عليه و سلم لأن نعته و صفته موجودان فيهما.
فإن قلت: كيف يأمر أهل الكتاب بإقامة التوراة و الإنجيل مع أنهما نسخا و بدلا. قلت: إنما أمرهم اللّه تعالى بإقامة ما فيهما من الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و اتباع شريعته و هذا غير منسوخ لأنه موافق لما في القرآن.
و قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ فيه قولان أحدهما أن المراد به كتب أنبيائهم القديمة مثل كتاب شعياء و كتاب أرمياء و زبور داود و في هذا الكتب أيضا ذكر محمد صلى اللّه عليه و سلم فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم.
و القول الثاني: أن المراد بما أنزل من ربهم هو القرآن لأنهم مأمورون بالإيمان به فكأنه نزل إليهم من ربهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد و ثبتوا على كفرهم و يهوديتهم أصابهم اللّه بالقحط و الشدة حتى بلغوا إلى حيث قالوا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ فأخبر اللّه أنهم لو تركوا اليهودية و الكفر الذي هم عليه لانقلبت تلك الشدة بالخصب و السعة و هو قوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قال ابن عباس: معناه لأنزلت عليهم المطر و أخرجت لهم النبات و المراد من ذلك توسعة الرزق عليهم مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي عادلة. و الاقتصاد: الاعتدال في العمل من غير غلو و لا تقصير. أصله من القصد، لأن من عرف مقصودا طلبه من غير اعوجاج عنه. و المراد بالأمة المقتصدة: من آمن من أهل الكتاب مثل عبد اللّه بن سلام و أصحابه و النجاشي و أصحابه الذين أسلموا وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يعني من أهل الكتاب الذين أقاموا على كفرهم مثل كعب بن الأشرف و رؤساء اليهود ساءَ ما يَعْمَلُونَ يعني بئس ما يعملون من إقامتهم على كفرهم قال ابن عباس: عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى اللّه عليه و سلم.
قوله عز و جل: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية روي عن الحسن أن اللّه تعالى لما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ضاق ذرعا و عرف أن من الناس من يكذبه، فأنزل هذه الآية. و قيل: نزلت في عيب اليهود و ذلك أن النبي صلى اللّه عليه و سلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا: أسلمنا قبلك و جعلوا يستهزئون به و يقولون: تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى حنانا، فلما رأى النبي صلى اللّه عليه و سلم ذلك منهم، سكت، فأنزل اللّه هذه الآية و أمره بأن يقول لهم:
يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية.
و قيل: نزلت هذه الآية في أمر الجهاد و ذلك أن المنافقين كرهوه فكان النبي صلى اللّه عليه و سلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما علم من كراهية بعضهم له فأنزل اللّه هذه الآية.